كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عنه.. عنهما.. قصي الصالح درويش (١٩٥١-٢٠١٤)م وزهير غانم (١٩٤٩-٢٠١٠)م

جهاد نعيسة

كتب لي يوما من "باريس" مقرِّ إقامته أربعين عاماً متتالية:
"لقد درتُ العالمَ كله، لكنني لم أرَ مدينةً أكثرَ جمالا،ً وأكثرَ جنوناً من باريس...
سمعتُ أنك تزوجتَ ابنةَ......
مبروك...!
إنني أدعوكما إلى زيارتي هنا، المدةَ التي تَقِْدرانِ على تَحَمّلي فيها، وأنا مقتدرٌ على ذلك يا جهاد، فأرجوكَ أن تلبي دعوتي".
لم أكن قد فكرتُ يوماً بالزواج من "ابنة...."؛ فهي لم تكن سوى زميلةٍ جامعية وأختٍ عزيزة جداً، ولا تزال، على الرغم من مرور دهرٍ على صداقتنا...!!
لكن، يبدو أنَّ الأخبارَ٠المتداوَلَةَ في ذاك الزمنِ، حيثُ جامعةُ اللاذقيةِ (تشرين لاحقاً) المُحْدَثَةُ، وجوُّ الاختلاطِ الجديدُ على المدينة حينها، كانا كفيلين بنسجِ حكاياتٍ تَقلِبُ الحقائقَ رأساً على عَقِب،ٍ في عدم استيعابها لقضية الزمالة الجامعية، و جدوى، وجمالِ، ونبلِ الصداقةِ النزيهة بين الجنسين.
كان قُصَيُّ معروفاً بكَرَمِهِ الاستثنائي... يشهد له بذلك كلُّ من التقاه هناك؛ إذ لم يكنْ يستقبلُ في منزله الفسيح في باريس، الأصدقاءَ فحسبْ، بل أشخاصاً لم يكن يعرفهم سابقا،ً لمجرد اتصالهم به، ومعرفته أنهم سوريون...
في الثمانينيات والتسعينيات الماضية عَمِلَ مراسلاً خاصاً لإذاعة "مونت كارلو" في "باريس"، التي قَصَدَها بعد إنهائه لإجازة الأدب العربي في جامعة "وهران" الجزائرية، في مشروعِ أطروحةٍ تتناول تجربةَ حنا مينة الروائيةَ، وذلك قبل أن يختلف مع أستاذه الفرنسيِّ المشرفِ على الأطروحة، فيتخلّى عن مشروعه الأكاديمي، نهائياً، ويتفرغ لعمله الإعلاميِّ في "مونت كارلو"، ويزورُ، فعلاً، أهمَّ عواصمِ العالم ومدنِه -كما تَقَدَّمَ-
في مَهَمّاتٍ متلاحقةٍ، ثم يُصدِرُ بالعربية في العاصمة الفرنسية مجلتين مختصَّتَين؛ إحداهما في القضايا السياسية، والأخرى في القضايا السينمائية، وقد تَرَكَ في الحقلَين كتباً ذاتَ شأنٍ،ٍ في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، منها:
"يحدث في تونس"، و"حوارات قصي الصالح درويش مع راشد الغنوشي"، و"قراءات نقدية في أفلام التسعينات"، و"في السينما العربية"... وسواها.
وقد احتلَّ رحيلُه، "مانشيتاتٍ" عريضةً في الكثير من الصحف العربية والفرنسية الصادرة آنذاكَ، منها:
"رحيلُ قصي الصالح درويش خسارةٌ موجعةٌ للصحافة العربية".. "رحيلُ الصحافي والناقد السينمائي المعروف قصي الصالح درويش".. "رحيلُ مبدع كتاب يحدث في تونس.. قصي الصالح درويش".. " الرحيلُ المبكر للناقد السينمائي سوري الأصل، قصي الصالح درويش"... إلخ.
