كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"اعتقال الحياة".. كتاب في الرعب

أُبي حسن- فينكس

توطئة

هو كتاب مرعب في مضمونه، ومرعب في الجهد الاستثنائي المبذول فيه وعليه.. ولا أغالي إذ قلتُ إنه "مكتبة في كتاب" في المجال الذي تصدى له.. إنه كتاب "اعتقال الحياة.. من أدب المنافي والمعتقلات" للأديبة والباحثة السورية جمانة طه.

قبل الخوض والإضاءة على بعض ما أتى عليه الكتاب، نفيد: كثر هم السجناء (من مثقفين وسياسيين وشعراء) الذين تناولوا تجربة سجنهم واعتقالهم، لكن كل من كتب عن تجربة سجنه، فقد كتب تجربة ذاتية محدودة في زمان ومكان معينين (نستثني الروائيين الذين كتبوا عن المعتقلات دون أن يعانوا مرارتها، كعبد الرحمن منيف، مثالاً)، وقولنا هذا لا يقلل من قيمة نتاج من نعني بمعزل عن الرأي الشخصي في هذا النتاج أو ذاك، لكن كتاب الأديبة والباحثة "جمانة طه" المشار إليه أتى فريداً في بابه، حيث قدّم صورة بانورامية عن تاريخ السجون والاعتقالات وأسبابها منذ العهد الآشوري والبابلي مروراً بالعصر الجاهلي العربي ثم بمرحلة صدر الإسلام وصولاً لزماننا هذا دون التقيّد ببلد عربي دون آخر، لا بل طاف الكتاب على بعض البلدان الغربية من قبيل اسبانيا، أمريكا، إيران، الصين وروسيا والكيان الإسرائيلي.. الخ، ومن هنا أتت الأهمية الاستثنائية للكتاب، ومن هنا أيضاً قلنا عنه "مكتبة في كتاب"، فأحد عناصر قوته أنه لم يحصر نفسه في بلد دون آخر ما أكسبه أبعاداً معرفية عدة من خلال -على الأقل- إلقائه الضوء على تجارب أسماء أدبية وسياسية لم نكن نسمع بالكثير منها وعنها في عالمنا العربي وهذا ما سنأتي على ذكر بعضه لاحقاً، قبالة تربّع الكتاب على عرش الحيادية السياسية، إن جاز التعبير، حيال هذا النظام العربي أو ذاك الغربي والأعجمي.

تقول الكاتبة في المقدمة عن هذا الكتاب أن لها معه "قصة تعود إلى عشرين عاماً، وأكثر. فحين امتدت خطواتي في المشهد الثقافي والأدبي، احتلني حلم يشبه اليقين بالكتابة عن حياة الأدباء الذين دفعوا حياتهم ثمناً للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وبرفع القمع عن حرية الرأي، وإشراك الشعب في تقرير مصيره السياسي والمعيشي والثقافي والاقتصادي. لكن خوفاً مبهماً كان يخامرني، ويؤخرني عن تحقيق حلمي..." (ص 10). وبتقديري أنّه يتوجب علينا شكر الخوف الذي أخرها للكتابة نحو العقدين من الزمن لأنها لو كتبته في حينه لكان (ربما) أتى كتاباً مؤدلجاً ومؤطراً ومقيداً ببقعتين زمانية ومكانية، ولكان فقد الكثير من قيمته الراهنة الموغلة في الزمان والمكان بما فيهما معاناة من سلّطت الضوء عليهم.

لمحة عن الاستبداد والطغيان وموقف المثقف في التراث

في الصفحة 15 تقول الكاتبة: "حين نقرأ الشرائع العراقية القديمة ابتداء من قانون أوركاجينا وإصلاحاته الاجتماعية ومروراً بقوانين أورنمو وشريعة حمورابي وما تلاها، نلحظ ظهور المزيد من القوانين الردعية القاسية بالتوازي مع ما تم من تطورات وتحولات إيجابية في تلك المجتمعات"، لتجد أن حمورابي افتتح شريعته بقوله: "إن الآلهة هم الذين يبادرون بإصدار القوانين". وليختمها بقوله: "إن الذين لا يتبعون هذه القوانين سيعاقبون من قبل الآلهة"، طبعاً وكان للبابليين والآشوريين سجونهم ومساجينهم.

وتذكر المؤلفة أن أقدم السجون التي أُنشئت كانت في بلاد الرافدين و"كانت عبارة عن زنازين تحت الأرض، وكان مصير السجناء، إما الإعدام أو الاستعباد. فالسجن الكلداني اُشتهر بارتفاع طاقته التعذيبية للسجناء، وفي بابل كان الآشوريون يحجزون الأسرى في الكهوف والأودية، ويشغلونهم في البناء والخدمة". (ص 58).

