أدناه, مقتطفات من "مذكرات المعلم نسيم الحلو (1868- 1951م) التي حققها وقدّمها الأستاذ عدنان بدر حلو, يذكر فيها بعض ما عاشه وشاهده وسمع عنه خلال "سفر برلك" أو "أيام الجوع" كما سمّاها أجدادنا, وكان سببها الرئيس هو الاحتلال العثماني البغيض الذي يكاد (الاحتلال) يتكرر بلبوس قذر آخر بعد قرن من الزمن.
القسم الثاني
ص 157- 159
يوجد في بيتنا تلفون يتصل بمركز المدرسة في صيدا
كما يتصل براما يوهول, و كان في صيدا الأستاذ مهنا زعرب يدير المدرسة الابتدائية, و كنا على اتصال معه بواسطة التلفون لقضاء مصالح الشغل. و بينما كنت في البيت رنّ صوت جرس التلفون في أذني, فقمت حالا لأعرف "يا ترى ماذا الخبر", و إذا بالمعلم مهنا يقول إن جيوش الحلفاء تقدمت من فلسطين و بلغت صور ثم تقدمت منها نحو صيدا, و قد اجتاز الجيش نهر القاسمية واستمر في تقدمه إلى الأمام. و فيما نحن نتلقى مثل هذه الأخبار المبهجة في فترات متقطعة كانت أفئدتنا ترقص طربا ليس كرهاً بالألمان و لا بتركيا و ليس حباً بإنكلترا و فرنسا وأميركا, و لكن بالدرجة الأولى لشعورنا بأن الحمل الثقيل الذي كان يبهظ كواهلنا قد تزحزح وأن الكابوس قد أزيل و أن الأغلال قد رفعت عن أعناقنا و أن نسمات الحرية المنعشة المحببة ابتدأت تتلاعب في أرجائنا. وكنا بين كل فترة و أخرى ننتظر رنين جرس التلفون الذي صار لأسماعنا "ألذ" من نغمات الناي و العود, و كنا نتلقى بواسطته خبر التقدم المطرد إلى أن بلغ الجيش ضواحي صيدا, و كان قد دخل شهر تشرين الأول سنة 1918. و أنا منقطع منذ مدة طويلة عن زيارة صيدا للأسباب المارّ ذكرها. فلما زال المانع ذهبت لإقامة خدمة العبادة في كنيسة صيدا فاتخذت موضوعا للكلام "المجد لله" (لو2:14), و بما أني أشرت في كلامي إلى الأحوال الحاضرة أترك أفكاري الجديدة و أقتطف من ورقة العظة التي مرّ عليها ما يقرب من 30 سنة, لأن من عادتي أن أذكر زمان و مكان العظة و هذا نصّ ما اقتطفته:
صيدا في 6ت2 سنة 1918, يوم دخول جيش الاحتلال إلى صيدا:
المجد لله الذي أنالني بغيتي بهذه الزيارة التي كنت أشتهيها بعد انقطاعي عن زيارة هذه المدينة مدة طويلة. و أشكره تعالى لأنه جعل أول زيارة مني إلى الكنيسة المحبوبة. لأني لما بدا لي في الأسبوع الفائت أن أنزل إلى صيدا بعد الظهر إذا بالدكتور فورد يسألني أن أقوم بخدمة العبادة صباح الأحد, هذا على غير علم سابق منه برغبتي, فأضفت هذه المصادفة إلى سلسلة عناية الله الخاصة. و لم أتردد في اختيار الموضوع لأني رأيت أوجب المواضيع في ظروفنا الحاضرة تمجيداً لله القدوس (و بعد أن ذكرت أن كل الخلائق و جميع أعمال العناية حتى الطبقات الشديدة تؤول إلى تمجيد الله قلت):
و إذا وصلنا إلى ضيقتنا التي مرت على غير رجعة ماذا نرى من تمجيد الله فيها؟ إننا نرى فيها ما رأيناه في غيرها يد القدير ممتدة لحفظ شعبه و صيانته. لأن قوته في الضعف ككل, هل تستغربون ذهاب المجاعة بألوف الناس؟ ليست الغرابة في ذلك بل في بقائنا نحن على قيد الحياة. فإن زمن الضيق يذكرنا بأزمان المراحم السابقة التي لم نشكر الله عليها ومتى أتى الفرج كما نرى اليوم يعظم جدا في أعيننا بمقدار ما عظمت الضيقة. (و في الختام أجبت على سؤال مفروض: أغاية الدول المتحاربة مجدها الذاتي أو مجد الله؟) لا نقدر نجيب أن غاية الممالك المتحاربة كانت مخلصة لمجد الله تعالى. نعم إن السبب المباشر كان قتل ولي عهد النمسا, و لكن القصد الحقيقي هو سير كل مملكة نحو غرض خاص هو ترقيتها و تمجيد شعبها و راحتهم و لو أدى إلى ذلك إلى تعب و إذلال غيرها, و لأن المصالح متباينة استعرت نار الحرب و صار ما صار.
