كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قراءة أولية في حصيلة المرحلة الأولى لطوفان الأقصى

أحمد رفعت يوسف- فينكس
عندما نرى مشاهد استقبال الأسرى الفلسطينيين، في احتفالات شعبية، ومشاهد التحدي التي يظهرها أهالي غزة، فيما الوجوم يسيطر على الشارع الإسرائيلي.
وعندما نرى المواطنين الفلسطينيين، يسارعون للعودة إلى منازلهم، التي تم تهجيرهم منها لتفقدها، فيما المستوطنون لا يجرؤون على العودة؛ وأكثر من ذلك، الكثير منهم أعلنوا صراحة بأنهم لن يعودوا إليها نهائيا، فهذا يعطي المؤشرات الأولية، على حصيلة عملية طوفان الأقصى، و 48 يوما من العدوان الشرس على المدنيين الفلسطينيين.
الحصيلة لا يمكن أن تكون فقط على أساس حساب أعداد الربح والخسائر المباشرة، في العتاد والأرواح، هنا أو هناك، بسبب طبيعة الصراع، التي تأخذ الطابع الوجودي، الأبعد من مجرد حرب بين طرفين، على أهداف محددة، ولا بد من قراءة أبعد لمعرفة حسابات الحدث.
ففي حصيلة حسب اعترافات العدو، وما نشرته المقاومة بالصور والوثائق، منذ بدء العدوان البري، في 31 تشرين أول الماضي، حتى يوم 23 تشرين الثانٍي الجاري، فقد كانت تدمير أكثر من (335) آلية عسكرية، ما بين دبابة ومدرعة وناقلة وجرافة وآلية، وهذا العدد يزيد عن ملاك فرقة مدرعة كاملة، فيما استمرت الصواريخ بالانهمار على مختلف مستوطنات العدو، مع وجود تأكيدات بأنهم يتكتمون على خسائرهم الحقيقية، وخاصة في الأرواح التي بلغت حسب اعترافاتهم 390 من عناصر جيشه مع تاكيدات بأن العدد أكثر من ذلك بكثير.
لكن الانتصار الأهم، فقد كان في حرب الوعي، حيث أذلت المقاومة الجيش الإسرائيلي، وحطمت أهم ركنين قام عليهما الكيان الصهيوني، وهما الأمن المطلق، والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للمستوطنين، ليرى المجتمع الإسرائيلي نفسه بين مهجر من الشمال والجنوب، ومختبئ في الملاجئ، مع توقف شبه تام للاقتصاد، وتكاليف باهظة، بلغت بحسب تقارير إسرائيلية مليار شيكل يوميا، وهذا يعني بشكل آخر، وصول المجتمع الصهيوني، إلى النقطة التي حاول كل قادته، منذ نشوئه تلافي الوصول إليها، وهي حالة "اليأس وفقدان الأمل" والتي تعني حدوث هجرة معاكسة، تنهي هذا الكيان من داخله.
أما العدو الصهيوني، فقد فشل في تحقيق أي من الأهداف التي وضعها لعدوانه، بإيجاد حل لكابوس غزة، واستئصال المقاومة فيها، وتحرير الأسرى، فلم ير أحد استسلام المقاومة، ولم نر أياً من قادتها سواء شهيد أو اسير، مع أن هذا الأمر وارد في مثل هذه الحروب، كما فشل العد.و في تحرير أي من أسراه، إلا بتحقيق الهدنة المؤقتة، التي لبت شروط المقاومة، أكثر من الشروط الإسرائيلية.
والنجاح الوحيد الذي حققه جيش الاحتلال كان في إيقاع أعداد كبيرة من الشهداء المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، مع إحداث التدمير الواسع والممنهج في للمنشآت المدنية وبنيته التحتية والخدمية، وخاصة المشافي، والمؤسسات الصحية، والكهرباء والاتصالات، بهدف تحقيق مخططاته المعلنة والمتوقعة، بتهجير سكان القطاع، وإحداث نكبة جديدة، حيث بدا واضحاً أن العدو الصهيوني، ومن معه من قوى إقليمية ودولية، يعملون للخلاص من كابوس غزة، بكل أبعاده المقاومة والسياسية والاجتماعية.