لم يكن قصي مُجَرَّدَ صديقٍ عاديٍّ، بل كان الزميلَ والسند الرئيس في تجربتي الطلابية النقابية في مرحلة الذراسة الثانوية والرفيقَ الحزبي، لسنوات الحماسة والأحلام الوطنية والعربية العريضة، والصديقَ الدائمَ لأجملِ سنواتٍ العمر، وأجملِ أحلامِها ومشاريعها، حيثُ البحرُ اليوميُّ والسباحةُ النهارية، صيفاً، في "مسبح المُعَلِّمين"، وحيث السهرُ في أماسيهِ النَدٍيَّة.
كنا من المشتركين سنوياً في المسبح، لكون والدَينا مُدَرِّسَين..
وقبل هذه وبعد تلك، كنا نخوضُ معاً، أنا وهو والصديقُ الحبيبُ الشاعر والفنان والناقد التشكيلي الراحلُ زهير غانم أجملَ طقوسِ المدينة، وهو المشوارُ اليوميُّ قُبَيلَ المساء على"الكورنيش" الشمالي، الذي كان يَشْهَدُ تَفَتُّحَ عشراتٍ من قصص الحُبٍّ، والحكاياتِ الخَفِيَّةِ المكتومةِ، للقلوب النضيرة لشابات المدينة وشبابها...
ذلك الطقسُ وذلك المسبحُ، اللذان ابتلعهما المرفأُ الغبيٌّ الغادرُ القبيحُ، الذي اقتَرَفَ مشروعَه شخصٌ يفتقدُ بالتأكيد، أدنى إحساسٍ، أو ذوقٍ إنسانيٍّ، أو جمالي.
نعم..."اقترفَ"....
ويا لَفداحةِ ما اقترفتْ يداه وعقلُهُ المريضان بحقِّ المدينة وبحرِها وناسِها..!!
ثم كانَ أن حزنا الشهادةَ الثانويةَ معاً، في دورةٍ واحدة، وغادرْنا القطرَ معاً. ولم يعد قصيُّ سوى مرةٍ واحدةٍ في العام التالي، كي يغادرَ بعدَها في رحلةِ اغترابٍ طويلةٍ تستمر حتى رحيله النهائي، في ذلك العام المشؤوم؛(٢٠١٤)م، فيما عدتُ أنا في صيف العام ١٩٧١م، ولم أغادرْ بعدها، سوى مرةٍ واحدةٍ؛ ذلك أنني عشتُ في وطني ممنوعاً من السفر والعمل حتى هذه اللحظة، خلا سنواتِ العملِ الجامعي الست اليتيمة، القصيرة، المبتورة لاحقاً، بقرارٍ مضحكٍ مبكٍ وفائت الصلاحية، يجيء بعد عشرين عاماً من إخلاء سبيلي: (كانَ سجينا سياسياً).. ويا لَفذاذةِ الاكتشافِ المُفَوَّتِ...!ً
لم يعد بعد ذلك أبداً، الصديقُ الذي عشتُ عقوداً من العمر أحلم بلقائه بعد طول فراق قسريٍّ وقهريّ.
نعم...
لم يكن أيٌّ منا يعلم في ذلك اليوم الذي سهرنا فيه حتى الصباح، أنا وهو والراحل الحبيب زهير غانم، استعداداً لسفره بصحبة والده المدرّس المُعار إلى "وهران"، أنها الليلةُ الأخيرةُ التي ستجمعُنا ثلاثتُنا؛ هو، وزهير، وأنا...!
لم نكن نعلم ذلك أبداً...
أبداً يا زهير، الذي رحل غريباً في بيروت، في آخر يومّ من العام ٢٠١٠م.
أبداً يا قصيّ، الذي رحل غريباً في "باريس" (قاتلةِ الأحبة)، في اليومِ قبل الأخير من الشهر العاشر للعام ٢٠١٤م.
أبدأً.. أبداً.. لم نكن نعلم...!