كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من "لا تصالح ولو منحوك الذهب".. إلى "رؤية مشتركة"!!

أحمد حسن- فينكس

لم يعد خافياً على أحد حقيقة وجود "رؤية مشتركة تجاه التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار والسلام في المنطقة" بين كل من إسرائيل، من جهة أولى، وبين عدد وازن، ويزداد، من الدول العربية، من جهة ثانية، وإذا كان ذلك "مفهوماً" وغير مستغرب من السلطات الحاكمة، لأسباب معروفة، إلا أن المقبولية الشعبية المتواطئة هي ما تحتاج إلى تفحّص بهدف الفهم والعبرة لا غير.
وإذا كان البعض يحاجج بالقول إن "التطبيع" حق سيادي لهذه الدول، إلا أن الواقع والتجربة يقولان إن هذا "الحق السيادي" يترتب عليه -في ظل الهيمنة الأمريكية الكاملة على النظام العالمي- الانخراط الكامل في عملية منع بقية الدول من ممارسة حقها، السيادي أيضاً، في سياسة وطنية مستقلة، وبالتالي فإن تباهي "المطبعين" بأن علاقتهم مع إسرائيل "تسير إلى الأمام باستمرار وسط إرادة مشتركة وقوية لتعزيزها في مصلحتهما ومصلحة شعبيهما"، تعني، بالمطلق، استمرارهما، معاً، بـ"إرادة مشتركة وقوية" في وأد الحق الفلسطيني، والأهم ابتعادهم، أي المطبعين، بـ"إرادة مشتركة وقوية أيضاً" عن مصالح العرب الحقيقية.
والحق، فإن هذا هو المغزى الحقيقي لـ"اتفاقيات السلام الإبراهيمية" التي مثلت "تحوّلاً تاريخيّاً كبيراً" لكن ليس كما قالوا: "بقطع الطريق أمام المتطرفين ودعاة الصراع الأبدي"، بل في كشفها عن نجاح كبير في عملية الاستلاب، شبه التام، لوعي الجماهير العربية وتعميم أيديولوجيا الهزيمة، وبالتالي تثبيت، وتعميم، عملية الانتقال الجارية من الرفض الشعبي المطلق، سابقاً، للتطبيع، إلى مرحلة الاتهام الشعبي لغير المطبّع بالعمالة لمشاريع غير عربية، أو غير وطنية على الأقل، ومن التطبيع مقابل جائزة ما، حتى لو كانت زهيدة، إلى التطبيع والدفع لأجله أيضاً، وتلك ثالثة الأثافي كما يقول العرب أنفسهم.
وبينما كان تطبيع، معظم، الأنظمة "هو الموقف الثابت من القضية" –بعضها، للحق، مكره أخاك لا بطل-بداعي التشابه والتشارك بين الطرفين في الوظيفة والأهداف النابعة من طبيعة عوامل وظروف النشأة ووحدة القابلة القانونية المولّدة لهم، كما طبيعة المسار والمصير والتحديات اللاحقة، إلا أن قصة التحوّل الشعبي اللافت تستحق أن تُروى.
وفي هذا السياق تفصح تجربة مصر الرائدة في التطبيع عن بعض، وليس كل، خفاياها، فحين طالب الرئيس السادات كيسنجر تنفيذ وعده بـ"التحوّل الاستراتيجي" بعد إنهاء حرب تشرين بالطريقة التي سعيا إليها -تحريك لا تحرير- كان أول الأسئلة التي طرحها عليه هذا الأخير: "أين الطبقة الاجتماعية التي يمكن أن تسند أي تحوّل استراتيجي؟"، ومن هنا بدأ كل شيء.
فخلال سنوات قليلة نجح السادات في إنشاء هذه الطبقة عبر إجراء أخطر، وأسرع، انقلاب اقتصادي اجتماعي -سياسي بالنتيجة- في المجتمع المصري، كانت بدايته إطلاق يد الإسلام السياسي في المجتمع، نقابات ومنظمات وجامعات، بالتوازي مع انفتاح اقتصادي فوضوي وغير مدروس أدى بصورة حتمية إلى فتح باب الفساد الواسع ومعه باب الاختلال الهائل في بنية المجتمع المصري حتى وصل الأمر في عام 1975، أي بعد عامين من حرب تشرين، إلى انقسام المصريين، بالنتيجة، إلى طبقتين بحدود واضحة، وحادة، طبقة "القطط السمان" التي تزداد تقلّصاً وغنى في الآن ذاته، مقابل طبقة الفقراء التي تزداد توسّعاً وفقراً – وصلت بها سوء الأحوال إلى القيام بـ"انتفاضة الخبز" الشهيرة عام 1977- وبطبيعة الحال كانت الطبقة الأولى التي جاء معظم أموالها من الفساد والارتباط التجاري والاقتصادي بالخارج -عبر التوكيلات التجارية الشهيرة- غير مرتبطة فعلياً بالقرار، والتراب، الوطني المصري، لذلك كانت سنداً قوياً للسادات في عملية التطبيع، فيما كان الوعد بالخير العميم الآتي من السلام بعد سنوات الذل والفاقة، وتكفّل المال الخليجي/النفطي بشراء المنظمات و"المثقفين الثوريين"!!، هما اللذان أسكتا الطبقة الثانية، بل جعلاها ترحب، ولو بصمت، بالتطبيع مع "إسرائيل"، وبالتالي، كانت هناك، بتعابير محمد حسنين هيكل، "صلة عند الجذور بين السلام مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي بالطريقة التي جرى بها".
تلك هي التجربة المصرية: تخريب المجتمع من الداخل وإفساده كي يصبح التطبيع مطلب وجودي، "طبيعي"، لفئة، وحلم خلاص اقتصادي لفئة أخرى، أي من رجاء "لا تصالح" الشعبي، إلى سؤال غاضب، وشعبي أيضاً، لما لم تصالح بعد؟! وفي ذلك كله درس وعبرة.