أما بعد المرحلة البابلية، وإذا ما تجاوزنا العهد الجاهلي الذي كان له حضوره في الكتاب، فتشير الكاتبة إلى انه حال أردنا معرفة كيفية ترسخ مفهوم الاستبداد والتسلط عند الخلفاء والولاة (لاحقاً)، فلا بد "من العودة الى الآداب السلطانية التي تزامن ظهورها مع انقلاب الخلافة الى ملك وتبلور مفهومها في القرن الثاني الهجري"، وسنستغرب أن العديد من كبار الأدباء في العصر العباسي قد أجازوا لأبي جعفر المنصور(مثلاً) بأن يكون "الحاكم باسم الله تأسياً بما كانت عليه مكانة الشاه في فارس" وفق قول الكاتبة، ذاكرة مثالاً على ذلك "ابن المقفع" وموقفه، سلباً وايجاباً، من خلفاء وولاة عصره، وطبعاً النهاية التي آل إليها "ابن المقفع" معروفة لكل مهتم، وهذا يؤكد ما كانت قد تطرقت اليه الكاتبة مراراً إبّان حديثها عن علاقة المثقف بالسلطة في معظم محطات الكتاب، إذ نادرا ما تكون عواقبها محمودة. وقبل أن نغلق هذه الصفحة نشير الى دور "الجاحظ" (159- 255) في زمانه بتكريس "عبادة الفرد" وفق تعبيرنا المعاصر، فهو القائل في كتابه "التاج في أخلاق الملوك": "ان الله أوجب على العلماء تعظيم الملوك وتوقيرهم وتعزيزهم وتقريظهم، كما أوجب عليهم طاعتهم والخضوع والخشوع لهم"؛ لكن لم يكن جميع أدباء ذاك الزمن (شأنهم شأن كل زمان) كذلك، فها هو "سلمة بن دينار" المعاصر لعبد الملك بن مروان يقول للخليفة مبرراً عدم زيارته له، عندما يسأله: "مالك لا تأتينا يا أبا حازم؟". فيجيب: "وما أصنع بإتيانك؟ إن أنت أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني حزنتني. وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجو لك". (ص 21). وفي عهدنا الحديث نجد خير من يمثّل المثقف الذي وقف من السلطة على النقيض هو الشهيد والمفكّر عبد الرحمن الكواكبي الذي رأى: "إن ثمة بوناً شاسعاً بين المثقف الحقيقي والمثقف الزائف الذي يتحوّل إلى مخبر وخادم أمين يسير في ركاب السلطة الجائرة مدججاً بالضغينة" (ص 29)، وللإمام الشافعي موقف صارم من تعاطي المثقف مع السلاطين، صاغه شعراً (ص24)، ولن نستغرب الموقف التحذيري للمثقفين في التراث بعدم الاقتراب من السلاطين خاصة إذا ما علمنا أن الخليفة هارون الرشيد سجن "أبا العتاهية" (130هـ - 213هـ) فقط لأنه رفض طلبه في إنشاد شعر الغزل! (ص 98).

وقبل الغوص أكثر في الكتاب، أسجّل أنّه مما أثار استغرابي هو معرفتي بأن الأديب الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) عرف تجربة السجن، فقد كان مناوئاً للسلطة الملكية (أو لبعض قراراتها) في بلاده، وكان عضواً في مجلس النواب المصري عندما عارض إحدى قرارات الملك فتم اعتقاله تسعة أشهر في سجن القلعة واحتاج لوساطة، بالرغم من علو مكانته وأهميته الفكرية، كي يغطوا له نوافذ سجنه بألواح من الزجاج تقيه برد الشتاء (ص 27). كما لفت انتباهي أن ماوتسي تونغ (مؤسس الصين الحديثة) سبق وأن اعتقل الشاعر الصيني زانغ كزيليانغ (ص 36).

