كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

امرؤ القيس والعذارى

د. فكتوريا سعود

ذات مساء من عام١٩٨٦ دعيت إلى منزل لأعاين مريضاً من الأطفال، الذين كنت أعالجهم من هذه الأسرة الطّيبة، المتميّزة أدباً، وعلماً، وكرماً، وأخلاقاً. وإذا بي وجهاً لوجهٍ أمام قامةٍ فارعةٍ، مازالت رغم تقدّمها في السنّ مكتنزة البنيان، مشدودة، تقف بكبرياءٍ كأشجار السّنديان. وكنت للمرّة الأولى ألتقيه، وقد صدق حدْسي، عندما عرّفوني به… وكان دمثاً، لطيفاَ، فارتحت إليه. وسألني عن بعض أهلي، فأحسست على الفور بالرّغبة الدّفينة، والشّوق القديم لمحادثته.
كان هو إذن بشحمه، ولحمه، وإرثه الشّعري، حامد حسن معروف… أيّة صدفةٍ جميلةٍ عرّفتني بشاعرٍ عبقريٍّ من ريف طرطوس؟! وأنا المفتونة بديباجته السّاحرة، ورقّة ألفاظه، وموسيقى أشعاره، التي سرعان ما تجد ترنيمةً لها، وقد ذابت روحك بقراءتها!
قلت له: أنا معجبةٌ جدّاً بجمال أشعارك، وحفظت كثيراً منها مذ بدأت أتذوّق الشّعر، وأغنّيه، ثمّ أحفظه… وها أنا الآن أُسمعك قصيدةً من ديوانك الرّائع ”عبق“ وبدأت أنغّم:
أزِفَ التّرحلُ فالمُطهّمَةُ العِتاقُ الهوجُ تْسْرجْ
والفاتناتُ الهيفُ سكرى الدُّلِ تبسُمُ للمُدَجّجْ
هذي على قتَبٍ يُدغْدِغها الهجيرُ وتلك هودجْ
الى آخر القصيدة الرّائعة...
سُرّ الشّاعر ممّا سمع، فأجزل الثّناء، وارتاحت أساريرُه، وبدا لي وكأنّه قد تُوّجَ لتوّه في مهرجانٍ شعريٍّ كان السّباقَ فيه والمُجلّي، ثمّ أردف قائلاً: ”أنت يا بنتي ذواقّةٌ تعرفين ماذا تقرئين من الشّعر وتحفظين“. وأنا بدوري شكرت الشّاعرَ الكبيرَ قائلةً: هذه القصيدة حفِظْتُها عن ظهرِ قلبٍ مذْ كنْتُ في الصّفِ السّادس الابتدائيّ، وما زلت أردّدها. فهي بحقٍّ ملحمةٌ من عيون الشّعر العربيّ الحديث المؤرّخ، الموسيقيّ، الرّشيقِ، والفاتن. فقد أفاضت وأبدعت بوصف الشّاعر الجاهليّ أمرئ القيس ومجونه، وإصرارِه على الأميرة، والتي هي من قرابته أن تخرج إليه ”عاريةً، فتأبى“ لكنّها تنصاع أخيراً "كسيرةَ النّظراتِ غضبى“ لتنقذ العذراوات من الماء الذي ”يهصرهنّ مفتوناً فيثمل“، وقد ”اتّخذن الماء ساتر“…
مرّةً أخرى دُعيت إلى منزل ولده الدّكتور المهندس عدنان معروف لأقوم بواجبي الطّبيّ، ولكن مع تحذيرٍ من أمّ عمّار بخفّة دمٍ تَسِمُها في أحاديثها: ألّا آتي على ترديد أشعار عمّها مرّةً أخرى. ولمّا أصابتني الدّهشة قالت: بسبب قصيدة ”امرؤ القيس والعذارى“ كان لنا بعد خروجك نصيبٌ من التّقريع والملامة… فقط، لأنّنا لا نحفظ أشعاره كما تحفظين…