كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قصة لم يكتبها سعيد حورانية

لمناسبة مرور ثلاثين عاماً على رحيل الأديب والأستاذ المعلم الكبير سعيد حورانية، الذي غادر دنيانا 4 حزيران 1994، أعاد الأستاذ الأديب حسن م. يوسف نشر هذه القصة التي كتبها عنه عقب رحيله.
======================
قصة لم يكتبها سعيد حورانية
بقلم: حسن م. يوسف
* لذكرى حسيب كيالي استاذ الساخرين العرب
[كان محمد علي الصغير يموت بجلال... ككل شيء عميق وخطر وإنساني. وكان ينتظر انتظار محكوم بالإعدام عصبت عيناه، حدوث شيء غير عادي... وهو كذلك المحكوم أيضاً، قد فقد القلق تجاه الموت، وبقي له دافع واحد هو الفضول الذي يواجه به شيئاً يحسه لأول مرة. ولذلك لم يحقد على الموت، فقد تعود أن يحترم أعداءه!].
* سعيد حورانيه. من قصة (قيامة أليعازر)
مجموعة: {شتاء قاس آخر}
فجأة، وكما حوت أبيض! يبرز عبد الله الصغير من أعماق روحي المعتمة، جليلاً ومهيباً، يشع ضوءاً كما لو انه مدهون بالفوسفور! فجأة أراه في مواجهة الموت فيدهشني التشابه الشديد بين موته وموت كاتب قصته سعيد حورانية! أستعيد المشهدين، الواحد تلو الآخر، مرة تلو أخرى، وفي كل مرة أزداد دهشة واستغراباً... هل يستطيع الانسان أن يسبق موته بحوالي نصف قرن، وأن يصفه بالدقة كما فعل سعيد حورانيه!
(موت الرجل يشبهه)... ربما... لكن تشييع الرجل ودفنه يشبه الآخرين!.
سيارة الموت المستأجرة عادية تماماً. وصوت الناعي المستأجر المشروخ يردد بلهجة عادية تماماً:
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، يرحمنا ويرحمكم الله).
كل شيء عادي، حتى الحر الحزيراني جاء ليؤكد عادية مايجري. كما لو أن (العادي) كان ينتظر هذه اللحظة كي يجرؤ على الظهور أمام عدوه القديم، سعيد حورانيه.
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، يرحمنا ويرحمكم الله).
هاهوذا سعيد حورانية يعود الى حي الميدان الذي خرج منه قبل حوالي نصف قرن خالعاً عاداته وتقاليده كما القميص الضيق. هاهوذا يعود جلداً على عظم بعد أن تحالف عليه سرطان الجسد مع سرطان المجتمع! هاهوذا يُحْمَل الى جامع الدقاق الذي ارتاده كثيراً في طفولته ويفاعته. أسمع صوته يرن في مسامعي:
[درست عن مشايخ جامع الدقاق وكنت تلميذاً لحسن حبنكه، حتى الكفاءة والبكلوريا نلتهما بفضل الجامع. كنت أدرس في الجامع وأنام فيه. هناك غرف للطلاب عادة، وكان لي شيخ يساعدني باللغة والألحان... وهكذا تعلمت الغناء والألحان وسمعت أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب مع المشايخ المتعصبين، لأن هؤلاء كانت لهم علاقة طيبة بالغناء! ونمت حياتي الفكرية والروحية في الجامع...].
يخرج الجثمان من جامع الدقاق، فنتجه نحو مقبرة باب الله، القريبة من ساحة المجاهد الشيخ محمد الأشمر...