بانوراما في الرعب

لا شك أن ملاحظة الكاتبة المرتأية أن أغلبية من سجنوا في عالمنا العربي هم من خلفيات يسارية (ص 41) دقيقة جداً، فالمعروف أن اليسار العربي هو من تصدى للسلطات الجائرة ذات الاستبداد المتجذّر، وهو من طالب بالعدالة الاجتماعية وبالحريات وبقية الحقوق المتعلقة بالمواطنة، وهذا لا ينفي أن بعض منتسبي الحركات الأخرى قد ذاقوا مرارة السجن لهذا السبب السياسي أو ذاك، لكن -عدا أنّهم قلّة قياساً باليسار- لم تكن معارضتهم بالمجمل لأسباب تتعلّق بالمواطنة وحقوقها، ولهذا الحديث مكان آخر. وقبل الانتقال من هذه النقطة ينبغي التأكيد من قبلنا أننا لا نؤمن بأن كل من عارض الاستبداد -حتى ولو كان يسارياً- وذاق مرارة الاعتقال وعرف بشاعة وأهوال السجن، هو بالضرورة أفضل من سجّانه أو الحاكم الذي أمر باعتقاله، على العكس من ذلك، فقد يكون هذا المُعتقل أو ذاك أكثر ديكتاتورية ممن يعارضهم، وقد يكون أكثر دموية فيما لو أتيحت له الظروف وصار في السلطة ممن أدموه. نسوق ذلك بمعزل عن ملاحظة الباحثة في الصفحة 23- 24 من كتابها والتي تتقاطع فيها مع وجهة نظرنا بالخطوط العامة (لا التفاصيل، بالضرورة) وذكرها مثالاً لثورة الزنج التي برأيها لم تكن أخلاقية وتستشهد بالشاعر ابن الرومي وما ذكره شعراً عنها. فمثلاً اليساري (المتأسلّم) "رياض الترك"، وهو أشهر من أن يُعرف، ليس ديمقراطياً وأي متابع للتاريخ المعاصر لسجناء اليسار السوري وكيفية تعاطيهم مع رفاقهم بُعيد خروجهم من المعتقلات يدرك كيف تعامل الترك مع رفيقه الراحل "عبد الله هوشه" وكان الأخير أميناً عاماً للحزب الذي يجمعه والترك!.. طريقة التعامل غير اللائقة من الترك مع رفيقه دفعت بالأخير للتنحي عن أمانة الحزب. ونذكر أيضاً (بخصوص التعذيب من طرف اليسار المُعارض) كيف مارس أكرم البني (وهو يساري مُعارض ومُعتقل سابق) وبعض رفاقه سادية التعذيب حد الموت على أحد رفاقهم بتهمة أنه عميل للسلطة!

عموماً، وبعيداً عن الأسماء، لابأس من مقارنة سلوك و"متاجرة" الكثير من اليسار العربي عموماً والسوري خاصة بمظلوميته، وبين ترفع المفكّر المصري اليساري محمود أمين العالم عن المتاجرة بتلك المظلومية، وهو الذي سجن في عهد جمال عبد الناصر، ولم يحمل "العالم" حقداً على أحد، يُذكرني بتساميه، بتسامي جماعة 23 شباط (في سوريا) على جراحهم وترفعهم عن شخصنة القضايا والابتعاد عن المتاجرة بالمظلومية، وإلى حد ما بالشاعر والصحفي اللبناني عمر شبلي الذي سُجن في إيران نحو العقدين من الزمن على خلفية مناصرته لعراق صدام حسين في حربه العبثية مع إيران، فقد بنى شبلي صداقة مع سجّانه، وكان متصالحاً مع ذاته، وعموماً استشهدت به وبتجربته الباحثة مراراً، كما تطرقت (الكاتبة) إلى المفكّر العالم في أكثر من محطة في الكتاب منها مثالاً (ص 125).

يقوم الكتاب بمسح بانورامي على عدد لا بأس به من الكتّاب والشعراء العرب (وبعض الأجانب) الذين مروا بتجربة السجن، ويقيني ليس سهلاً على أي باحث أن يتابع تلك الآلام خطوة خطوة ونبضاً نبضاً سواء في سحون "أبو غريب" و"الكاظمية" في العراق، أو "أبو زعبل" و"ليمان طرة" في مصر، أو "تدمر" و"صيدنايا" في سورية، و "تازمامارت" في المغرب.. الخ، فهي متابعة بحد ذاتها معاناة وتعذيب من نوع آخر..

