كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قدر الكتابة.. قدري الذي اخترت

توفيق بن ابراهيم صويلحي- تونس- فينكس

يحمل عنوان هذا الأثر ما يشبه المفارقة .فما المفارقة؟
تشير المفارقة إلى ما يجري ضدّ الرأي المقبول وهي إثبات مباغت يناقض الأحكام المسبقة ويرجّ العادات الفكريّة المألوفة ويصدمها وهي تتضّمن ربطا بين أمرين متنافرين كأنّها تحاول أن تقيم تناغما بين أمرين متباعدين أو كأنّها تريد لفكرتين متناقضتين أن تتصاحبا وأن تتعالقا. نقصد هنا تصاحب القدر والاختيار وتعالقهما.
وزيادة على ذلك فإنّ المفارقة التي ترافق العنوان (قدري الذي اخترت) تطلق كذلك ما يشبه التحدّي والتطاول وهو تطاول يذكّر بما كان كانط عاينه حين أشار إلى تطاول البشر،كسلا وخمولا، على الحكمة الإلهيّة واشتباههم في العناية الإلهيّة (لِمَ حُكِم علينا بالعمل؟ لِمَ قُدِّر لنا أن نشقى وأن نتعذّب؟ ما ضرّ الآلهة لو هيّأت لنا كلّ ما نحتاج فلا نحتاج أن نعمل؟)...
فليكن أنّ في هذا الأثر من التطاول ما فيه، فلعلّ هذا التطاول الذي يصاحب الأثر يشهد على أنّ كلّ أثر تطاول على الوجود، لمّا كان الوجود ظهورا واختفاء، انكشافا واحتجابا،... ولعلّ ما يبقى هو ما يقيمه الكاتب وما يؤسسه الشاعر والمفكّر تحديدا....
يشير القدر إلى ما لا نستطيع أن نغيّره وما لا نستطيع أن نُبدّله فهو ينتسب إلى مملكة الضرورة فيما يشير فعل الاختيار إلى ما يُمكن أن يُتحرّى وأن يُنتقى وأن يُصطفى وأن يُؤثر فهو إحالة على مملكة الحريّة. يقيم الكتاب /الأثر إذن بين الضرورة والحريّة وتتدرّج الكتابة بين المستحيل والممكن. ذاك قدرها.
لكنّ العنوان يزيد حين يُجرّد القدر من سمته الكلية ليلحقه بذات جزئيّة هي الذّات الكاتبة. فالكاتب لا يحفل بالقدر بإطلاق، مطلق القدر، وإنّما بقدر مخصوص هو قدر من يكتب، قدري. لكأنّ الكتابة تتصيّد القدر فلا تُقبل عليه إلّا متى تعتّق ونضج وأزهر وأثمر. فهل يكون حرّا من يعتقد أنّه لا يستطيع أن يُبدّل القدر، قدره؟ وهل أشدّ حريّة من ذاك الذي يتجرأ على القدر؟ هل أكثر حريّة من ذاك الذي يغامر باختيار قدره؟
فإذا كانت الحريّة هي رهان التحدّي وإذا كان التحرّر هو موجب التطاول فهل نستكثر على الكتابة مداهمتها للقدر واحتفاءها به؟
ربّما كان قدر الكتابة أن تكتب قدرها، أن تصنعه أو تستحدثه، أن تستقدمه أو أن تدعه يُقبل،أن تستدرجه على نحو متدرّج حتّى ينعطي لها دونما عناد أو مقاومة. ذاك شأن الكتابة الأصيلة المتملّكة لما يشغلها سواء أصيغت شعرا أو فلسفة أو ترجمة ذاتية. وليست هذه الكتابة،أعني الترجمة الذّاتيّة، مبتذلا لكلّ يد كما قد يُظنّ ولا هي ملقاة على قارعة الطريق، فهي محتاجة، ككلّ كتابة مبدعة، إلى رسّام وإلى نحّات وهي محتاجة إجمالا إلى خبير ألِف الإصغاء إلى الكلمات.
هكذا نفهم نزوع "القدر" إلى بسط أوراق اعتماده حين يعمد إلى تبرير مشروعه وتشريع إشكاليته ليمنحها الوجاهة ويكسبها معناها ومداها. وإنّا لواجدون هنا تماثلا ما بين "القدر" و"القصيد": فكما أنّ انشغال الفيلسوف بالشّعر محتاج إلى تبرير، لمّا كانت تتخطّفه المؤاخذات، فانّ الإقبال على الاعتراف محتاج هو الآخر إلى تبرير بحكم الاعتراضات التي يمكن أن تترصّده.فهل من باب الصدفة أن يجري تذكير الغافلين والمتغافلين بما رافق الفلسفة من نظر في الشّعر من أرسطو إلى هيدقير؟ وهل من باب التحكّم أن تجري الإشارة إلى ما رافق الفلسفة من كتابة همّها الاعتراف من القدّيس أوغسطين إلى روسو؟
وإذا أقدمت الكتابة على ممارسة الاعتراف بل وردّته إلى أبسط ظهورا ته وأوردته هكذا عاريا وربّما ساذجا فهل ينال ذلك من كبرياء الفكر؟ وهل ينحدر به من علياء أصالته فيمسّ نضجه المفترض؟ وإذا حدث أن نطقت دخيلتنا، أن أنطقت الكتابة دخيلتنا، ورشحت حميميتنا، وتداعت فيوضاتنا وتنادت...
وإذا قرّرت الكتابة أن تمتح من هشاشتنا وأن تتغذّى من حروق من ينسجها ويرسمها ويصقلها فيخرجها إلى النّاس في أبهى صورة فهل نشتبه فيها كما لو أنّها ضلّت النهج الأمثل وأضاعت البوصلة؟ وهل يُستفاد من ذلك ضرورة أنّ الكتابة زاغت عن قصدها وصافت هدفها أم أنّ قدر الفكر، الفكر الأصيل،أن يترنّح وأن يتموّج وأن يعرج، وأن يرقص ويلعب قال نيتشه، إن أراد أن يتماسك وأن يستقيم؟
الترجمة الذّاتية، أحد أقدار اللغة كما قال باشلار عن الشّعر ولا يمكنها أن تكون سليلة "الثقافة العامة"، ذلك أنّ الكاتب، وقد اختار قدره، إنّما قرّر أيضا أن ينأى بكتابته عن "كَتبة اليوم"، اؤلئك الذين لا يزعجهم ولا يحرجهم أن يكتبوا الكتب انطلاقا ممّا يُقال، ساعتها تقع الكتابة بعيدا عن "الأنهج المطروقة والسبل الموثوقة" كما يقول "الإستشكال".
تلتفت الترجمة الذّاتية إلى الماضي وتحاور الذّاكرة ولكنّها لا تكون ضرورة أسيرة السّرد والتأريخ. قد تتغذّى من السّرد والتأريخ لكّنّها قد تبرع في نحت المفهوم وصياغة التصوّر، وإن كان المفهوم لا يستغرق الفلسفة، وإن كانت الفلسفة لا تُستفرغ في التصّور ولا تُردّ بأسرها إليهما. ذلك أنّ الفلسفة تقبل أن تصاغ قصّة ورواية وترجمة ذاتيّة بل لعلّ كلّ فلسفة، وفق الحفر الجنيالوجي، ترجمة ذاتية وضربا من الاعتراف ينتظم حول حياة صاحبها.
يقول نيتشه: "لقد أودعت دائما في كتاباتي كلّ حياتي وكلّ شخصي. أنا أجهل ما يمكن أن تكونه المشاكل الفكريّة الخالصة".
ربّما كان الأنسب إذن أن نرى الفلسفة على نحو آخر، وأن نرى في الفلسفة، أبعد من اللغة التصوّريّة النّسقيّة الباحثة عن الحقيقة، وأبعد من الحرص على إرغام الحقيقة على الانضواء في نسق، ارتياضا على الحياة وتدرّبا على العيش مراهنة على جمالية وجود تُجمّل الحياة وتمنحها لونا وطعما ومذاقا. فهل نستكثر على المرء ساعتها أن يلتفت إلى الحياة إجمالا، وإلى حياته تخصيصا، ليغترف منها القليل القليل من العمق والحكمة؟
تباشر الترجمة الذاتية الاعتراف على نحو يكاد لا يدع شيئا خارج الفلسفة. الاعتراف بما هو عودة إلى الذات للإفصاح عمّا استدخلته وبما هو رجوع إلى الأنا لاستخراج ما اكتنزه. الاعتراف بما هو إقامة في قلعة ذاتيّة وتحصّن بها. الاعتراف بما هو استكناه للكيان ابتغاء للشفافية والعراء وبما هو نحت للذّات وصقل لها. لكنّ أجمل ما كان الاعتراف حين ترسل الكتابة صلاة لمنارات حملت المشعل قبل الكاتب. لحظتها تنحني الكتابة إجلالا لأسماء وإكبارا لشخصيات متميّزة، شخصيات أخلاقيّة كبيرة كما كتب برغسون ضمن "المنبعين" انتقشت بكيان الكاتب واستولت عليه. تلك الشخصيّات التي اكتنفت الصبّي واحتضنته فتذوّق جهتها لذّة التعلّم،تلك الشخصيّات التي هندست خطواته الأولى، خطواته الأولى الواثقة نحو العلم والفكر والشّعر، تلك الشخصيّات التي وجّهت الشابّ الفتيّ ومنحته ما يشبه الدفعة الحيويّة...
ثمّ تنعطف الكتابة نحو التأمّل، كأنّ قدرها،وقد أنطقت ما يعتمل في أعماقنا، أن تصغي قبل أن تفكّر وتُعبّر، فإذا كلّ ما ينتسب، بالقوّة أم بالفعل، إلى الفلسفة ماثل أمامها ينتظر أن يُقال ويستجمع أناقة عبارة تنثال في خُيلاء وصرامة انثيال الحياة أمامنا. فنحن نجد ضمن "القدر" تأملات موضوعها الصداقة وأخرى موضوعها المحبّة وأخرى موضوعها الشّعر وأخرى موضوعها الحرب والسياسة والموت مثلما نجد تأمّلات موضوعها التعليم/التدريس والتربية والبيداغوجيا وغيرها كثيرا.... كأن لا خارج للفلسفة، أو كأنّ لا شيء يظلّ خارج الفلسفة إلّا ما لم يُفلح العقل في استدراجه حيث الفلسفة أو ما قَصُرَ الفكر عن أن يُسلّط عليه نظرا فلسفيّا ولم توفّق اللغة في أن تقوله.
أفق الفلسفة إذن هو أفق الكتابة والنّظر. فمن أفقه يُطلّ الكاتب على المنزلة الحاسمة لتعلّم الألسن لدى المتعلِّم إن رام تحصيل تكوين متين، "ليس أكرهَ عنديّ من أحديّة اللّسان" يقول "القدر".ذلك أنّ إتقان اللغات هو مفتاح المعرفة والعلوم (وهذه فكرة ظلّ أستاذنا، مذ عرفناه ومن "أوّل أمره وريعان عمره" يرّددها على مسامعنا ويمارسها في عمله)، ومن الأفق عينه يجري إجلال من علّموه ودرّسوه: "كان المعلّم دائما مثلي الأعلى. وعندما أتذكّر المعلّم تحضرني في كلّ مرّة رجفة المُتعلّم الذي يفهم فجأة. وينفتح قلبه على معرفة جديدة، طارئة، قادمة من الخارج، يُطبق عليها مع ذلك وجدانه، ويشهد في فرح صامت على أنّه لم يعد يتمثّل فقط بل يفهم كذلك. ما أعجب شأن التعليم حين يكون هذا الانتقال اللّحظيّ بين المُعلِّم والمتعلِّم لأُنس التمثّل الذي يفهم.وإنّ أيّ تعلّم لا يقع في قلب مودّة أو صداقة لهو تعلّم لا يدوم ولا يبقى". (حبر وألواح).
وفعلا كيف يستقيم التدريس إنّ لم تمتدّ جسور الثقة بين من يَدرس ومن يُدرّس وإن لم تنعقد ألفة بين من يٌعلّم ومن يتعلّم؟ الثقة والألفة والصّداقة والمحبّة تلك شروط إمكان الفعل التربويّ النّاجح والنّاجع كما تقول قيم هذا الزّمان... أَمَا كتب أوغسطين: "أحبّ وافعل ما شئت"؟
فإذا ما استقام الحبّ في فضاء الدّرس، أمكن تذليل الكثير من الحواجز النفسيّة وكسرها، تلك الحواجز، الفعليّة منها والوهميّة، التي كثيرا ما حبست من الطّاقات ما حبست لدى المتعلّم. وإذا ما قامت الصداقة في "ساحات المدرسة" أمكن قهر الكثير من الأوهام وسَهُل التوجيه والإرشاد والإسناد.ساعتها ينهض الّتصادي، بما هو تجاوب نفسي، بين المعلّم والمتعلّم ويقوم التعاطف فتُغلب علل العطالة وتُزاح.تلك هي مهمّة المعلّم الأصيل العارف بدقائق عمله: "لا يدري المعلّمون مدى ما تعني المرافقة الحريصة للمتعلّم. لا يدرون أنّ ترجيع الصّدى هو خشبة نجاة من بحور الحيرة و الشكّ وتوثيق للخطو لا نجاح من دونه" (حبر وألواح ص 163)
الفعل التربويّ إذن، في العمق، فعل ترافق وتصاحب. إنّه لقاء نشهد ضمنه انتقالا للعدوى: أن يُغرم من يُدرّس بعمله وأن يُشيع ذاك الغرام بين من يستمعون إليه ويشهدون درسه، فلعلّ أجمل العدوى،في هذا السياق، هي تلك ّالعدوى المتعلّقة بحبّ الكتب وحبّ الفضاءات المخصّصة لها.هاهي المكتبة أشبه بالمعبد الذي يستلزم الهدوء والصّمت: "لكنّ دخول المكتبة قد كان عندي دائما دخولا إلى معبد من الصّمت والهدوء" (حبر وألواح ص 133).
لقد صارت المكتبة محرابا يهرع إليه كلّ ذي شوق إلى المعرفة ولكن تربية الشّوق ليست بالأمر الهيّن فهي تحتاج من يبذر ومن يتعهّد البذرة بالعناية والرعاية. ذلك وجه من وجوه المرافقة التي أشار إليها "القدر". فإذا ما بلغت الرّسالة المتعلّم صارت مشعلا يُتوارث ويُتناقل. فهل أبرع من معلّم ارتسم في قلوب من درّسهم؟ هل أقدر من معلّم بات وشما في عقول من عُهِدَ إليه تعليمهم؟ هل أكفأ من مثل هذا المعلّم؟
حبّ الكتب أيضا يقبل أن ينتشر وأن يمتدّ وأن يتّسع وأن يسري في الأنفس وهو يقبل كذلك أن يُورّث: "لا أشكّ لحظة اليوم في أنّي توفّقت في نقل محبّة الكتاب إلى طلبتي" (حروق القيروان ص222). فهل آنس من الكتاب؟ وهل أوحش من أفهام صدئة؟ وحتّام يظلّ المرء متبرّما ممّا يشحذ روحه ويصقلها ومنصرفا عمّا يشكّل ذاته؟
هكذا تحتفل الكتابة بالكتب وتثّمنها. لكنّ منعطفاتها كثيرة ومنعرجاتها عديدة وإن كانت متعاضدة ومتساندة، لكأنّ قدرها ألاّ تطرح أيّ بعد من أبعاد الوجود الإنسانيّ، لكأن قدرها أن تستجمع شتات الوجود الإنساني وأن تُظهر، في كلّ مرّة، أنها لا تستقيم إن هي طمست أيّ بعد وأنّها لن تتقوّم إن هي طرحت أيّ جهة أو أسقطتها. لا شيء في الوجود قابل لأن يُطرح كما لو كان عديم الشأن، لا يجب أن ُيفلت من الكتابة أيّ شيء إن أرادت الكتابة أن تقول الوجود، لا الفلسفة ولا الشّعر ولا المسرح ولا السينما.... فهذه كلّها تجارب متنافذة ومتحالفة تحاول بوسائلها الذّاتيّة أن تقول الشيء ذاته لأنّ ما يُحرّكها واحد: ألغاز الوجود واِلتباساته.
لا غرابة إذن إذا ما جنحت الكتابة، وهي تلاعب الوجود وتداعبه، إلى الشّعر لتتشابك أجناس الكتابة وتتعاشق. تغازل الترجمة الذّاتيّة الشّعر وتراوده فهي تعترف بأنّ كلّ ما في الوجود يستنهض الشّعر ويٌحفّزنا إليه وبأنّ كلّ ما في الحياة مداخل إلى الشّعر: "يحرّكنا الوجود إلى الشّعر، يحرّكنا الموت اليوميّ، تحرّكنا قسوة المعتدي، وابتسامة الأحبّة، وتحرّكنا نسمات الصّيف التي تهدهد أعناق الأزهار الرّقيقة وكأنّما تداعب بها شغاف قلب كأوتار الكمان، لا ينتظر أن تداعبه القوس لينطق بأنغام الحياة التي تصل الأرض بالسّماء". (حبر وألواح ص 91).
تلامس الترجمة الذّاتيّة الشّعر حالما تشرع في مغازلة اللغة. كأنّها تأمل هي الأخرى، ألاّ تغرق في الجزئيّ والخصوصيّ لتعانق الكونيّ والإنسانيّ: "الشّعراء في كلّ لغات العالم هم أبناء لغة جامعة ليست هي العربيّة أكثر ممّا هي الفرنسيّة أو الإسبانيّة.. لأنّهم يختطّون كلماتهم في الوجود، وفي سَداة الإنسانيّة الجميلة،وفي إيقاعها الجميل" (حبر وألواح ص 90).
لكنّ الكتابة تصبح ألطف وأدقّ وأعمق عندما تبلغ الحميميّ وعندما تصطدم بلغز المعيّة/ لغزالوجود مع الآخرين فيستغلق أبسط ما يمكن أن يجمع الكائنات ويلوح إشكاليّا: "ما ينشأ بين النّاس من الاستلطاف أمر لا نستطيع التنبؤ بمداه ولا بأسبابه ولا بآفاقه" (حروق القيروان ص 185).
ساعتها ينتابنا الاندهاش وتتملّكنا الحيرة حيال حدث الوجود" نحن أيضا الذين كنّا نظنّ أنّا نفهمه ها نحن في قلب الحيرة من أمره"...

ذاك الاندهاش الذي حرّك الفلسفة دائما من أقصاها إلى أقصاها. ذاك الاندهاش الذي هو قدر الكتابة.