كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مقتطف من دراسة مطولة تحية إلى لغتنا في يومها السنوي

جمانة طه- فينكس

لم يكن الحديث عن الخطر الذي يحيط باللغة العربية أكثر جدية مما هو عليه في هذه المرحلة، ولاسيما أن الأمة العربية تواجه حاليًا تحديات جسامًا لا عهد لها بها في هذا العصر. تحديات تسعى إلى تقويض الانتماء القومي من خلال غزو ثقافي يستهدف اللغة والدين والثقافة. إلى جانب أمور أخرى لا تقل أهمية عن هذه التحديات، ومنها اندفاع الشباب العربي صوب مجتمع المعلومات الذي يعتمد النظام الغربي لغة وأسلوبًا. فمع النمو الإعلامي وانتشاره، وتطور التقنيات الحديثة وانتشارها، زالت معظم الحواجز بين الأمم، وتغلغلت التقنية في أشكال الفن المختلفة وفي اللهجات والكلمات وكل ما يصلنا من أخبار.
نقرّ جميعًا، بأننا نعيش أزمة لغوية طاحنة. فعلى الرغم من وضوح أعراض هذه الأزمة وجسامة آثارها، وكثرة المؤتمرات والندوات واللجان والتوصيات التي عقدت بشأنها، ما زالت الحلول غير ناجعة وحاسمة لأننا لم نتمكن من تشخيص دائنا اللغوي. فتارة نوجه الاتهام للمدارس بسبب محتوى المادة التعليمية، وأساليب التعليم ومنهجياته، وتارة للمجامع اللغوية التي تنتقي من إشكالية اللغة العربية ما تقدر على تناوله لا ما تحتاج اللغة إليه فعليًا. وتارة إلى الإعلام الذي أصبح معظم مذيعيه يفضلون التحدث باللهجة المحلية. "وتارة إلى اللغة نفسها وإدانتها، تحت زعم أنها تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر. فاللغة هي الجسر الواصل بين خصوصية الذات، وعمومية الموضوع. تترجم ما في ضمائرنا من معان، وتوجه أداء المجتمع وسلوك أفراده وجماعاته ومؤسساته. وإذا كان علماء اللغة قد عرَّفوا اللغة في معاجمهم بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، فهنالك من يرى أنها تنظيم معين من الإشارات تهدف إلى الاتصال والتوصيل. فهي قدر الإنسان الاجتماعي، تكشف عن طبقته وجذور نشأته، مثلما تكشف عن عقليته وقدراته وميوله الفكرية. وهي "شريكة ثدي الأم في إيضاح وعي الصغير، مثلما هي راعية المتعلم وملهمة المبدع وهادية المتلقي. ومن يريد أن يتعرف إلى ثقافة أي أمة أو تراثها، عليه أن يعود إلى لغتها لأنها بلا منازع من أبرز السمات الثقافية إن لم تكن أبرزها. فما من حضارة إنسانية، إلّا وصاحَبَتْها نهضة لغوية. وما من صراع بشري إلّا ويبطن في جوفه صراعًا لغويًا، حتى قيل إنه يمكن صياغة تاريخ البشرية على أساس من صراعاتها اللغوية.
بعد مجيء تكنولوجيا المعلومات والهندسة الوراثية وانتشارها، احتلت اللغة رأس الهرم المعرفي، وصارت رابطة العقد للخريطة المعرفية والركيزة الأساسية لفلسفة العلم. وشاهدنا على ذلك اللغة الإنكليزية، التي لولا انصباب معظم علوم العصر والتكنولوجيا في قوالبها، لما كان لها هذا الشأن الكبير على الساحة الدولية: تقنيًا وإعلاميًا.
في الثلث الأخير من القرن الفائت، تحولت اللغة إلى أداة أيديولوجية مهمة وذلك حين فرضت القوى السياسية وقوى المال والتجارة الناطقة بالإنكليزية، سيطرتها على أجهزة الإعلام الجماهيري التي أصبح وابل رسائلها يفعل ما كانت تفعله في الماضي منصات الصواريخ الموجهة. وما تم في تلك السنوات وفي السنوات التي تلتها التي سيطرت فيها لغة السلاح ووسائل الإعلام، يثبت أن اللغة الفاعلة هي الشعوب الفاعلة في ركب الحضارة الإنسانية. وبما أن اللغة كما ذكرنا تحمل سمات المجتمع، فهذا يعني أنها ترتبط بالمجتمع الذي تعيش فيه، تؤثر فيه وتتأثر به. ترافقه وتمثل صورة صادقة عنه، تعبر عن تطوره أو انحطاطه. إنَّ ما ذكرته عن أهمية اللغة الفصيحة ودورها في تعزيز وجود الأمة، لا يقلل من حضور العامية ودورها في الحياة والمجتمع. فاللهجات هي لسان العامة، في العالم كله وعند الأمم جميعها. وهي كذلك في المجتمعات العربية، قديمًا وحديثًا.
وقد عرفت اللغة العربية منذ نشأتها ظاهرة الثنائية، بسبب تعدد الأقوام الذين أتوا إلى أرضها واستقروا فيها. فاللهجات المحلية، كانت دائمًا موجودة إلى جانب الفصيحة. وكان كل قوم من العرب في الجزيرة العربية، يتكلمون بلهجة تخصهم وتعبر عنهم، ولم يتوحدوا لغة إلّا بعد نزول القرآن الكريم بلغة قريش. حاول الاستعمار أن يستغل هذه الظاهرة الطبيعية الصحية ويحارب اللغة بلهجاتها المتعددة، ليقلل من أصالة الأمة. وما إحياء العاميات المحلية والقطرية في وسائل الإعلام، إلّا هدف استعماري يسعى إلى تمزيق كيان الأمة في كيانات مصطنعة وضعيفة. وقد اشتدت هذه الهجمة على الأمة ولغتها واستشرت، حتى وصلت كما نرى إلى حملات عسكرية وإلى اتفاقيات سياسية تغزو الديار العربية وتحتلها.
ومن نافل القول إن العامية أو الدارجة التي بها نتكلم ونتواصل في حياتنا اليومية الاجتماعية، هي لغة عربية، حروفها عربية ومفرداتها عربية واختلافها عن الفصيحة يكمن في أسلوب تركيب هذه المفردات في عبارات وجمل. فالفصحى والعامية، هما شكلان من أشكال اللغة. تطور كل منهما تاريخيًا، في خضم تأثيرات متبادلة وبخاصة مع تطور الحياة الاجتماعية في مختلف ميادينها. وهذا التطور سار بهما نحو التقارب، على أساس أن مبدأ الضرورة هو الذي يفرض نفسه بوصفه المعبر دائمًا عن حاجات الناس. وعندما انتشر الإسلام، واختلط المسلمون بأقوام البلدان التي فتحوها، تغيرت اللغة وتطورت وأصابها التجديد، بفعل التلاقح مع اللغات الأخرى. فمال الناس إلى اللغة المزيج من الفصيحة والدارجة، ومارسوها لغة في تخاطبهم اليومي. وهذا يشير إلى أن ميلاد لغة واشتقاقها من ثنايا علاقات لغوية أخرى، هو في حقيقته ميلاد اشتقاق أسلوب حياة اجتماعية جديدة تجد أداة تعبيرها في هذه اللغة المُوَلَّدة.