كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الطاوية، فلسفة وديانة

مروان حبش- فينكس

قام المجتمع الصيني على خليط عجيب من الدين والأخلاق والفلسفة، وكان يستمسك بالخرافات، وأيضاً كثير التشكك وعظيم التُقى، وكثير الانصياع لحكم العقل والدنيوية والتحرر من سيطرة الكهنة، ويسعد ويشقى بآلهته. إنها متناقضات لا تفسير لها إلاَّ بالقول بأنه ربما كان لفلاسفة الصين نفوذ كبير، وبالإقرار بضآلة معين الأماني الخيالية.
يعتقد الصينيون أنَّ في العالم مبدأ نظام، يُعرف بالطاو "إذْ توجد في أعماق كل تصورات الطاو، مفاهيم النظام، والكلية، والمسؤولية، والنجع. وتدل (كلمة الطاو على النظام الاجتماعي، الذي تعبر عنه مجموعة المنجزات).
وأن الطاو هو نظام العالم، والمبدأ الخالد الذي تصدر عنه كل الحوادث، والوحدة أعلى مستوى من الكثرة، والعالم إنما ينشأ عن اتحاد مبدأين الـ "يانغ"، و "الين"، وليست الحوادث إلا مظاهر فقط. ومن الممكن فهم الكائنات الأخرى، لأن الإنسان كان من قبل، يتواصل معها في وحدة الوجود. والطاو يعني، أيضاً، الحياة، والطريق، والسبيل.
يقيم الفكر الصيني فاصلاً بين هذين المبدأين اليانغ "المبدأ المذكر" والين "المبدأ المؤنث" وعندما يخلط اليانغ والين سائليهما، عندئذ تنشأ الكائنات. ومن التعابير ما يذكَرُ بذكرى الأعياد البدائية: اليانغ ينادي ويدعو، والين يجيب ويستجيب. وإن ذلك ينطبق على الكائنات الحية وعلى الطبيعة كلها. فاليانغ هو الشيء الخارجي "الظاهر، والحرارة، والشمس، والجانب المشمس، والصيف. أما الين فهو الشيء الداخلي، والبرد، والرطوبة، والجانب المظَّلل، والشتاء. والنظام الاجتماعي مضمون بحكم الاتحاد بين المبدأ المذكر، والمبدأ المؤنث: "فمرة الين، ومرة اليانغ، ذلك هو الطاو".
ولكي يجد الإنسان هذه الوحدة يجب أن "يتقيأ الذكاء" ويعتمد على "الحدس والتركيز، وفن العيش من أجل الحياة، والتشبه بالماء الذي يتخذ كل الأشكال، ويتقبل كل شيء، ويعكس كل شيء".
كانت الكونفوشية ديانة بسيطة تنطبق، إلى حد ما، على مقتضيات العقل، ولا تفسح المجال واسعاً أمام خيال الناس، ولا تشبع الخرافات التي تبعث البهجة في حياتهم اليومية، ولا إجمال الحقائق الواقعية العادية بخوارق الطبيعة ولا بالإحساس بأن آلافاً من الأرواح الطيبة والخبيثة ترفرف من حولهم في الهواء المحيط بهم وفي الأرض التي تحت أقدامهم، وردُّ عداوتها او استعانتها بالأدعية وبالرقى السحرية. بينما كانت نفوس غالبية الصينيين تنزع إلى التصوف، وتبتعد عن النزعة العقلية الجامدة التي تسود العقائد الكنفوشية، وتتوق إلى عقيدة تجد فيها سلوى دائمة تُحْيي موات النفوس.
إن الأديان في الصين ليست محدودة مانعة، ولذلك لم تدفع البلاد إلى حروب دينية، فأنصار كل دين متسامحون مع أتباع كل دين آخر، وليس هذا التسامح مقصوراً على شؤون الدولة السياسية بل هو في العقائد نفسها، فالصيني العادي يكون من عبدة مظاهر الطبيعة وطاوي وبوذي وكنفوشي في وقت واحد، وأكبر ما يهتم به ويريده هو دين يضمن له السعادة وأن يعيش بخير في هذه الدنيا.
