كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بمناسبة الاحتفال بيوم اللغة العربية في منظمة اليونسكو بتاريخ 18 كانون الأول

مروان حبش- فينكس

الكلمة واللغة
للكلمة تاريخ طويل، وعالم الكلمة عالم مركب وليس بسيطاً، وبخطوات تمهيدية جهد الإنسان نفسه في اجتيازها ليصل إليها، وبها أصبح الإنسان إنساناً، وبها استطاع الفكر أن يدرك الأنواع، وانفتح أمام التطور العقلي له طريق جديد ليست له نهاية يقف عندها. والكلمات المجردة تتكون وتتزايد مع تقدم الفكر، لأن بينها وبين الفكر علاقة السبب والمسبب، وهي بعد تكوينها تصبح أدوات تعين على دقة التفكير، ورموزاً تدل على الحضارة.
الكلمة موقف، وهي تطبع الإنسان بالمسؤولية، وتدفعه للبحث عن حدودها وأسلوب نموها. والكلمات وثيقة الصلة بإدارة الحياة، وتؤدي عملاً أو تواجه نفوذاً وتأثيراً معيناً، ومن خلالها تنمو المعاني التي تتألف منها ثقافة الشعوب.
تطورت الكلمة حتى أصبحت رموزاً أو أدوات ذهنية للتفكير. ونمت وتطورت عبر الأنواع والعصور والتكيفات البيولوجية والاجتماعية والجغرافية. ويبدو أن الإشارات كانت لها الأهمية الأولى ويأتي الكلام في المنزلة الثانية في تبادل الفكر في العصور الأولى، وكان هذا المكون الإشاري هو السبيل الوحيد للاتصال بين الأفراد، ثم أخذ يتطور اتساعاً وعمقاً وتعقداً، وانتقل من إشارة اليد إلى نطق الفم، ومن لغة أولية إلى لغة نحوية يتخللها مكون صوتي ظل ينمو ويتعاظم باطراد، إلى الكلام الحديث المعتمد على الأداء الصوتي.
. يبدو تصورنا عن اللغة تصورا أزليا، فاللغة نشأت منذ الأزل وتمتد حتى فناء الكون، من الكلمة تنشأ اللغة كجهد إنساني في التعرف والتمييز، وهي سبيل للتقدم والتحضر والتكوين، ولا يمكن الإدراك بدونها وهي انعكاس العالم على وعي الإنسان. ووسيلة ضرورية لتنمية الأفكار وتوصيلها.
إن الكلمات لم تكن وسيلة التفكير الواضح فحسب، بل كانت سبيلاً لإصلاح التنظيم الاجتماعي كذلك، لأنها ربطت بين الأجيال المتعاقبة ربطاً عقلياً وثيق العرى، بأنْ هيأت لهم وسيلة أصلح للتربية من جهة، ولنقل المعارف والفنون من جهة أخرى، فبظهور ألفاظ اللغة ظهرت أداة جديدة تصل الأفراد بعضهم ببعض، بحيث يمكن أن تصُبَّ أفراد الشعب في قالب واحد متجانس، وفتحت طرقاً جديدة لنقل الآراء وتبادلها، وزادت عمق الحياة زيادة كبيرة، كما وسعت نطاقها ومضمونها، واخترعت الاسم الكلي "أي الاسم الذي ينضوي تحته كثيرون". ولا بد من وحدة لغوية، إلى حدٍ ما، لنشأة الحضارة، لتكون بين الناس وسيلة لتبادل الأفكار ونقل الثقافة على مر الأجيال. وللإنسان من قدرته العقلية ما يطور به مكتشفات المصادفة إلى مخترعات مفيدة. واللغة بقدرتها البنيوية، أداة التقدم والحضارة والإنسانية، وهي جهاز مهندس بإتقان لوصف الأماكن، والناس، والأشياء، والأحداث، وحتى الأفكار والمشاعر. ونقل الأخبار والخبرة للآخرين، ولغة الإنسان التي هي اتصال عن طريق الرموز، فيها من التعقيد والإبداع بما لا يضاهى.
هناك تباينات عديدة بين الباحثين حول منشأ اللغة، فهناك من يعتبر منشأ اللغة كان نتيجة لعملية تواطؤية، لأن الأسماء تُعطى للأشياء من لدن الإنسان. وبعضهم اعتمد على الملكة اللغوية ومبدأ العقل التوليدي الذي يستطيع أن يبتكر في اللغة. وعلماء يقولون إن اكتساب اللغة يتم بعملية تدريجية، والتمكن من اللغة هو تعبير عن ذكاء عام. وهناك نظريات فلسفية تقول إن اللغة اجتهاد بشري محض وليد الحاجة والرغبة في التفاعل والاستئناس. وتدعي نظرية الغريزة الكلامية نشأة اللغة بأن كل إنسان مزود بغريزة خاصة كانت تحمله على التعبير عن كل مدرك حسي، أو معنوي بكلمة خاصة ولذا اتحدت المفردات والتعابير عند الإنسان الأول، وأنه بعد نشأة اللغة لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة، فانقرضت. وتأتي نظرية النشوء والتناسل لتفترض أن اللغة بالطفرة وبشكل تلقائي؛ أي أن اللغة نشأت متكاملة ثم أعقب نشأتها التوالد والتكاثر، وتعتمد هذه النظرية على نظرية التطور الداروينية. وتتبنى نظرية "يو-هي-هو" ( (yo-he-hoفكرة أن اللغة الإنسانية بدأت بمقاطع عفوية غير مقصودة ناتجة عن استخدام الإنسان لقدراته البدنية ومن ثم تطورت اللغة لتصبح تلك المقاطع العفوية أناشيد وأهازيج، أي أن اللغة هي "فعل انفعالي محض تولد في لحظات الخوف والفرح والرغبة. ووفقا لنظرية "بوووه-بوووه" ((pooh-pooh) فإن اللغة قامت بدافع غريزي لدى الإنسان للتعبير عن انفعالاته تماما فيصدر أصواتا مثل: "أخ، أوف، آه، أووه" وكانت هذه الألفاظ متطابقة في دلالتها لدى الجماعة الإنسانية بأكملها مما أحدث تفاعلا بينها. أما النظرية الإشارية التي تعزى إلى كونديلاك فيلسوف القرن الثامن عشر، وأخفاها تحت قناع "الحكاية الخرافية"، فهي تدعو إلى ملاحظة أكثر ما يفعله الناس بأيديهم عندما يتكلمون. وتجاه هذه التباينات قررت الجمعية اللغوية في باريس في العام 1866 بحظر كل المناقشات حول تطور اللغة، لغياب الدليل. ويقول عالم الوراثة ستيف جونز في كتابه (مثل الحوت تقريباً): (نحن جميعاً نملك العقل الواعي ولكن محاولة تخمين تطوره، هي انشغال بما لا طائل منه، ولعل اللغة تندرج في الفئة نفسها). ويرى مؤلف كتاب "في نشأة اللغة " مايكل كوربالس من جامعة برينستون الأمريكية، أن لغويي باريس كانوا أكثر تشدداً من المقبول، وأن جونز كان أكثر تشاؤماً مما ينبغي، وأن قدراً لا بأس به من الشواهد تشير إلى تطور اللغة، وبرأيه أن اللغة تطورت لا من النداءات الصوتية لأسلافنا من الرئيسات، بل من إيماءات أيديهم ووجوههم.