كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

واشنطن تبتزّ دول العالم بتهديد الأمن الغذائي!

هادي دانيال- فينكس:

   يرزح العالم منذ عقود تحت وطأة حروب المصالح الغربية وتداعياتها على شعوب العالم الثالث خاصة، ولا تكتفي السياسة الخارجية الأمريكية التي ينفذها البنتاغون والسي آي أي وأدواتهما المحلية عبر دول العالم بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية تحت شعارات زائفة كتصدير الديمقراطية ونشر ثقافة حقوق الإنسان المزعومتين، بل تستخدم العقوبات الاقتصادية التي لا تقلّ إجراما ووحشيّة على الدول المُسْتَهْدَفة أمريكيا، كتلك العقوبات التي تمّ فرضها على العراق وليبيا قبل غزوهما واحتلالهما عسكريا ونهْب ثرواتهما بعد إطاحة النظامين الوطنيين في بغداد وطرابلس وتدمير مؤسسات الدولتين المذكورتين وترك مجتمعيهما في مهبّ فوضى الميليشيات المسلحة وإعادة هذين المجتمعين إلى علاقات ما قبل الدولة، والأمر ذاته بل أقسى وأمرّ في أفغانستان، كما تشمل هذه السياسة الأمريكية عسكريا وأمنيا الجمهورية العربية السورية منذ اثني عشر عاما، وزاد فرْض قانون "قيصر" في تداعياتها حدّة.

وتزعم الإدارات الأمريكيّة دائماً أنّها تفرض العقوبات الاقتصادية على حكومات الدول المُسْتَهدفة، لكن كما أنّ حروبها العسكرية (ذات الأهداف الديمقراطية والإنسانية المزعومة) لا تؤدّي إلى غير قتل المدنيين الأبرياء وتهجيرهم وزيادة عدد اللاجئين إلى خارج الدول التي تدمر السياسات الأمريكية مؤسساتها وتنهب ثرواتها، فإنّ العقوبات الأمريكيّة والغربيّة بعامّة (التي تزعم السياسات الأمريكية أنها تستهدف الحكومات) لا تؤدّي إلى غير إفقار وتجويع الشعوب وحرمانها من أبسط الحقوق الحيوانية (شروط البقاء أحياء) ناهيك عن الحقوق الإنسانية كالتعليم والرفاه إلخ.

وهذه السياسات الأمريكية، التي يتورّط فيها الغرب الأوربي وكندا واستراليا بالمشاركة فيها أو الصمت المتواطئ ازاءها، والتي تسببت بالحرب في أوكرانيا، وتستخدم العقوبات الاقتصادية على روسيا، تؤدّي الآن إلى تسييس الأمن الغذائي العالمي، وخاصة العربي والإفريقي، ودفعه إلى أزمة حادّة قد تفضي إلى تجويع شعوب بأسرها، وخاصة شعوب الدول التي يقوم أمنُها الغذائي على استيراد القمح والذرة والسماد الزراعي من روسيا وأوكرانيا. وإذا كانت الشعوب العربية في العراق وليبيا وسوريا على سبيل المثال هي المتضرر أوّلاً وأخيراً من العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربيّة على حكوماتها، فإنّ هذه الشعوب ذاتها يضاف إليها بقية الشعوب التي يعتمد أمنُها الغذائي على استيراد القمح والأسمدة من روسيا وأوكرانيا كمصر وتونس ولبنان وغيرها، هي المتضرر الأساسي من العقوبات الاقتصادية على روسيا، فقد أكّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مطلع العام الحالي لتلفزيون روسيا1 الرسمي أنّ الاقتصاد الروسي مستقر" أفضل بكثير ليس فقط مما توقعه خصومنا ولكن مما توقّعناه نحن". لكنّ العقوبات تقفل السوق العربية والسوق الأفريقية في وجه موسكو، ذلك أنّ العقوبات على البنوك الروسية تحول دون تمكين الدول العربية والأفريقية من إبرام أي صفقة استيراد قمح وأسمدة من الاتحاد الروسي، بل وحتى من إيصال الأسمدة الزراعية الروسية بأسعار رمزية أو حتى مجانا إلى هذه البلدان، وبالمقابل فإذا كان بمقدور روسيا إيجاد بدائل للأسواق العربية والأفريقية في الصين وغيرها من دول البريكس، فإنّ الدول العربية والإفريقية تصبح رهينة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي اللذين سيقايضان سيادة هذه الدول بالغذاء. فعلى سبيل المثال لم تكتف الولايات المتحدة وأتباعها في الاتحاد الأوربي من الضغط على صندوق النقد الدولي لجعْل مَنْح تونس قرضا ماليا قدره مليار وتسعمائة مليون دولار أمريكي على أربع سنوات رهينة تقديم تونس تنازلات سياسية داخلية وخارجية، بل إنّ السفير الأمريكي الحالي لدى تونس أطلق إشاعة في أواخر شهر رمضان الماضي، مفادها وصول باخرة محملة ب25ألف طن من القمح الأمريكي الصلب إلى الشعب التونسي للتخفيف من النقص في توريد القمح إلى تونس، ليتبيّن لاحقاً أنّ السفير الأمريكي كان يكذب، والهدف من كذبته الجديدة ، إيصال رسالة مفادها أنّ "العديد من الدول حول العالم تواجه زيادات في أسعار المواد الغذائية وتحديات الأمن الغذائي التي تفاقمت بسبب الغزو الروسي على أوكرانيا"، وبالتالي فإنّ هذا السفير "جوي هود" لم يجد حرجا في الاعتذار عن كذبته هذه لاحقاً، خاصة بعد إعلان ديوان الحبوب التونسي "اعتذار السفارة الأمريكيّة عن تسرّع السفير في الإعلان عن هذه الشحنة المزعومة من القمح الأمريكي الصلب!". لقد أراد السفير الأمريكي المذكور ، بإطلاق كذبته هذه بصوته وباللغة العربية التي يتقنها، أرادَ القوْلَ إنّ القمحَ الأمريكي يمكن أن يعوّض القمح الروسي والأوكراني فقط للدول التي تنخرط إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب التي تشنّها على الاتحاد الروسي بدءاً من الأراضي الأوكرانية، مُلقيا اللوم على روسيا لا على حكومة الرئيس الأوكراني المتصهين "زيلنسكي" التي يتم مدّها بأحدث الأسلحة الأمريكية لإطالة الحرب إلى آخر أوكراني، والحؤول دون وصول القمح الأوكراني أيضا إلى البلدان التي كانت تستورده لمفاقمة أزمة الأمن الغذائي الحادة وابتزاز حكومات وشعوب العالم بتداعياتها. والإدارة الأمريكية بذلك تضيف إلى جرائمها في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا المزيد من الجرائم التي تمس "العديد من البلدان حول العالم"، والذين عليهم أن يتذكروا أنّ وزيرة خارجية واشنطن السابقة "مادلين أولبرايت" سبقَ أن صرّحت بأنّ وفاة مليون طفل عراقي من جراء الحصار الشامل على العراق الذي دام ثلاث عشرة سنة قبل الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين "ثمن معقول مقابل إسقاط نظام الرئيس صدام حسين" على حدّ تعبيرها. فأيّ ديمقراطية وأيّ حقوق إنسان يستوجب الوصول إليهما قتل مليون طفل قتْلاً عَمْداً؟!.