تعود العقيدة الطاوية إلى مفكر عميق -ما زال وجوده التاريخي محل خلاف- هو، "لاو- تسو الحكيم الكهل"، وبعده، فإن أكبر ممثل لهذه العقيدة هو "تشو- وانغ- تسو"، وكانا يعيشان حول نهاية القرن الرابع قبل الميلاد.
إن "معلم المعلمين، والحكيم الكهل لاو- تسو" الذي يعتبره أتباعه أعظم بكثير من الكلاسيكيين، وينسب إليه كتاب (طاو- تي- تشينغ)، الذي يمكن إيجاز حكمته الكاملة في هذا القول: (أولئك الذين يتكلمون لا يعرفون- أولئك الذين يعرفون لا يتكلمون). وكان الطاوي "تشو-وانغ- تشي" يقول: (يجب أن يكون المرء خارج الحياة كي يرى أسرارها، لأن من يوجد في الحياة لا يلاحظ منها إلا ظواهرها)، ومنهم من يعتبره "لاو- تسو" ذاته. وهو أكثر الفلاسفة الطاويين عمقاً، وكان يبدي احتراماً كبيراً لـ "لاو- تسو". وكان لكتابه (القانون الحقيقي) قدر كبير من الأهمية.
كانت العقيدة الطاوية الغامضة ميتافيزياء عميقة، قبل أن تصبح ديناً شعبياً، إذ عمد بعض الفقهاء الشعبيين إلى صياغتها تدريجياً في دين جديد. وأقبل كثيرون على هذا الدين، وشادوا الهياكل، وأغدقوا المال على كهنته بسخاء عظيم، ومزجوا به جزءاً من قصصهم الشعبي الخرافي الذي لا ينضب له معين، واتخذوا من (لاو- تسي) إلهاً يعبدونه، وقالوا إن أمه حملت فيه حملاً سماوياً، واعتقد المؤمنون البسطاء أنه وُلِد كامل العقل طاعناً في السن لأنه أقام في بطن أمه ثمانين عاماً. ويرى بعض المؤرخين أنه مجرد شخصية أسطورية نُسبت إليه أصول الفلسفة الطاوية، وتقول الرواية أو الأسطورة حسب اعتقاد البعض، إن (لاو- تسي) قرر أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، الهجرة من الصين إلى الهند هرباً من القلاقل والحروب، فطلب منه حرس بوابة المدينة "ين شي" أن يضع لهم كتاباً يختصر فيه كل حكمته قبل الرحيل، فأنجز كتابه (طاو- تي- تشينغ، أي طريق القوة) الذي يتضمن واحداً وثمانين قصيدة قصيرة تلخص أفكاره وتجسَّدت فيها، ونشأ منها فلسفة وعقيدة الطاوية.
لقد كانت الطاوية طريقة للحياة (الطاو: الطريق/ السبيل/ المبدأ الذي هو مصدر ونمط ومضمون كل شيء موجود في الحياة) تهدف إلى السلام الشخصي على وجه الأرض، ولكن الفقهاء الشعبيين من الصينيين لم يؤلهوا هذه الطريقة أو يتخذوها نوعاً من العبادة، كما أنهم لم ينظروا إليها على أنها ثمن يؤدونه في الدنيا ليشتروا الحياة في الدار الآخرة. كان هذا المفهوم حتى القرن الثاني بعد الميلاد، حيث عُدِلت هذه العقائد على يد أشخاص ادَّعوا أنهم قد وصل إليهم عن طريق (لاو- تسي) نفسه إكسير يهب شاربه الخلود - ويبدو أن بعض من تعاطاه أسرف في شربه مما أودى بحياته- كما أن بعض رجال الدين الطاويين كان يدعي قدرته على شفاء المرضى بطلسم بسيط نظير خمس حفنات من الأرز، وقيل للذين لم يثمر فيهم العلاج إن إخفاقه كان نتيجة لضعف إيمانهم.
