كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ديك الجن

كان ديك الجن في رفقة صديقه الأثير بكر، يتنزهان في البساتين ويشربان تحت ظلال النخيل، ساقتهما أرجلهم إلى اقتحام أحد الأراضي التي كانت تابعة لأحد الأديرة المنتشرة في ذاك الوقت على أرض الشام. فوجدا بعض النسوة الجميلات يحتفلن ويتسامرن في إحدى المناسبات الدينية، وكانت من بينهن امرأة جميلة تتغنّي بأبيات من شعر «ديك الجنّ» نفسه، وكانت القصيدة يختلط فيها الغزل بذكر رموز دينية، وكانت أبياتها تقول:
عساكِ بحق عيساكِ مريحة في قلبيَ الشاكي
فإن الحسن قد أولا كِ إحيائي وإهلاكي
وأولعني بصلبانٍ ورهبان ونسَّاكِ
ولــم آت الكنائس عن هوى فيهن لولاكِ
حرَّكه التغنّي بكلماته، فأصدر صوتا لفت له النساء، لكنه خرج سائلا عن قائل القصيدة، غير آبه بتهديداتهن بأن ينادوا أصحاب الدير. فأجابته الفتاة أن «ديك الجنّ» هو الشَّاعر. ولمَّا أخبرها أنه نفسه «ديك الجنّ»، شككت فيه وصرَّحت بأن «الجن» شهم ولا يتجسس. ومع إصراره، طلبت منه أن يرتجل أبياتا على وزن القصيدة. ولمَّا أنشدها، طلبت منه أن يغييرها مرَّات تلو الأخرى، وفي كلِّ مرة يظهر لها مقدرته. وأخيرا اقتنعت الفتاة، وتدعى «ورد» أنه هو ذاك الشاعر الفذّ، ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل أغرمت به وتحابا، ثم طلبها للزواج، فما كان منها إلاأن وافقت على الفور. ولحبَّه الشديد لها، وافقت أيضا على تغيير عقيدتها عندما طلب منها. بعد الزواج، عاش «ديك الجنَّ» معها أيام رغد وسعادة وهناء دائمة، وانتشر خبر قصَّة حبهما الصادقة في أصقاع المدينة، تماما مثل قصَّة «عطيل» و»ديدمونة»، لكن «إياجو» الرواية العربية، كان أبو الطيب ابن عمّ «ديك الجنَّ»، الذي كان بعيدا كل البعد عن الطيبة، فقد نهشت الغيرة قلبه، وحاول مرَّات تلو الأخرى التودد لـورد، إلا أنها كانت تصدُّه في بادئ الأمر باللين، وفي نهاية المطاف بالطرد الصريح، فما كان منه إلَّا أن دبَّر مؤامرة خبيثة؛ فانتهز فرصة أن ابن عمه مدين له ببعض النقود، وطالبه بالسداد الفوري. ولمَّا أعرب الأخير عدم المقدرة، نصحه أبو الطيِّب أن يسافر ويمدح الكبار في الشام فيعطونه المال. وبعد السفر، ذهب أبو الطيِّب إلى ورد، وحاول أن يعتدي عليها. ولمَّا طردته، دبَّر مكيدة مخافة أن تحكي لزوجها عن خيانة ابن عمّه. وبمجرَّد أن علم أبو الطيِّب أن «ديك الجنّ» قد رجع من سفرته، وأنّه على أطراف حمص، أشاع الغادر أن «الجنّ» مات في الرحلة، وأوصى صديق ابن عمّه أبو بكر أن يخبر ورد. وأمَّا هو، فقد انتظر لحظة وصول «ديك الجنّ» وأخبره أن زوجته تخونه مع صديقه الحميم. ولمَّا بلغ «الجن» داره، وجد صديقه على باب زوجته يبكيان بحرقة، فظنّ أنهما يبكيان بسبب قدومه هادم الملذَّات، فسحب سيفه وقتلهما. أمَّا هو، فقد قضى بقيَّة حياته هائما وقد شتّ عقله، ولم يعلم ببراءة زوجته إلا عندما اعترف أبو الطيِّب بجرمه على فراش الموت.
التاريخ الإنساني يتكرر، وكذلك زلَّات البشر، ولا فرق في هذا بين الشرق والغرب. ويجنح الأدباء لتصوير قصص واقعية في أعمالهم آملين أن يتَّعظ البشر، ويا ليتهم يتَّعظون!
من مقال بعنوان:
"عطيل العرب ديك الجن"

نعيمة عبد الجواد