[كان الأشمر يرسل في طلبي عندما كان يأتيه وفد من الشام - باعتبار أن حي الميدان كان ضيعة من الشام آنذاك !وبما أنه لايوجد من يستطيع الرد على الضيوف كنت أقف وأخطب ، رغم أني ولدت بعد الثورة: (مرحباً أيها الضيوف الكرام... شرفتم هذه المنطقة التي اشتهرت أيام الفرنسيين بقوتها ونضالها ضد الاستعمار... كذا...) كان صوتي رفيعاً وكنت ولداً أخطب برجال كل واحد له شارب يقف عليه الصقر، ولا أعرف بأي منطق كان كلامي مقبولاً!
لو فعلتها الآن يمكن أن يكسروا رقبتي ويقولوا: حل عنا شو جايب لنا اولاد...] !
يعلو صوت الناعي المستأجر المشروخ مردداً بلهجته العادية:
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، يرحمنا ويرحمكم الله).
أثناء مرور الجنازة أمام أحد المحلات التجارية، يخرج صاحب المحل ويقف أمام الباب. ينظر الى موكب الجنازة بعينين خابيتين ثم ينقل نظره بين الموكب وإحدى الشرفات المجاورة، يفتح باب الشرفة وتطل فتاة حسناء وولد صغير. تتابع الفتاة الجنازة بعينيها، بينما يتابعها التاجر بعينيه، وعندما تنتبه إليه يغمزها. يخيل إلي أنني أسمع صوت سعيد حورانية يغمغم:
- (ليك، العرص، ليك !)
يعلو صوت الناعي المستأجر:
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، الملقب أبو يمان، يرحمنا ويرحمكم الله)!
يفتح باب بيت عربي وتطل امرأة أربعينية في عينيها لوعة وقد هدها الاعياء .تتابع الجنازة بعينين حزينتين، ويبدو من جسدها المكدود الضاوي، أنها تكدح لعائلة كبيرة... ثلاثة عشر ولداً أو أكثر، كأم سعيد، التي قضت بالسل الرئوي [مهملة إهمالاً لاإنسانياً].
يفتح باب إحدى الشرفات، يخرج رجل بدين بطين، ينظر الى الجنازة بحيادية ثم يتثاءب منكفئاً الى الداخل:
[لم أستطع التعاطف مع ناس الحارات ليس لأنه ينقصهم هذا السر الجمالي والسحري، وإنما لأنهم كانوا شهوداً لامبالين على مأساة دمرت طفولتي... أحببت هذه الحارات فكرياً وكرهتها حتى الأعماق غريزياً!].
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، الملقب أبو يمان، يرحمنا ويرحمكم الله).
على الرصيف يقف رجل مترهل، يهم الرجل أن يلحق بالجنازة، كما همَّ بطل قصة (مشروع إنسان) أن يلحق بالمظاهرة! لكنه، مثله، يسير بضع خطوات ثم يتوقف.
أسأل نفسي، ترى هل يوجد بين المشيعين أحد من أبطال قصص سعيد حورانيه؟ أستعرض الوجوه المحاذية لي. يخيل إلي للحظة أنني أرى بطل قصة (الخفاش الأعمى) في لحظة حقيقته... هاهوذا يعترف أن جل الذكريات المثيرة التي اعتاد أن يرويها، إن هي إلا قصص مختلقة، هدفها إضفاء لمسة لون على ايام الرماد.
يخيل إلي أنني ألمح منصور الميداني بطل قصة (المهجع الرابع) يسير بإباء والدم ينزف من أعضائه المهشمة بفعل التعذيب، وخداه محروقان بالسجائر.
يخيل إلي أنني أرى الأستاذ محمود الأدلبي بطل قصة (ثلج هذا العام) الذي تجرأ أن يتحدث عن الحرية وعما يفعله الشيشكلي بالبلاد، فنقل الى بلدة [نائية كنجمة لايكاد يدركها خياله] .
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، الملقب أبو يمان، يرحمنا ويرحمكم الله).
أسأل نفسي لماذا يتجنب الناعي المستأجر الإشارة الى أدب سعيد حورانية! لماذا يتجاهل مئات الشخصيات التي أنجبها في قصصه، وأحبها كما أحب ابنه يمان!
أسأل نفسي، ترى أين تذهب القصص، غير المكتوبة، عندما يموت القصاص؟
أثناء السير خلف الجنازة من جامع الدقاق الى مقبرة بوابة الله، تستيقظ إحدى قصص سعيد حورانيه، غير المكتوبة، في داخلي:
هاأنذا أراه جالساً في صدر الصالون، يكرع العرق من كأس كبير كعادته. يمسح وجوهنا بنظرة سريعة متفحصة، ثم يبدأ الكلام بحيوية مستعيداً ألق اللحظات القديمة التي كان يسرد فيها القصص الشعبي في مضافة والده بحي الميدان. فنتابعه بآذاننا وأعيننا كما لو أنه يحمل شعلة غير مرئية. لقد سمعت هذه القصة من سعيد حورانيه مراراً، وفي كل مرة كانت تبدو مختلفة عن المرة السابقة! لذا لابأس أن تبدو، لمن سمعوها معي، منه، مختلفة هذه المرة أيضاً!.
(أخونا عابدين حماده، استاذ تاريخ قصير نحيل، يرفرف في عينيه طائر الرعب باستمرار وهو يردد بين وقت وآخر، كما لو أنه يخاطب نفسه:
- (إن باريز تستحق قداساً)!
ولأنه كان ألثغ يلفظ السين ثاءً كانت العبارة تبدو مضحكة مثله:
- (إن باريث تثتحق قداثاً )!.
كان جدياً الى أقصى الحدود، لكن الشام كلها كانت تضحك عليه، لأنه عاش حياته، مرعوباً من الموت! كان يكفي أن تذكر الموت أمامه حتى ينخطف لونه! وترتعد فرائصه! ويشمع الخيط فوراً متلفتاً يمنة ويسرة محملقاً فيما حوله بعينين جاحظتين كما لو أنه يسمع حفيف أجنحة عزرائيل وهو يحوم حوله! لذا تراه يسير متلفتاً، منقلاً عينيه بسرعة عجيبة من جهة الى أخرى، كما لو أنه يريد أن يضبط عزرائيل متلبساً بالحومان حوله!.
وهو، إلى ذلك، رجل ضئيل، حاد الصوت، غريب الأطوار، تشعر بمجرد أن تراه أنك لاتستطيع منع نفسك من الضحك! إنه نكتة بشرية تسير على ساقين. وقد كنا، في مقهى البرازيل نتفنن في معابثته، فنحرف اسمه، ونسميه، فيما بيننا: (عايزين حماره)! أو (عايزين... الجاره) لكنه، كان فهيماً بالتاريخ ومجنوناً بالتاريخ الفرنسي، لأنه درس في فرنسا، وهناك علقت بلسانه عبارة: (إن باريث تثتحق قداثاً)! فظل يرددها، طوال حياته، بمناسبة وبلا مناسبة، وظل يتلفت حوله بسرعة البرق حتى وجد نفسه أمام عزرائيل وجهاً لوجه، فمات! وقد أكد لي الطبيب الذي كان يعوده في أيامه الأخيره أن السبب الأرجح لموته هو شدة خوفه من الموت!.
حاصل له، مات أخونا... آخر أيام حكم الشيشكلي: الدنيا قايمة قاعدة! التجول ممنوع... والناس عم تغلي غلي.
لاحظ المفارقة، بين كره أخونا للموت، وموته في زمن عصيب ممنوع فيه التجول!
وبما أن إكرام الميت دفنه، فقد قرر أهل عابدين حماده دفنه، دون تأخير، بالرغم من أن الدنيا كانت على كف عفريت!
يومها كان رجال المخابرات منتشرين بالمنطقة، ولاطيين في الدخاريش، إذ وصلتهم إخباريه أن أعداء حكم الشيشكلي ينوون أن يتسللوا لاحتلال مبنى الاذاعة، متنكرين على شكل جنازة مزورة!