ونعتقد أنه من الخطأ الجسيم، تجاهل هذه الأهداف والمخططات، أو القول بصعوبة تحقيقها، بدون مقاومتها وإفشالها مهما كان الثمن، خاصة مع عدو شرس، ومحمي من قوى إقليمية ودولية فاعلة، تؤمن له الحماية السياسية والعسكرية، والتغطية في المؤسسات الأممية والدولية، وللإفلات من الحساب والمحاكمة، ومع الحديث عن فتح دول أوروبية وغير أوروبية، أبوابها لهجرة الفلس.طين.يين إليها، بهدف استيعابهم في هذه الدول.
لكن أيضا كانت هناك نتائج أبعد بكثير من الساحة الفلس.طي.نية، ستترك آثارها على الخريطة الجيوسياسية، التي تتشكل للمنطقة لعل أبرزها:
فتح الباب أمام دخول ساحات جديدة في القتال، وخاصة من جنوب لبنان، رغم حرص الإسرائيليين والأمريكيين، على عدم توسيع نطاق القتال.
بروز قوى إقليمية فاعلة، فرضت نفسها على توازنات القوى والقوة والنفوذ في المنطقة، وفي مقدمتها اليمن "المقاوم" الذي قام بتوجيه ضربات إلى الكيان الصهيوني، كان أهمها وأكثرها فاعلية، السيطرة على السفينة الملوكة لرجل أعمال إسرائيلي، والتي أخذت أبعاداً جيوسياسية، أبعد بكثير من مجرد السيطرة على سفينة، وأكثر بعدا من الساحة اليمنية والفلسطينية، لتصل إلى المجال والإقليمي والدولي.
كما وضعت على التنفيذ، الهدف الاستراتيجي لقوى المقاومة، بإخراج الأمريكيين من سورية والعراق، وتاليا من كامل منطقة غرب آسيا، حيث يتم توجيه ضربات يومية، لقواعد ومنشآت الاحتلال الأمريكي في البلدين، ويتم إيقاع خسائر كبيرة، يتكتم عليها الأمريكيون، ولوحظ أن رد الفعل الأمريكية، كان أقل بكثير من قوة هذه الضربات، في مؤشر على إدراكهم بهدف المقاومة، وهشاشة تمركزهم في الدولتين، وإمكانية تحقيق هزيمة استراتيجية جديدة لهم.
ويبقى السؤال اليوم، ماذا بعد انتهاء أيام الهدنة؟.. هل سيستأنف القتال؟ أم أن القوى المؤثرة والفاعلة، ستعمل على أن تكون هدنة دائمة؟.
بالتأكيد لن يكون القرار في ذلك سهلاً، على قادة العدو، لأن وقف القتال عند هذه النقطة، يعني القبول بالهزيمة، وتداعياتها على الكيان، الذي ينتظره زلزال آخر، من داخله هذه المرة، لأن كل الأطراف تنتظر توقف القتال، لبدء معركة محاسبة شرسة، لمعرفة كيف نجحت المقاومة في تحقيق هذا الخرق الكبير، يوم 7 أكتوبر تشرين الأول، وتحديد المسؤولية عما جرى، ولماذا جرى، خاصة مع غياب أي إنجاز حقيقي، للأهداف التي وضعها قادة العدو، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يدرك بأن عملية إعدامه السياسي، وذهابه إلى السجن، بانتظاره مع لحظة توقف القتال.
كما أن استئناف القتال، سيزيد من وتيرة الهجرة المعاكسة للمستوطنين، وزيادة في تآكل مكانة وصورة الكيان الصهيوني في العالم، والقضاء بشكل شبه نهائي، على استمرار نهج التطبيع، ومحاولة فرض الكيان الصهيوني، ككيان طبيعي في نسيج المنطقة.
وتبقى المسألة، مرهونة في قدرة الأطراف المؤثرة، على فرض وقف القتال، والقبول بهذا الحد من الخسائر، خاصة مع وجود قناعة حقيقية، في تل أبيب وواشنطن، بصعوبة تحقيق أهداف العدوان، وخطورة الذهاب أبعد من ذلك، لكن كل هذا، لا يلغي ميل الرؤوس الحامية، في الكيان الصهيوني، والإدارة الأمريكية، للاستمرار في القتال، لمحاولة تحقيق الأهداف الموضوعة، مهما كان الثمن، مما يبقي الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات.