كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

صلاح الدين القاسمي الاسلامي العروبي الجرئ

د. عبد الله حنا- فينكس

  صلاح الدين القاسمي المولود في دمشق عام 1887 نشأ في حجر أبيه الشيخ محمد سعيد القاسمي. وبعد موت والده كفله أخوه الشيخ جمال الدين، الذي كان ممن حاكمتهم سلطات دمشق العثمانية بدعوى تأسيس مذهب جديد وهو ما كان القاسمي ورفاقه يرون أنهم في عملهم يجتهدون. كان القاسمي إماما لجامع السنانية بدمشق ويدّرس التفسير وعلوم الشريعة الاسلامية والأدب. وهو من المنادين باتخاذ اللغة العربية لغة البلاد ومعاديا لسياسة التتريك. ومن هنا ندرك الخط الفكري الذي سار عليه شقيقه صلاح الدين في السير خطوة إلى الأمام باتجاه النهضة العربية.
صلاح الدين شقيق جمال تعلم في "مكتب عنبر" ونال شهادة الطب من المدرسة الطبية بدمشق عام 1914. ويلاحظ أن النشاط الثقافي السياسي للشاب صلاح الدين القاسمي تركز في فترة الدراسة أي قبل عام 1914. ولا نعرف له نشاطاً فكرياً يذكر بعد حصوله على شهادة الطب. ولعل ظروف الحرب وهجرته إلى الحجاز للعمل حالت، أو حدّت، من نشاطه الثقافي. ولم تلبث المنيّة أن عاجلته في الطائف عام 1916، وهو ابن تسعة وعشرين عاماً.
نشأ القاسمي في مناخ إسلامي عربي ترجّح فيه كفة القومية العربية. فقد كان القاسمي وأقرانه "يؤمنون أن العروبة أكرم عناصر الجامعة الإسلامية، وأن الله اختارها لحمل أمانات الإسلام في عصره الأول، وأن أول ما أساء به المسلمون إلى أنفسهم قبل أكثر من ألف سنة كفّهم يد العروبة عن إدارة دفة الإسلام ودولته".
كانت مهمة جمعية النهضة العربية، التي اختير القاسمي كاتماً لسرها والمؤسسة عام 1314هـ، 1906م تعريف شباب العرب المثقفين بعروبتهم ودعوتهم إلى التعاون و"صلاح المجتمع". ورأى أعضاء الجمعية، ومنهم القاسمي، إن أسباب تخلّف المسلمين: استعجام لغة الدولة الرسمية وتجاهل ما كان يقع في الغرب من نهضة.
ولهذا فإن من بواكير نشاطات القاسمي المحاضرة التي ألقاها عام 1330هـ - 1912م في جمعية النهضة العربية بعنوان: "الثورة الفرنسية"، التي كانت رمزاً ومنارة لمعظم رجال النهضة العربية.
وعندما اتهمت قوى الجمود في دمشق الشيخ جمال الدين القاسمي بالوهابية كتب أخوه صلاح الدين مقالاً لمجلة المقتطف القاهرية تحت عنوان: "الحشوية والوهابية". عرّف القاسمي الوهابية إيجابيا، في هذا المقال، بكثير من الجرأة والشجاعة، وأدان في الوقت نفسه قوى الجمود، التي نعتها بالحشوية. جاء في المقال:
"إن حجة الاسلام الغزالي سمّى المناهضين للإصلاح بالحشوية. وهم اليوم ضروب: فمنهم حشوية الدين، وحشوية العلم، وحشوية السياسة. ولشدّ ما لقي المصلحون (الأمرّين)، من شيوخ السوء حشوية الدين الجامدين، في سبيل الدعوة إلى الحق، ولشدّ ما نالهم من النكبات ماديا وأدبيا... ألا وإن التاريخ يعيد نفسه، فقد رمى هؤلاء الحشوية المصلحين بالوهابية... فقد آلَ نبأ الوهابية على أن صار سمراً وفكاهات... ومن النكت الغريبة أن أحد الشيوخ عنده لوح مكتوب عليه كلمة (يا وهاب) وله إطار نفيس، فقيل عنه إنه لم يؤثر هذه القطعة إلا لأنه مغرم بالوهابية... (وهم يقولون) إن الأهرام والمقطم واشباههما بأنها جرائد وهابية. ومثله تشهيرهم بأن كل من هاجر من وجه الاستبداد (أيام عبد الحميد) نازحا عن بلاده هو من الوهابية، وكذلك ابطال الحرية وخطباء الدستور (هم وهابيون).
بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد وإعلان الدستور كتب صلاح الدين القاسمي في المقتبس سلسلة مقالات حول: المسألة العربية ونشأتها، ضائقتنا العلمية، العلم والعامة، فوضى الأقلام، الخطران الأصفران الصهيونية والوباء الكوليرة، كما تحدث كثيراً عن الحرية والدستور.
إن الإنتاج الفكري النهضوي الغزير لطالب الطب صلاح الدين القاسمي يدفعنا إلى الظن بأن شأنه كطبيب ومفكر سيكون عظيماً لو لم تدركه المنية في سن الشباب.
كان "الهروب" من البلد أو التقيّة –وهي ضرب من الكتمان- ديدن جميع العلماء وناشري المعارف العلمية في بلاد الشام أيام الحكم العثماني. وقد أشار إلى هذا الأمر بوضوح صلاح الدين القاسمي في جريدة المقتبس الدمشقية تحت عنوان "العلم والعامة"، قال فيها:
"…العامة حُرمت بسبب الجاهلين ما أحلّ الله من العناية بضروب العلوم الرياضية والكونية حتى الدينية كالتفسير والحديث". و"العامي لا مذهب له وإنما مذهبه قول مفتيه في الضغط الفكري على العلماء واضطرار هؤلاء لاتخاذ التقيّة شعاراً في أغلب الأحايين.. وكم كتم العالم ما يجول بخاطره من الحقائق العلمية وشُرد الآخرون إلى بلاد نائية".
وهكذا أوقف الاستبداد التقاليدي والاستبداد السلطوي أيام السلطان عبد الحميد (1878-1908) التطور الحضاري أكثر من ربع قرن. وبعد زوال عبد الحميد أخذت تظهر الجمعيات والأحزاب السياسية (1908-1914)، التي وضعت اللبنات الأولى من أسس المجتمع المدني في بلاد الشام.
وصلاح الدين القاسمي أسهم في وضع اللبنات الأولى للحركة الوطنية العربية في بلاد الشام، التي لاءمت بين العروبة الانسانية المتفتحة والاسلام السمح المستنير. ومن هذا التلاقح بين الوطنية الصاعدة والدين المنفتح بجناحيه الإسلامي والمسيحي وصلت الحركة الوطنية العربية في منتصف القرن العشرين ألى عصرها الذهبي ناشرة أشرعتها لملاقاة واستقبال الافكار البورجوازية الثورية والإشتراكية، ورافعة علم النضال ضد السيطرة الاستعمارية. ويمكن القول أن الدستور السوري لعام 1950، الذي توافقت على وضعه الأحزاب بتياراتها المختلفة وهي: التيار الليبرالي العروبي (حزب الشعب ومثله عبد الوهاب حومد)، تيار الإسلام السياسي الإخوان المسلمين (ممثلة في مصطفى السباعي) التيار القومي العربي ممثلا بحزب البعث (جلال السيد) والعربي الإشتراكي (أكرم الحوراني) تعود جذوره إلى الأفكار التي حملها صلاح الدين القاسمي.