لهذا ماأن وصلت جنازة عابدين حماده الى الشارع الرئيسي حتى فتح رجال المخابرات نيران بنادقهم ورشاشاتهم عليها، فرمى الناس التابوت أرضاً... وهربوا مرعوبين!
حاصل له، تقدم رجال المخابرات من التابوت باحتراز وتحوط، متوقعين أن يجدوه مليئاً بالأسلحة والذخيرة والمتفجرات الفتاكة، لكنهم عندما رفعوا غطاء التابوت وجدوا صاحبنا أبو (باريث تثتحق قداثاً)... ميتاً ومكفناً! فرموا غطاء التابوت أرضاً وتراجعوا مرعوبين! وهكذا بقي تابوت صاحبنا مرمياً في الشارع حتى جاء بعض أقاربه، فأخذوه ودفنوه.
يطلق سعيد حورانية ضحكة طويلة طيبة من الأعماق... ويردف قائلاً:
(قصة عجبة! تصوروا، الشخص الذي مات مرعوباً من الموت! أرعب المرعبين بعد أن مات!).
يعلو صوت الناعي المستأجر:
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، الملقب أبو يمان، يرحمنا ويرحمكم الله).
تتابع الجنازة سيرها البطيئ نحو مقبرة باب الله .
أقول في سري، من المؤكد أن سعيد حورانية كان يحب هذه القصة كثيراً، ولولا ذلك لما رواها لنا المرة تلو الأخرى ليضحك ويضحكنا معه! فلماذا لم يكتب سعيد حورانيه هذه القصة ياترى؟ خاصة وأنها قصة قديمة من أيام الشيشكلي، أي انها ترجع لبداية تألقه ككاتب قصة. أسمعه يجيب متهكماً:
[... كنا نبحث عن أدب ثوري لايبقي ولا يذر! أما حسيب كيالي فكان يتابع تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة بحثاً عن النكتة. وكنا نرى فيما يكتبه قصصاً ظريفة لاأكثر. مع أنه بدأ بداية رائدة في القصة السورية... ولكننا في ذلك الوقت لم نفهمه بشكل صحيح. بل واضطهدناه... أما هدفنا الأعلى فقد كان قصة ثورية مدمرة، تزن أربعة قنابل ذرية!].
نقترب من بوابة المقبرة فيزعق الناعي المستأجر بصوت قبيح حاد:
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، الملقب أبو يمان، يرحمنا ويرحمكم الله).
فجأة أحس بضوء هائل يغمرني، يمتص أبعاد الأشياء من عيني ويذيبني في بياض مبهر حرَّاق! فجأة يبرز تابوت سعيد حورانيه من قلب البياض المبهر طائراً من تلقاء نفسه نحو بوابة المقبرة.
فجأة أرى غطاء التابوت ينقذف بعيداً بفعل رفسة قوية من داخله، وأرى سعيد حورانيه ينهض من داخل التابوت ممزقاً كفنه صائحاً فينا بصوته المشروخ:
- العمى ضاربكن! لوين آخدينِّي!)
يزعق الناعي المستأجر بصوت أكثر قبحاً وحِدَّةً:
- (ترحموا على المرحوم محمد سعيد حورانية بن حسني، الملقب أبو يمان، يرحمنا ويرحمكم الله).
أحس أن قبضة سوداء باردة تصعد من أعماقي لتسد حلقي! ألتفت الى جانبي فأرى صديقي القاص محمود عبد الواحد يحدق أمامه بذهول. أقول له:
- (قبل لحظة رأيت سعيد حورانيه يرفس غطاء التابوت ويخرج منه صارخاً فينا... (العمى ضاربكن! لوين آخدينِّي!).
فيجيبني محمود بصوت متهدج:
- (رغباتنا لها عيون).
تموز 1994
ملحوظة:

كل ماهو بين [...] مأخوذ بحرفيته من سعيد حورانية.