كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سنون

محمد صباح الحواصلي
جنيف ٢٠ حزيران ٢٠١٩
(إن الزمن ليس مجرد سنوات إنه شيء آخر، ويبدو أقرب إلى الحيرة - عبد الرحمن منيف)
سألني عن الشام أسئلة من يمتحن نفسه ضد النسيان، وأسئلة عن الأماكن التي تغيّرت والتي لا زالت باقية، وسألني تلك الأسئلة المنبّهة التي تبدأ ب: (هل تذكر؟) التي كانت تتراوح بين حلاوة استدعاء الماضي، وقسوة التغيير والهدم..
ثم قال لي رغبة منه بأن نطعّم حديث الذكريات بأنفاس الطبيعة ونبضها:
"أبو أحمد ما رأيك أن نمشي في الحديقة."
نزلنا من البيت، ودخلنا الحديقة المواجهة له. مشينا وكان كل واحد منا متأهباً لمسك ذراع الآخر في حال تعثره بتشققات إسفلت ممرات الحديقة الناتجة عن تمدد جذور الأشجار المعمرة تحتها.
"والله زمان يا صباح.."
"أي والله زمان.. آخر مرة التقينا كان في سياتل منذ خمسة عشر عاماً."
بدهشة قال:
"صاروا ١٥ سنة مو هيك!؟"
"منذ عام ٢٠٠٤"
"زمن.."
وتحدثنا عن خروجه من أمريكا عام ٢٠٠٤ الذي تبعه حديثنا عن السياسة والقمع والزمن والسنين والترحال، وأنه غادر سورية إلى إسبانيا منذ أربعين عاماً، وخروجه من ماربيا جنوب إسبانيا إلى سياتل في أمريكا منذ ثلاثين عاماً. وسألني:
"منذ متى لم ترَ سورية؟
أجبته:
"منذ عام ٢٠٠٨.. أي منذ ١١ عاماً"
"وكم مرة زرتها؟"
"مرتان فقط خلال غربتي التي دامت ثلاثين عاماً: ٢٠٠٤ و ٢٠٠٨"
توقفنا عن سيرنا ثم التفت إليّ ببطء وقال لي وقد انطبعت في عينيه نظرة دهشة من سرعة انقضاء الزمن، وقال:
"أنا لم أر سورية منذ أربعين عاماً."
وصمت وهو ينظر إلي وتابع:
"هناك من غاب عن بلده وكان يزورها.. أما أنا فلم أزرها منذ أربعين عاماً."
قلت له:
"مشتاق إليها يا أبا حسان.. أليس كذلك؟"
"ولم أنسها يوماً.."
توقفنا عن سيرنا ووضع يده على قلبه وتابع قائلاً:
"إنها هنا يا أبا أحمد ولن تخرج من هنا حتى آخر نَفَس بعمري.. لعن الله القمع والغربه.. أحرام أن نعيش في أوطاننا في رغد وكرامة مثل هؤلاء السويسريين؟"
مشينا طويلاً وجلسنا عدة مرات، وكان حديثنا ينعم بإمتداد العشب الأخضر وتنوعات ألوانه بفعل إنعكاسات الشمس عليه، وبالأشجار الباسقة، والناس المستلقية على الحشائش في هذا اليوم المشمس الدافيء، والمشاة الذين لا يخفى اعتزازهم بانتمائهم لهذا البلد.
ثم سألني مداعباً التمني:
"أبو أحمد.. لو عاد الزمن أربعين عاماً إلى الوراء ماذا تغير من مسير حياتك؟"
قلت له:
"أعيد بناء ذاتي من جديد واتجنب الأخطاء."
فقال لي وكأن كلماته تعض على شفاهها أسفاً:

"أما أنا فلن أترك وطني."