كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الخمر

محسن سلامة- فينكس

اعتقدتْ أممٌ كثيرةٌ أنّ نشوة الخمر من صنف النشوة الدينيّة بل إنّها جزءٌ منها، لم تكد تخلو طقوس العبادة لدى هذه الأمم من شرب الخمر، وقد أخذتها كمراسم دينيّة واجبة، تكسبهم الخلود كما نرى عند آلهة الهند، والإغريق، يُطلقون عليها الرّوح، روح الكَرْمِ.
الرّومان اتّخذت آلهة مخصوصة للخمر (ديونيسوس) إله الكَرْمِ،
بعض الأديان تعدّ الخمرة روح الإله ودمه، جاء في إنجيل متّى عن الخمر على لسان السيّد المسيح: خذوا اشربوا منه كلّكم هذا هو دمي.
العرب يسمّونها "الرّاح" من المصدر نفسه الذي ينبع منه لفظ الرّوح.
وقد وعد اللّه بها عباده الصالحين، سورة محمّد، الآية 15، (وأنهار من خمر لذّة للشّاربين).
وقد أجمع النّقّاد على أنّ أبا نُوَاس أوّل شاعر طرق باب الخمر بهذا الشّمول، فقد خلع على الخمرة رموزاً وأوصافاً وأبعاداً روحيّة ودينيّة جعلته رائداً وأستاذاً للمتصوّفة الذين جاؤوا من بعده، وربّما كان ابن الفارض أكثر الشعراء الذين أخذوا عن أبي نواس.
يقول أبو نواس:
أثْنِ على الخمر بآلائها وسمِّها أحسنَ أسمائِها
لا تجعلِ الماءَ لها قاهراً ولا تُسَلِّطْها على مائِها
والخمرُ قد يَشْرَبُها مَعْشَرٌ لَيْسُوا إذا عُدُّوا بأَكْفائِها
في البيت الأوّل نجده قد تَأَثّر بألفاظ القرآن الكريم، ومعانيه، سورة الرّحمن 15: فبأيّ آلاءِ ربّكما تكذّبان، وسورة الأعراف 180: وللّهِ الأسماءُ الحسنى فادعوه بها.
والخمرة عبد النور عند الكثير من الأديان السماويّة، يقول الشاعر أبو نواس: لو مزجت بها النور لفاض الكون بالأنوار.
ولو مزجْتَ بها نوراً لمازجها حتّى تَوَلَّدَ أنوارٌ وأضواءُ
وهذا ابن الفارض يأتي بعد أبي نواس ليقول في قصيدته الخمرة الإلهيّة في تعبير سامٍ عن النزوع إلى الخالق والحبيب محمّد رسول اللّه:
شرِبْنا على ذكرِ الحبيبِ مُدامَةً سكِرْنا بها من قَبْلِ أن تُخْلَقَ الكَرْمُ
يقول أبو نواس:
بكرتْ تبصّرني الرّشاد وشيمتي غير الرّشاد، ومذهبي وخلائقي
و يأتي ابن الفارض من بعده ليقول:
تهذّب أخلاق النّدامى فيهتدي لطريق العزم مَنْ لا لهُ عزمُ
يقول أبو نواس:
فما الطيش إلّا أن تراني صاحياً وما العيش إلّا أن ألذَّ فأسكر
فما الغُبنُ إلّا أن تراني صاحياً وما الغُنْم إلّا أن يتعتعني السكر
ثمّ يأتي ابن الفارض من بعده فيقول:
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحياً ومن لم يَمُتْ سُكْراً بها فاته الحَزْم
وقالوا شربت الإثم! كلّا وإنّما شربت التي في تركِها الإثم
وقال أبو نواس للشاعر مسلم بن الوليد: حسب الديك الصيحة الأولى لتذكيره بأنّ وقت الصبوح قد حان:
ذكرَ الصَّبوحَ بسُحرةٍ فارتاحا وأملّه ديك الصباح صِياحا
شكّ البِزالُ فؤادَها؛ فكانّما أهدتْ إليكَ بريحها تفّاحا
نطلب ما نريد من الخمرة اللذّة، ونغلبها عندما نبدأ الشرب، ولكنّها تصرعنا في النهاية، فيقول أبو نواس:
نغْلِبُها أوَّلاً، وتغلِبُنا فنحنُ فُرْسانُها وصَرْعاها
يقول الشاعر أبو نواس: ما لك وليلى وهند؟ فالخمرة هي العاشق والمعشوق:
لا تَبْكِ ليلى، ولا تطربْ إلى هندِ واشرب على الورد من حمراءَ كالوردِ
فالخمرُ ياقوتةٌ، والكأس لؤلؤةٌ من كفّ جاريةٍ ممشوقةِ القدِّ
تسقيكَ من عينها خمراً،ومن يدها خمراً فما لكَ من سُكرينِ من بُدِّ
وهذا نديمه يوسف يسقيه الخمر، فيقول أبو نواس:
نبّهْ نديمي يوسُفا يسقيكَ خمراً قَرْقَفا
غضَّاً تثنّى أهيفا أنحلَ جسمي دَنَفا
حتّى إذا دارَ الكرى في مقلتيهِ و غفا
قبَّلْتُهُ عشراً على عشرٍ، وعشراً سلفا