أياً يكن الأمر، يسلط الكتاب الضوء على سجون العراق في عدة مراحل بدءاً من تاريخه الحديث، فيقف عند تجربة بضع كتّاب وكاتبات من قبيل الدكتور "ضرغام عبد الله الدباغ" الذي يروي رحلة اقتياده من "كركوك" إلى "بغداد"، ومما يذكره: "تمت عملية استلامنا في ظروف لا يمكن وصفها بالاعتيادية، ولا تخلو من ضربات عشوائية لا معنى لها، مع شلال من السباب والشتائم..... قد نكون مذنبين من وجهة نظر السلطات، وقد نستحق المحاكمة والعقاب، ولكني لا أفهم معنى الشتائم والضرب الذي لا ينطوي إلا على معنى واحد هو أن هؤلاء الحراس قد اعتادوا الإهانة أخذاً وعطاء، وفقدوا حتماً الكثير من صفات البشر المحترمين" (ص 119- 120)، على الصعيد الشخصي يُذكرني هذا البوح بما سبق أن قاله القيادي البعثي السوري الأسبق أ. مصطفى رستم في مداخلة له بإحدى منتديات دمشق مطلع القرن الحالي، إذ قال، وهو سجين سابق أيضاً: "أفهم أننا كنا نسجن بعضنا البعض، لكن حتى الآن لا أفهم لماذا كنا نمارس التعذيب ضد بعضنا البعض في السجن وخلال الاعتقال؟!"،.... ويقول المعتقل الدباغ، بعد أن راقب بعمق وجوه القائمين بحفلات التعذيب والإهانات: "أسائل نفسي: ترى هل منا نسير وإياهم في شوارع هذه المدينة؟ وهل يضمنا جميعاً هذا الوطن الحبيب؟"، ويسرد د. الدباغ الكثير من الألم الذي يجعلك تستحضّر كتاب "حيونة الإنسان" للشاعر الراحل ممدوح عدوان.

 في حين الروائي العراقي "عبد الستار ناصر" (1947- 2013) تم اقتياده إلى السجن بتهمة تجاوزه للخطوط الحمراء لقانون المطبوعات العراقي على خلفية قصة قصيرة نشرها بعنوان "سيدنا الخليفة"، فكان سجنه في انفرادية تحت الأرض مع تعذيب لمدة عام بكامله. (ص 164).

أما الروائية العراقية "هيفاء زنكنة" (1950- )، فتروي الكثير من وجعها ومن اللحظة الأولى لاعتقالها وبدء التحقيق معها وهي في العشرين من عمرها، حين "وقفتُ عارية في وسط غرفة يحيط بها أربعة رجال وصناديق وكتب ومنشورات ومكتب فخم وآلات تسجيل.." (ص 134)، إلى أن تقول: ".. تلاحق الأحداث، لم يترك لي فرصة للتفكير. أشار إلى أحد الرجال بآلية رجل متعب فلطمني على وجهي ثم ركلني أسفل بطني، فابتلت ملابسي الداخلية دماً وبولاً.. طلبتُ منه الذهاب إلى المرحاض فأشار بيده لي أن أتبول في إحدى زوايا الغرفة وأغلق الباب" (ص 137).

وعند حديث الكاتبة عن السجن المغربي، نجد أننا بفضله (إن جاز نسب الفضلية لسجن) تعرفنا إلى المهندس والأديب "أبراهام السرفاتي" (1926- 2010) الذي على الرغم من التزامه بدينه اليهودي إلّا أن انتماءه لعروبته ظل نقياً وبقي مواظباً على نصرة القضية الفلسطينية، واعتقل عام 1975 لمعارضته نظام الملك الحسن الثاني، وحكم عليه بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، "بسبب دعوته إلى إعطاء الشعب الصحراوي الحق في تقرير مصير الصحراء الغربية. فعُذّب وسُجن تحت الأرض سبع عشرة سنة من محكوميته، وصار رمزاً للمساجين المغاربة" (ص 174).

وللصحفي والروائي المغربي "عبد الفتاح الفاكهاني" (1949- 2006) قصته مع الاعتقال في معتقل "درب مولاي علي الشريف"، ويتحدث الفاكهاني عن لحظات انهياره تحت التعذيب واعترافه بأسماء رفاقه وعناوينهم، معبراً عن أسفه واعتذاره بقوله: "لم أعش في حياتي إهانة كهاته. والأنكى أنني شخصياً من ألّف منشوراً صغيراً حول الصمود في أثناء التعذيب" (ص 175).

أما الضابط المغربي "أحمد المرزوقي" (1947- ) فيتحدث عن سجنه في "تازمامارت" ذائع وسيء الصيت، وهو على ارتفاع 1500 متر فوق سطح البحر. وهو السجن الذي دمرته فيما بعد سلطات النظام المغربي دون أن تترك له أثراً أو تسمح لأي جهة حقوقية برؤيته، وتدميرها له كان لإخفاء معالم حقبة مظلمة في تاريخ ذاك البلد العربي، وفق ما نستشف من قول الكاتبة (ص 184): "فقد اقتلعته البلدوزرات وسوّت مبانيه بالأرض".

وعند الحديث عن السجن لدى الكيان الإسرائيلي تستشهد الكاتبة بعدة أسرى وأسيرات من فلسطين المحتلة، وطبيعي أن سبب سجنهم هو النضال ضد العدو الوجودي لهم ولنا، فتستحضر الأسيرة السابقة "عائشة عودة" (1944- ) في روايتها "أحلام بالحرية" التي تتحدث فيها عن وجودها في سجن الاحتلال أكثر من مرة. إذ اعتقلت وتعرضت لأقصى أشكال المعاناة الجسدية والنفسية والمعنوية والوجدانية والعاطفية، على أثر نضالها في تحرير أرضها. فنسفوا منزل أسرتها، وحكموا عليها بإعدام خُفف إلى عشر سنوات لاقت فيها تعذيباً وصل حد محاولة اغتصابها. (ص 197).

أما المناضل الفلسطيني "محمود الغرباوي" (1951- 2012) فهو برأي المؤلفة وضع اللبنة الأولى لثقافة وأدب المعتقلات من خلال قصائد سجل فيها معاناة الأسرى وبطولاتهم وتحدياتهم. وهو الذي أمضى "اثنين وعشرين عاماً متنقلاً في غرف السجون الصهيونية وبين زنازين العزل الانفرادي، مع كثير من التعذيب الجسدي والنفسي" (ص 203).

وعند الانتقال إلى تونس، نجد أن أول رواية تتحدث عن التعذيب في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي هي "أحباب الله" لكمال الشارني الذي يروي عذابات القمع والاضطهاد السياسي، فجاءت "شاهداً على مرحلة شديدة البؤس من التاريخ الوطني التونسي، حين كانت أجهزة القمع ترمي بالتلاميذ إلى المعتقلات، وتخضعهم للتعذيب، لمجرد خروجهم في مظاهرات احتجاجية على الوضع المتردي معيشياً" (ص 222) والرواية لم تنشر إلا بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي.

قبل الختام

يطوف الكتاب، على متن 350 صفحة، على السجون في ليبيا في عهديها (السنوسي والقذافي) وعلى الأردن والكويت والسعودية وسلطنة عمان وبضعة دول غربية.. الخ، وأنواع السجون وأسباب السجن.. الخ، ومن الصعب تسليط الضوء على كل ما أتى في الكتاب، خاصة أنه حقاً مكتبة في المجال الذي تصدى له، لكن نكتفي بالإشارة إلى ما ذكره الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، الذي عاش تجربة السجن مدة عقد ونصف العقد، فيقول عن تجربة التحقيق: "هي تجربة تعذيب تتحكم إلى حد بعيد بوضعه في السجن. وكثيراً ما تكون المسافة بين من "صمد" وبين من "انهار"، شعرة. وفي بلد يحكمه الاعتباط مثل بلدنا قد يحسم الحظ أو الصدفة أو "الواسطة" سلوك المعتقل في هذه التجربة، وبالتالي مصيره سجيناً وإنساناً" (ص 129).

ختام وعود على بدء

قلتُ إن للكتاب أبعاداً معرفية، منها بعض الأسماء التي ذكرتها، والكثير مما لا يسمح الوقت بذكره، من روائيين وشعراء عرب لم نكن نسمع حتى بأسمائهم (على الأقل شخصياً لم أكن أسمع بمعظمهم)، لولا هذا السفر النفيس والمتعب والشاق والشائق، كما يضج الكتاب بمعلومات معرفية عدة وهذا ليس غريباً عن الباحثة وهي مثقفة من الطراز الرفيع، من قبيل قولها إبّان الحديث عن الشاعر "عدي بن زيد العبادي" (ت 587هـ) الذي سجنه النعمان بن المنذر على خلفية وشاية، فينشد:

في حديد القسطاس يرقبني الحا       رس والمرء كل شيء يلاقي

في حديد مضاغف وغلول                                       

وثياب منضحات خلاق

وملاحظتها (الظنية) أنه أول شاعر يشير إلى حضور السجّان ودوره في مراقبة السجين والإثقال عليه بالتعذيب والإهانة (ص 267). وقل الأمر ذاته إبّان حديثها عن الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي (1821- 1881) واعتقاله بمنفردة بسبب اشتراكه في جماعة "بتراشيفسكي" الاشتراكية، ونفيه إلى سيبيريا ثماني سنوات مع الأشغال الشاقة، ويكتب من وحيها "ذكريات من منزل الأموات" وهو -برأي الكاتبة- أول كتاب يؤلفه كاتب روسي "عن النفي ومعسكرات الاعتقال وأوضاعها" (ص 246).