والطاوية لم تكن ديانة موحدة، وصنفها بعض الباحثين إلى أقسام ثلاثة (فلسفية- تدينية- دين شعبي) ويؤمن الطاويون بوحدة الوجود، أي أن الخالق والمخلوق شيء واحد لا تنفصل أجزاؤه وإلاَّ لاقى الفناء، والإله عندهم أبدي، وهو أصل الموجودات. وأتباع الطاوية يؤمنون بتعدد الآلهة، ويقدسون الأسلاف.
تؤكد الطاوية على العيش في وئام مع الطاو، وهو فكرة أساسية في معظم المدارس الفلسفية الصينية، وهو المبدأ الذي هو مصدر ونمط ومضمون كل شيء في الحياة. وفي الطاوية كامل الانضباطات والسلوكيات التي تحقق الكمال من خلال أن يندمج الفرد مع إيقاعات الكون غير المخطط لها والتي تسمى (الطريق، أو السبيل). والأخلاق الطاوية تميل إلى التأكيد على العمل بدون نية أو غرض مسبق الـ (وو- وي). وعلى حياة طبيعية وعفوية وبسيطة، بالإضافة إلى الكنوز الثلاثة: الرحمة والتقشف والتواضع.
إن من يبلغ الطاو يدرك الوحدة الباطنية لكل الأشياء ويشعر بأنه محمول بالإيقاع الكوني، وبالموجة القوية للتيار الحياتي وتصبح جميع الأشياء بالنسبة له تجليات الطاو. وقد وجد البعض في الطاوية الفكرة القائلة بأن الحكيم، عندما يصل إلى الطاو، يبلغ الخلود، وبالتالي، فإنه ينجو من الموت.
إن الفضائل الأساسية للعقيدة الطاوية، هي: الاقتصاد، وبساطة الوجود، ثم التواضع، والامحاء، وتقديم الخير حتى لمن يفعل الشر. وعلى السياسة أن تضمن للناس حياة هادئة.
إن نزوع الطاوية إلى الحياة بصورة منسجمة مع الطبيعة، كانت تهدف إلى تأخير الموت، باتباع أساليب صحية، تشتمل على عدد من القواعد الصحية، والتنفسية، والجنسية.
تسمح هذه الأفكار بفهم الانتقال من فلسفة عليا، إلى ديانة شعبية، وهي تهدف إلى تأجيل الموت، وما البحث عن أكسير لإطالة الحياة، والعرافة، والسحر، والجئومانسية (أي دراسة المكان الأكثر ملاءمة للبيوت، وفي قبور الأجداد خاصة) إلا بديلاً عن التأملات الميتافيزيائية لدى اساتذة الماضي.
كان "لاو- تسي" يركز على إقحام مفهوم الطاو في الأفكار الاجتماعية والسياسية لتحقيق السلام والازدهار، وخصص كثيراً من وصاياه للحكام، وقال: (إذا اتبع الملوك والنبلاء أحكام الطاو، فلن تستطيع حتى الأشباح والأرواح أن تزعجهم)، مطالباً إياهم بتجنب الصدام مع شعوبهم ومشدداً على رفض الحروب، وضرورة العمل الدؤوب على تجنبها بكل وسيلة ممكنة.
ترتبط فلسفة الديانة الطاوية بالسلام، وتعتقد بحلول كائنات روحية في الكون تتنوع بين طرفي الخير والشر، وهي أقرب إلى الآلهة، وقد يعود بعضها إلى الأسلاف الغابرين.
في التراث الصيني تُكتسب التربية بتدريب "العقل- القلب"، وبذلك يقول ثاني عظماء الطاوية "تشو- وانغ- تشي" إن "العقل- القلب" زاخر بالأفكار والميول والمشاعر التي تعوق تعلق الذات بما تختص به من طاو (طريق/سبيل)، ووظيفة القلب- العقل هي تمهيد السبيل لاتحاد الذات التام بما تختص به من طاو لرقي الذات، ويسلط الطاويون النظر على تهذيب ذات الفرد ويعدون النظام السياسي نتيجة له.
إن المقصد الخارجي للعقيدة الطاوية بحسب "لاو- تسي" هو إرشاد الحاكم إلى فن التفرغ بالكلية للشرط الطبيعي الذي يمكن الناس من التصرف بعفوية. ويرى "تشو- وانغ- تشي"، ضرورة الحاجة إلى سياسة عامة في التناسق، وذلك بترك الوقوف عند الاختلافات التي تخلق الصراع.