ففرنسا غايتها أن تتمجد بإرجاع ولايتي الألزاس و اللورين من ألمانيا.
و ألمانيا غايتها أن تتمجد بفتح بلاد جديدة لتجارة شعبها و مزاحمة إنكلترا في البحر.
و إنكلترا غايتها أن تتمجد بخضد شوكة ألمانيا مزاحمتها الجديدة؟
و روسيا غايتها أن تتمجد باستيلائها على القسطنطينية عاصمة تركيا إنفاذا لوصية بطرس الأكبر.
و النمسا غايتها أن تتمجد بفتح منفذ لها على بحر الأرخبيل الرومي.
و دول البلقان غايتها أن تتمجد بتوسيع بلادها الصغيرة.
و الولايات المتحدة, أقل الدول طلبا للمجد الذاتي, فقد أعلنت أنها لا تبغي شبر أرض ولا غرامة مالية.
ولكن هل تنال هذه الدول مطالبها المذكورة؟ ربما نال بعضها شيئا و بعضها خسر من أصل رأسماله. و الرابح و الخسران ضحى ماله و رجاله في سبيل مطامعه. و سيمجد الله نفسه في نتائج الحرب:
(1) بتأسيس سلام متين الدعائم يمتد إلى سنين طويلة.
(2) بجعل حقوق الأمم الضعيفة مقدسة كحقوق الأمم القوية كما أعلن الرئيس ولسن.
(3) بفتح الأبواب التي كانت مغلقة في سبيل التبشير كبلاد روسيا و غيرها.
(4) بإعلان الحرية الدينية.
(5) بتحويل نتائج المعاهدات الجديدة و جعلها استعدادا لملك المسيح العتيد. (انتهى النص)
و بعد انتهاء خدمة العباد ذهبنا إلى ظاهر المدينة لنرى الجيوش و الجموع المحتشدة من صيدا و جوارها. و قد علمنا أن القائد أرسل خبراً بقدومه إلى حكومة الانتقال المؤقتة التي تركتها تركية لضبط الأمن و كان الحاكم رياض بك الصلح. قال القائد في رسالته إنه آت إلى صيدا و يطلب أن يهيئوا له بعض اللوازم للجيش و يطمئن الأهالي. و قد رأيت جنود الاحتلال أول ما وصلوا إلى إدارة البرق و البريد و قطعوا الأسلاك التي تصلها ببيروت كما فعلوا بالمراكز التي مروا بها. و استقبلت الحكومة القائد و ترحبت به في السرايا و قدموا له و لمن معه من الضباط الشاي. و كان العلم العربي يخفق فوق باب السرايا (هذا بقي إلى حين ثم أنزل) و الجيوش كانت نازلة شمالي المدينة و جنوبها و كانت جموع كثيرة آتية للفرجة. و أذكر أنه من جملة كلام القائد في السرايا أنه سيمدون خطاً حديدياً من حيفا إلى طرابلس (و هذا تمّ بعد 25 سنة). أما الأهالي و زعماء البلاد فما كانوا يدرون إلى ماذا تؤول الأمور, و البعض منهم كانوا يتزاحمون على كرسي الحكم. و كان القائد يتصرف بحكمته في إدارة الأمور. و المرسلون الأمريكان أخلوا بنايات مدرسة الفنون في صيدا لأجل الجنود الضعفاء ليقضوا فيها مدة النقاهة. و أعجبني جندي مصري سمعته يسأل و هم داخلون صيدا عن المكتبة التي يوجد فيها الكتاب المقدس ليشتري نسخة, فدبرنا له نسخة من عند بعض الأصحاب و أعطيناه إياها. أما العملة التي كان يحملها جيش الاحتلال فكانت ورق النقد المصري و مع كونه أعلى قيمة من ورق النقد التركي كان الأهالي ينكرون التعامل به لكثرة ما خسروا بالورق التركي ثم فهموا الفرق بين النقدين و صاروا يتعاملون به. و لما قضينا لبانة النفوس رجعنا إلى البيت في الميومية. و قد حفظت تذكارا لذلك اليوم. أتدري ما هو؟ هو حديدة نعلة فرس عثرت عليها في طريق عودتي إلى الميومية, و ها هي لم تزل محفوظة عندي ليس كعوذة كما يضعها البعض على أبواب بيوتهم, بل لأنها تذكرني بيوم فرح و ابتهاج و فَرَج و حرية.
رابط القسم الأول: