كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"طرطور كييف" رمزٌ جديد لتوظيف "اليهودية السياسية" في خدمة المصالح الأمريكيّة

هادي دانيال- فينكس: 

دأبت الولاياتُ المتحدة الأمريكيّة مباشرة أو عن طريق أتباعها في الغرب الأوربي والخليج "العربي؟"، على إطاحة الأنظمة الوطنية في الدول التي تستهدفها وتنصيب دمى تابعة لها مكانها، "حامد كرزاي" في أفغانستان، وطراطير مجلس حكم بريمر في العراق (محمد بحر العلوم، ابراهيم الجعفري، أحمد الجلبي إلخ)، والطرطور "منصف المرزوقي" في قصر قرطاج. والأمر ذاته حصل في أوكرانيا ولكن بدأ ككوميديا سوداء ليتحوّل إلى كارثة بشريّة معاصرة. فهذه المرة لم تلجأ واشنطن إلى مقاتلين سابقين ككرزاي أو سياسيين وعملاء عريقين كالعراقيين المذكورين أعلاه أو حقوقيين كالمرزوقي، على الرغم من أنّهم كانوا طيّعين لخدمة مصالحها، بل اعتمدت في أوكرانيا تجربتها مع الدين السياسي، وخاصة الإسلام السياسي، وتحديدا "الإخوان المسلمين"، لأنّ هذا التيار عبْر العالم مُعادٍ لكلّ ما هو وطني، فراهنت في أوكرانيا على ما يُمْكننا تسميته "اليهوديّة السياسيّة"، ملتقطةً نجاح مسلسل "خادم الشعب" الذي لاقى إقبالا جماهيريا في أوكرانيا، وضربت الحديدَ الحامي، بتوظيف نجاح هذا المسلسل مُوعِزَةً إلى بطله الممثل الكوميدي "فولوديمير زيلينسكي" بأنّ يأخذ رخصة حزبٍ باسم المسلسل المذكور وأن يرشّح نفسه للانتخابات الرئاسية، ويبدو أنّه كان يخضع في ذلك لإملاءات المخابرات الأمريكيّة التي جنّدت كلّ إمكانياتها المالية والاتصالية لإنجاح هذا السيناريو مركّزة في حملتها لإيصال دميتها الجديدة إلى قصر الرئاسة في كييف على الجُّمَل والألفاظ البذيئة التي كان يستخدمها ضدّ الفساد في مسلسل "خادم الشعب". ولم يكن الممثل الكوميدي واثقا من أنّ ما قام به سيفضي إلى نتيجة "إيجابيّة" لدرجة أنّه لم يُخبِر زوجَهُ "إيلينا كياشكو" بأنه فعْلاً قدّم ترشّحه للانتخابات الرئاسية فعلمتْ بذلك من وسائل الاتصال الاجتماعية. وربّما كانت "إيلينا" في طليعة مَن فوجئ بنجاح زوجها المهرّج في الانتخابات الرئاسيّة في أوكرانيا. والمفارقة هنا أنّ الجماهير التي انتخبت "زيلينسكي" مأخوذة ككلّ قطيعٍ بعباراته البذيئة الحادّة ضدّ الفساد في المسلسل، هذه الجماهير لم تستفق مِن خَدَرِها عندما أُدرِجَ اسم "فلودومير زيلينسكي" عينه إيّاه في وثائق باندورا التي فضحت الثروات المخفيّة والتي تعود إلى عدد كبير من أثرياء العالم. فكما كشفت الوثائق المذكورة عن أنّ "زيلينسكي" والمقرّبين منه يُهَيْمِنُون على شبكة من الشركات المؤسسة في ملاذاتٍ ضريبية، دون ردّ فعل جماهيري أوكراني، بقيت هذه الجماهير غير معنيّة باعتراف "رئيسها الجديد" بفساده، عندما قال إنّ وثائق باندورا "لم تأت بجديد". فكيفَ تمّ توظيف "اليهودية السياسيّة"؟ المُتداوَل والمفروغ منه أنّ "فولوديمير زيلينسكي" هو أوّل يهودي يصل إلى منصب رئاسة الجمهورية في أوكرانيا بدفْعٍ من الصهيونية العالمية والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وبالتالي إنّ الأمر ليس كما يزعم البعضُ أنّه مُجَرَّد انتقامٍ ماكرٍ من الرئيس الأوكراني السابق "بيترو بورشينكو" دبّره "إيهود كولومويسكي" المساهم الأكبر في رأسمال القناة التلفزيونية التي بثّت مسلسل "خادم الشعب"، والذي غادر أوكرانيا إلى "إسرائيل" بعد خلاف حادّ بينه وبين الرئيس "بورشينكو".

