كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من الأبطال المغمورين في طرطوس.. ابراهيم حسن (أبو جمال) الشاهد على مجزرة البرلمان 1945

 
ولد المرحوم ابراهيم محمد حسن/ أبو جمال/ عام 1919م في قرية بمنة بريف الدريكيش. دفعه الفقر المدقع و هو فتى للتطوع في سلك الدرك السوري، و كان ذلك (ترجيحاً) آواخر ثلاثينات القرن الماضي.. تنقّل، طوال عمله الوظيفي في السلك، بين إدلب و خان شيخون و السويداء و غيرها من مدن و محافظات سوريّة.
هو رجل من زمن عنفوان السنديان و بركة قمح الحقول والبيادر.... كما كان يعتبر في قريته من أصحاب الرأي و المشورة..
التحق بصفوف الشرطة الوطنية خلال فترة الانتداب الفرنسي... وكان واحداً من حامية البرلمان السوري عند تعرضه للقصف من قبل قوات الاحتلال الفرنسي يوم 29 ايار 1945... وصمد مع رفاقه صمود الأبطال بغية منع الفرنسين من تحقيق غايتهم في تركيع الشعب السوري وضرب رمز استقلاله.
و إذا كان الشهيد الحي (سابقاً، إذ لا ندري إن كان ما زال حياً بعد أم لا) و أحد الناجين من مجزرة البرلمان، و نعني السيد ابراهيم الياس الشلاح، قد روى في شهادته إن سبب المجزرة (29 أيار 1945) هو عدم تقديم التحية لعلم الانتداب الفرنسي من قبل حامية البرلمان المكونة من بضعة عناصر من الدرك و الشرطة، فإن المرحوم ابراهيم حسن (أبو جمال) ذكر لأبنائه رواية أخرى غير رواية زميله الشلّاح، و هي لا تناقض الرواية الأولى بل تعززها، كما أن فيها إقناع تاريخي أكثر لارتكاب تلك المجزرة من قبل المحتل الفرنسي.
فماذا تقول رواية العم ابراهيم حسن (أبو جمال) على لسان الأبناء؟
تقول الرواية إنّه، في غوطة دمشق، تمّ مقتل عنصر فرنسي من الكتيبة السنغالية، من قبل الدرك السوري، بيد أن الفرنسيين قاموا بتشويه جثة العسكري السنغالي المقتول و التمثيل بها (قطع الأطراف) و رموا بها أمام الجنود السنغاليين قائلين لهم بغرض التجييش: "ان الدرك السوري هو من فعل ذلك بجثة زميلكم". وكان الجنود السنغال أقرب إلى الوحوش.
على خلفية مقتل الجندي السنغالي و استشعار الحكومة السورية بأن الحادثة لن تمرّ على ما يرام، استدعت عناصر درك من المحافظات السورية بغية المؤازة حال لزم الأمر، و كان من ضمن المستدعين، بطلنا المغمور ابراهيم حسن حيث كان يخدم في السويداء.
تضيف الرواية:
بعد التمهيد المدفعي الفرنسي في ضرب البرلمان (كانت المدفعية الفرنسية تتمركز في منطقة المزة، التي كانت بساتين)، أتت الكتيبة السنغالية بكل وحشيتها وحقدها لاقتحام البرلمان بيد أن الدرك السوري ومنهم المرحوم (أبو جمال) كانوا يغلقون الباب الرئيسي مع المنافذ الأخرى لمبنى البرلمان، ويدعمون الباب الرئيسي بالحديد والاسلاك الشائكة لكن استعان السنغاليون الفرنسيون ببلطات كانت بحوزتهم فقطعوا فيها الأسلاك الشائكة و كسروا الباب الرئيسي و أحالوه إلى شقف. تمّ ذلك كلّه بمؤازة النيران الفرنسية التي قابلتها نيران غير متكافئة (بولونية بخمس طلقات) من قبل رجال الدرك الوطني الذين تمترسوا خلف الشبابيك داخل البرلمان.
دخل الجنود السنغال البرلمان وكانوا يستخدمون البلطات في ضرب الدرك السوري المزاود عن حياض البرلمان. واستشهد عدد كبير من حامية البرلمان في الطابق الأول، كما قتل من الجنود السنغال. وانتقل القتال إلى الطابق الثاني. و ستنتهي الذخيرة من بواريد رجال دركنا الوطني.. لذا صعد من ظلّ منهم حيّاً إلى الطابق الثالث في مبنى البرلمان و ليس أمامهم سوى المغادرة بأي طريقة أو الموت "تشقيفاً" ببلطات السنغاليين.. لذا اضطروا أن ينزلوا من نوافذ الطابق الثالث (في الجهة الخلفية من البرلمان، حيث كانت توجد حديقة كبيرة) بواسطة ما تيسّر لهم من حبال و أقمشة ربطوها بعضها ببعض و نزلوا. بعد أن قسّموا أنفسهم إلى ثلاث مجموعات:
الأولى تنزل مغادرة عبر النزول بواسطة الحبال و الأقمشة.
الثانية: تناور السنغاليين بما تبقى لديها من طلقات رصاص حتى لا يلحقوهم الى الطابق الثالث، و من ضمن هؤلاء كان بطلنا المغمور (أبو جمال).
الثالثة: كانت ترصد اي جندي ممكن أن يكون موجوداً في البساتين مكان نزول الدرك الوطني.
في نهاية الأمر، تمكّن غالبية من صعد الى الطابق الثالث في البرلمان من النجاة، و منهم السيد ابراهيم حسن الذي تسلل ضمن البساتين هو و رفاقه حتى وصلوا إلى الغوطة ومنها تابعوا مشياً، في الليل، حتى وصلوا بعد ثلاثة عشر يوم إلى مخافرهم بدرعا والسويداء.. كان المخفر الذي يخدم فيه (أبو جمال) في بلدة صلخد بالسويداء.. و لكم أن تتصوروا ما كابده أبو جمال و رفاقه من مشقة و عناء، فعدا الخشية من الوقوع بيد قوات الاحتلال الفرنسي، ظلوا طوال مسيرهم، الذي استغرق قرابة الأسبوعين، بأحذيتهم إذ لم يخلعوها، كما كانوا ياكلون ما يتيسّر لهم ليلاً و هو شيء لا يذكر.
ربى العم (أبو جمال) عائلة نموذجية في العلم والأدب والسلوك القويم، فيهم الطبيب و الضابط و الأستاذ الجامعي و المهندس و المعلّم و التاجر.. الخ، و الأهم أنه زرع في نفوس أولاده كل الصفات الجميلة والمحببة، و في مقدمتها حب الخير و الإقدام على فعله.
جدير بالذكر أنه كان لأبي جمال اهتمامات بالقراءة والكتابة وبقيت تجربته ذاتية... ينشرها في محيطه القريب

عاد الى القرية ليكمل بقية حياته فلاحا كمثل ابناء القرية... يزرع الاشجار والقمح وكان بستانه مميزا بأشجاره وتنوعها... و رحل عن دنيانا عام 1982م.