تدعو الطاوية الإنسان ليهمل متطلبات المجتمع المحيط، وأن يبحث فقط عن الأشياء التي تمكنه من أن يتناغم مع المبادئ المؤسسة للكون، وهذا التناغم يوجب اجتناب كل الأفعال غير الخاضعة للطبيعة. والإله عندهم ليس بصوت ولا صورة، وهو أبدي، لا يفنى، ووجوده سابق وجود غيره وهو أصل الموجودات وروحه تجري فيها، وهم يؤمنون بالقانون السماوي الأعظم الذي هو أصل الحياة والنشاط والحركة لجميع الموجودات في السماء والأرض.
تقدس الطاوية أرواح الموتى، والتقرب للآلهة الخالدين، كما تحتفي بالتنجيم حفاوة بالغة، وبمهام الكهنة التي كانت تتداخل بما كان يمارسه العرافون والشامات والسحرة من قبل. وتحظر الطاوية طقوس تقديم القرابين الحيوانية لأرواح الموتى والآلهة على السواء، وتكتفي بقبول حرق بعض النباتات والبخور. كما تحتفي بـ "الفاجيتو" الذي يمثل مفهوم الاتحاد بين المبدأين المتعارضين الـ "ين واليانغ" ويؤدي تفاعل الطاقة بينهما لنشوء الكون والحياة وتعدد أشكالها، وصراع الأضداد يشمل كل مناحي الحياة.
يجب على الطاوي أن ينظف نفسه من جميع الشوائب والمشاغل ليوجد في داخله فراغاً هو الحقيقة لامتلاء نفسه، وذلك بالوصول إلى الحقائق المجردة عن طريق التجرد من الماديات ليصبح روحاً خالصة. ويحيي أتباع الطاوية في الصين، وماليزيا، وكوريا، واليابان، وفيتنام، وستغافورة أعيادهم كل سنة باحتفالات كرنفالية صاخبة، فيطلقون الألعاب النارية، وينظمون مسيرات ملأى بالزهور، وينفذون رقصات الأسد والتنين، كما يرتدي بعضهم دُمى تمثل الآلهة الأسطورية، ويقدمون استعراضات الرياضة القتالية "الكونغ- فو".
إن مجموع عقائد الديانة الطاوية تجعل من الصعب تحديد ماهيتها بدقة، وتكثر في عقيدتها التعبيرات المجازية وتتعدد احتمالات التأويل، ولا تقدم مفهوماً واضحاً للألوهية، ولا وصفاً لشعائر العبادة.
ظلت العقائد الطاوية قروناَ عديدة عقيدة الملايين من الصينيين وكثير من الأباطرة، وحاك أتباعها كثيراً من الدسائس، وكافحوا أشد الكفاح لينتزعوا من الكنفوشيين حقهم المقدس في فرض الضرائب وإنفاق حصيلتها. وقضت عليها آخر الأمر ديانة كانت أقدر منها على إلهام رجل الشارع وبعث السلوى في نفسه، وكانت هذه الديانة هي البوذية التي بدأت تنتقل من الهند إلى الصين في القرن الأول الميلادي، وهي غير بوذية بوذا القائمة على الزهد والتقشف، بل كانت عقيدة تدعو إلى الإيمان في غبطة وبهجة بآلهة تعين البشر على أعمالهم، وجنة ذات أزهار ورياض، وغمرت الصين بآلهة جدد، واتخذت على توالي الأيام صورة "الماهيانا، المركبة الكبرى: أي التنور الكامل" من أجل نفع أكبر عدد من الكائنات الحاسَّة.
لقد احتضنت الطاوية الدين الجديد، وامتزجت به، ثم اضمحلت البوذية أيضاً، بعد أن دبَّ الفساد في سلوك الكهنة، وتغلغل في عقائدها كثير من الأرباب المشؤومين والخرافات المؤذية، وقضي على ما كان لها من سلطان سياسي بسيط.