الأمر أخطر من ذلك بكثير. لقد اختير "زيلينسكي" اليهودي رئيساً سرعان ما شكّل حكومة معظمها من اليهود الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية إلى جانب الجنسية الأوكرانية لكسْب دعم المراكز الصهيونية الفاعلة في الغرب وعبْر العالم، ضمْن خطة تجعل أوكرانيا "إسرائيل الكبيرة" قاعدة عسكرية غربية في خاصرة روسيا كما هو "الكيان الصهيوني" قاعدة عسكرية غربية في خاصرة المنطقة العربية، ومثلما قدّم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "ألكسندر هيج" الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة على أنه "حاملة طائرات أمريكية في العالم لا يمكن إغراقها" فإنّ "دانييل شبيرو" سفير واشنطن في تل أبيب بعهد "باراك أوباما" (وهو حاليا مستشار إسرائيلي لتكنولوجيا التجسس) طَرَحَ رؤيةً تكون أوكرانيا بموجبها "معقلاً للناتو مفرط التسليح، يمكن تحديد هويّته الوطنية من خلال القدرة على إبراز قوّة الولايات المتحدة ضدّ روسيا". وهذا لم يكن غائبا عن القيادة الروسية التي عدّت تلويح "زيلينسكي" بطلب "كييف" الانضمام إلى الحلف الأطلسي "الناتو" بمثابة إعلان حرب وجودية غربيّة تستهدف الاتحاد الروسي انطلاقا من الأراضي الأوكرانيّة، لذا كانت العملية الخاصة الروسية في الأراضي الأوكرانية عملية دفاعية.

وفي سياق تحديد هوية أوكرانيا "الوطنية" لاحقا تجدر الإشارة إلى أنّ "الدين السياسي" كالإسلام السياسي واليهودية السياسية والمسيحية السياسية (ومنها المسيحية الصهيونية) تتخذ من الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة نموذجا لإقامة كيانات تقوم على أساس ديني، وليس الهدف من ذلك إقامة خلافة إسلامية كما يزعم الإسلام السياسي، أو عودة اليهود من الشتات إلى فلسطين وظهور المشيح والانتقام من أعدائه كما تزعم اليهودية السياسية، أو تهيئة الوضع للعودة الثانية للمسيح ليكون على ذات الشاكلة التي كانت عليها فلسطين خلال صلب المسيح فينتقم الأخير من الذين صلبوه كما تزعم المسيحية السياسية..، بل الهدف هو توظيف هذه الخرافات الثلاث لخلق "فوضى خلّاقة" عبر العالَم، وخاصة في الدول التي تهدّد استمرارَ الهيمنة الغربية الأمريكية تحديدا على كوكبنا، بغية تفكيك هذه الدول وخاصة روسيا والصين وإيران بعد جعل المنطقة العربية في حالة موت سريري. وهذا يعني وضع "الدين السياسي" في مواجهة الدولة الوطنية عبر العالَم. وبناء عليه مثلما فرضت الصهيونية على اليهود المهاجرين إلى فلسطين لإقامة "وطن قومي؟" أن يتخلوا عن لغات الأوطان التي غادروها إلى المستوطنات الإسرائيليّة ويعتمدوا رسميا وشعبيا "اللغة العبرية" المصطنعة على قياس الكيان الصهيوني، فإنّ المرسوم للمزعومة "إسرائيل الكبيرة" التي يفترضون إقامتها في أوكرانيا متعددة اللغات والقوميات والأعراق والأديان أن يُفرَضَ على مستوطنيها اللغة الأوكرانية فقط، وفي هذا السياق صرّحت "إيلينا كياشكو" زوجة "زيلينسكي" قُبَيلَ تنصيب زوجها رئيسا " أنّ أسرتها وأسرة زوجها تنحدران من منطقة يتحدث جميع سكانها اللغة الروسية وأنّ اللغة الأوكرانية غريبة على العائلتين إلى غاية تسلّم زوجها منصب رئاسة أوكرانيا، وأوضحت أنّ زوجها "يبذل جهوداً كبيرة لتعلُّم لغة البلد الذي سيرأسه" مضيفة أنها سمعت باللغة الأوكرانيّة لأوّل مرّة في الصف الثاني وتعلّمَتْها من المعلّم كلغة ثانية، وأنّ زوجها "فلودومير يحاول تعميق معرفته باللغة الأوكرانية، ونحن نبحث عن أستاذ يساعده في التغلب على مشكلة وتيرة الحديث عندما يتحدث باللغة الأوكرانية".

إذَن كان يُفْتَرَض بهذا الرئيس الجديد أن يكون وطنيّاً روسيّاً وفقا لنشأته، لكنّه كسماسرة "الدين السياسي" مجرّد "يهودي" يفتقد الانتماء الوطني، وهذا هو رصيده "الذهبيّ" عند المخابرات الأمريكيّة.

هُوَ ذا القناع المحلّي الذي يضعه الغرب الأمريكي – الأوربي على وجهه الاستعماري إبّان خوض حربه القذرة الحاليّة ضدّ الاتحاد الروسي، رئيس يهودي لا يجيد اللغة القومية الأوكرانية يقود خليطاً من الجماعات اليهودية جنبا إلى جنب العصابات النازية الأوكرانية ، وتاريخ أوربا المعاصر يعلمنا أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تشهد تنسيقا بين الصهاينة (اليهودية السياسية) والنازيّة، فثمة وثائق عديدة عن التعاون الصهيوني النازي في حقبة هتلر، منها على سبيل المثال لا الحصر ما عُرِفَ بصفقة أو "اتفاقية هافارا" في ثلاثينات القرن الماضي والتي نجم عنها هجرة 55ألف يهودي ألماني إلى فلسطين المحتلة.

وهذا المهرّج الذي حوّل أوكرانيا إلى ساحة حرب غرْبيّة ضروس ضدّ روسيا على حساب مصالح الشعب الأوكراني وحقّه في الحياة الآمنة المستقرّة، يُذعن لإرادة أسياده الأمريكان بإبقاء أبواب أوكرانيا مفتوحة على جحيم الحرب حتى آخر جندي أوكراني. وفي الوقت نفسه يوجّه الخطابات المنافقة إلى الكنيست الإسرائيلي مطالبا بدعم إسرائيلي عسكري له في حربه ضد روسيا مذكرا بقول رئيسة وزراء الكيان الصهيوني السابقة غولدا مائير "نحن نريد أن نعيش وجيراننا يريدون أن يروننا أمواتا وهذا لا يترك مجالا للتسويات"، ومثل حيران غولدا مائير العَرَب فإنّ الروس(جيران زيلينسكي) يقتلون اليهود الأوكرانيين ويدمرون النصب التذكارية للهولوكست في كييف وقبر رابي يهودي في بلدة "اومن" التي يزورها آلاف الإسرائيليين سنويا. وعلى الرغم من ذلك يجد بين "أشباه الرجال" من الحكام العرب مَن يدعوه إلى إلقاء كلمة في آخر قمة عربية ببزّته العسكرية (؟) متسائلا إن كان هؤلاء الزعماء يرتضون أن يسلّموا شبرا من ترابهم للغزاة، وكأنّ الكيان الصهيوني الذي أعلن "زيلينسكي" أنه سينسج على منواله لإقامة "إسرائيل كبيرة" على أرض أوكرانيا لا يحتلّ دولة عربية بالكامل هي فلسطين إضافة إلى الجولان السوري المحتلّ وقرى لبنانية؟. ناهيك عن مخاطبة الزعماء في القمة كمسلمين لا كعرب عندما يتباكى أمامهم على استعادة روسيا لأراضيها التاريخية في القرم الروسيّة التي كانت سلطات الاتحاد السوفياتي قد فوّتت بها لأوكرانيا عندما كانت الأخيرة جمهورية سوفياتية، مركزا على أنّ سكّان القرم تَتَرٌ مسلمون تحت الاحتلال الروسي، متجاهلا أنّ هؤلاء التتر هم روس تاريخيا قبل أن يكونوا مسلمين، مثلهم مثل الفلسطينيين الذين هم عرب قبل أن يكونوا مسلمين ومسيحيين.  

وإذا كانت ذريعة وزير خارجيّة البلد المضيف للقمّة في استضافة "زيلينسكي" وإتاحة الفرصة له لإلقاء كلمة في جلستها الافتتاحية أنّهم أتاحوا للرئيسين الصيني والروسي أن يتكلموا إلى زعماء القمة العربية، فقد كان أحرى به أن يدعو الجانب الأمريكي المقابل لزعيميّ بكين وموسكو في صراع بين الغرب الذي يعتدي على القانون الدولي والشرق الذي يتمسّك به، وإن كان هذا الصراع على أرض أوكرانيا وغيرها.

وكان على البلد المضيف للقمة أن يأخذ في الحسبان أنّ زعماءها العرب ليسوا على موقف واحد من الصراع الدائر على الأراضي الأوكرانية، وبالتالي فإنّ تسلّل "زيلينسكي" وتسريبه إلى هذه القمة لا يستقيم مع زعْمِها أنّها قمّة التضامن العربي المنشود بل هو إبراز خلاف جديد وتظهيره بين القادة العرب، بينما المفترض تذويب الخلافات العربية-العربية!.

وعلى كلّ حال، إن كنّا لا ننتظر موقفا محايداً كي لا نقول مستقلّاً من سلطات قائمة في ظلّ القواعد الأمريكية، فإننا على يقين من أنّ مصير طرطور الغرْب "اليهودي" لن يكون أفضل من مصائر الطراطير المسلمين كحامد كرزاي الذي نصّبته واشنطن رئيسا لحكومة كابول بعد الهجوم الأمريكي على أفغانستان سنة 2001لتتركه يمتدح طالبان ويتذلل لها بعد أن عادت إلى الحكم على أعقاب انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان سنة 2021، ولا أفضل من مصائر طراطير بريمر العراقيين، أو طرطور تونس الذي عاد إلى باريس مطروداً من الشعب التونسي بعد أن قدمَ منها لتُسكنه حركة النهضة وإمارة قطر في قصر قرطاج، ومثل مصير هؤلاء ينتظر "طرطور كييف". ألم يَقُلْ "لوكاس غيدج" عضو المحاربين القدماء في مشاة الأمريكية البحرية: إنّ أوكرانيا ستستسلم في حربها ضدّ روسيا، وإنّ الرئيس "فولوديمير زيلينسكي" سيفرّ إلى "إسرائيل"؟