كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الشارقة.. سمو الثقافة من سمو أميرها

أُبي حسن

للشارقة مكانة خاصة في ذاكرتي ووجداني، فمذ وطأت ثراها واستنشقت هواءها وشربت من فراتها، بتُ أهواها. وعلى الرغم من قصر إقامتي فيها إلّا أنها كانت فترة كافية لتعطيني صورة مكثّفة عن طيب شعبها ورقيه وسمو سمو شيخها.. أما طيبة الشعب ورفعته فلعمري هاته لم تأت من فراغ، إذ ينطبق عليها الحديث النبوي الشريف "كما تكونون يُولى عليكم"، فلو لم يكن كبير القوم قدوة في الصلاح والتقوى والإصلاح لما كان الشعب بمثل هذا الرقي والانضباط.

معذرة، إذ كنتُ لا أستطيع الحديث عن ذاك البلد الحبيب دون الحديث عن سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، فلولاه لما كانت الشارقة الآن قبلة الثقافتين العربية والإسلامية، ولما كنتُ تشرّفت بزيارتها، ولما كان -أساساً- ثمة مبرر للكتابة عمن اُشتق اسمها من الشروق والإشراق، فكانت ومازالت اسماً على مسمى.

في مثل هذا الشهر من عام 2007 ذهبت بصحبة من كانت أُماً ثانية لي، أعني الراحلة إلهام عدوان، رفيقة درب مُعلمي الشاعر الراحل ممدوح عدوان، إلى تلك الإمارة بغية المشاركة في "معرض الشارقة الدولي للكتاب"، وكنتُ حينئذ أعمل في دار ممدوح عدوان للنشر.. في المعرض، وكان برعاية سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، رأيتُ سموه داخلاً إلى المعرض، وما لفت انتباهي أنّه جال على جميع أجنحته رغم كثرتها واتساع المساحة التي تحتلها، كان في مشيته وقار يجلله صمت مع هيبة، وعندما أتى "دار ممدوح عدوان"، صافحته الراحلة إلهام عدوان وبادلته حديثاً ودياً قصيراً فحواه الشكر والامتنان لاهتمام سموه بالمعرض، من جانبي نظرتُ في عينيه، كانتا تشيان بمعرفة وفكر عميقين وحزن دفين لم يمنعه عن إيلاء الثقافة مكانة عليا في إمارته.. لم أتجرأ -ربما بسبب هيبته- على الاقتراب منه أكثر كي أصافحه وأبادله حديثاً عابراً ولو من باب الفضول، وإن كنتُ أؤمن في أعماقي أنه أهل لكل مكرمة وفضيلة..

 المؤكد أن الشيخ سلطان ترعرع على العلم، وتربى على الفضائل وحب المعرفة والشغف بها منذ نعومة أظفاره، لذا ليس غريباً عنه أن يولي الثقافة هذه الأهمية، فالمعروف أن سموه قصد الكويت ومصر -في بواكير عمره وشبابه طلباً للعلم والمعرفة، وكان قد بدأ بتلقي التعليم العام في سنة 1948 وهو ابن تسع سنوات في مدرسة الإصلاح القاسمية، ولنا أن نتصور الظروف القاهرة التي كانت سائدة ذياك الزمن القاسي في الشارقة وسواها من مدن وإمارات أهلنا في الخليج الغافي على أهداب عروبتنا والساهر للذود عنها، وهي ظروف تمّ تجاوزها -على مستوى الشارقة- بالإرادة والقيادة الحكيمة والإدارة الرشيدة لسمو الشيخ القاسمي الذي نهض بالإمارة من خلال قيادته لدفة التنمية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية فيها عقب تسلمه للحكم ذات يوم مبارك من عام 1972 (وهو يوم التاسع من ذي الحجة 1391 الموافق ليوم عرفة)، كما بذل سموه جهوداً جبارة لتشجيع التفاعل الثقافي محلياً وعربياً ودولياً وبين الشعوب كافة، هذا ما تترجمه عملياً المكانة الدولية المرموقة التي بات يحتلها معرض الشارقة الدولي للكتاب (على سبيل المثال لا الحصر) ذاك المعرض الذي انتقل بجهود جبارة وإصرار ومثابرة وعن جدارة من مجرد حاضر في المشهد الثقافي العالمي إلى صانع وصاحب مشروع ورؤية في مجال صناعة الكتاب وبالآتي المعرفة على مستوى العالم، بدليل أن معرض هذا العام (2023) استقطب نصف دول العالم!.. بهذا المعنى ليس مستغرباً أن تصبح الشارقة عاصمة دائمة فعلية للثقافتين العربية والإسلامية، وهنا يتوجّب توجيه الشكر لجميع القائمين على الشأن الثقافي في الشارقة بدءاً من دائرة الثقافة ورئيسها، وهيئة الشارقة للكتاب، وليس انتهاء بمدير هذا المهرجان الثقافي أو ذاك، فبفضل جهودهم مجتمعين وتحت قيادة سمو شيخ الثقافة وراعيها استحقت الإمارة أن تكون فعلاً عاصمة لثقاقتينا العربية والإسلامية...

شعرت بسعادة غامرة، عندما هاتفتني -قبل أسابيع- الزميلة سعاد زاهر لتخبرني أنها في الشارقة، وثمة "معرض الشارقة الدولي للكتاب"، وسيعقبه "مهرجان الفنون الإسلامية" ترغب بتغطيتهما، ونشر تقاريرها عنهما في فينكس، ومبعث سعادتي ليس فقط لأن فينكس ستتزين باسم "الشارقة" تلك الإمارة الغافية على حنين الخليج، وليس لكوني سأتشرّف كناشر لوسيلة إعلامية متواضعة بالمساهمة (ولو رمزياً) بنشر الثقافة والمعرفة التي تنشرها تلك الإمارة في جهات الأرض الأربع فحسب، بل كونها دغدغت حنيني إلى شارع جمال عبد الناصر (وللاسم دلالته التي لا تخفى على ذي بصيرة) وأنا أعبره للسوبرماركت المجاورة (كان اسمها "إسطنبول") مكملاً سيري نحو "إكسبو" حيث الاحتفاء بالكتاب ومعرضه الغني عن التعريف.. أنعشت الزميلة سعاد ذاكرتي بالشارقة التي أسرتني بحبي إليها وشوق لا يرتوي إلى كل شيء رأيته فيها، وللشوق مقال آخر....

مضى نحو العقد ونصف العقد على زيارتي تلك، لكني، وأنا أكتب عنها الآن، أحسبها كانت بالأمس، والسبب -كما أؤمن- كائن في الأثر الكبير الذي تركه ذاك البلد الغني بأهله والكبير بسمو شيخه في نفسي، ولعلي لستُ الوحيد في ذلك، إذ جميع العرب (وحتى الباكستانيين والهنود) الذين قابلتهم أو صادفتهم هناك كانوا يشاركونني الانطباع ذاته، إذ كانت الغالبية، خاصّة السوريين، تشعرني أن هذه البقعة الهادئة والوادعة من العالم والتي تكرّم الثقافة وتحتفي بها بشكل منقطع النظير هي وطنهم، ففيها وجدوا كرامتهم ومع أبنائها عاشوا وتشاركوا الأفراح والأتراح، وفي ظل قيادتها عاشوا العدل والأمان.. هل من باب المصادفة أن عائلة القاسمي لها منذ نحو عام 1600م في الإمارة؟ لا ليست مصادفة، ففي العدل يدوم الحكم، فكيف ستكون الحال إذا ما اقترن العدل مع المعرفة والحكمة وتقوى الله؟ إذا أردتم معرفة الجواب، فهذه الشارقة تجيبكم..

أمر آخر وأخير، أقف عنده مع سمو الشيخ سلطان القاسمي، ألّا وهو، افتتاحه قبل أيام لـ"مهرجان الفنون الإسلامية"، وهذا أمر يبدو عادياً وروتينياً لسموه ولمن هو في موقعه، لكن عندما ندرك أن سموه في الرابعة والثمانين من العمر، ومع ذلك يأتي هو بما يمثّل من مكانة وقيمة، ليفتتح المهرجان، فلهذا دلالاته العدة، أكتفي منها أن سموه يريد إيصال رسالته ما استطاع إلى ذلك سبيلا: "أن اهتموا بالعلم والمعرفة طالما أنتم أحياء، فبهما ينهض الإنسان ويتطور العمران"..

 ومن جانبنا نختم: أن رجلاً كهذا يستحق أن يُكتب تاريخه بأحرف من نور.. أطال الله بعمركم سمو الشيخ.

رئيس التحرير