كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ستبقى سورية علمانية

يعقوب كرو:

بعد حالة لافتة من الإرباك والتناقض في تصريحات عدد من المسؤولين المعنيين، جاء ليثير نوعاً من الارتياح توضيحُ المكتب الصحفي لرئاسة مجلس الوزراء الذي أكد أن رئاسة المجلس لم توافق شكلاً ومضموناً على مشروع قانون الأحوال الشخصية، ومؤكداً أن المشروع البديل الذي سيجري إعداده سيُدرس وفقاً للآلية المعتمدة في الدولة في دراسة مشاريع القوانين. ومع ذلك فقد ظل الغموض سيد الموقف، وبالتالي لم تتبدد تماماً مشاعر الريبة وعدم الاطمئنان، وبخاصة مع إشارة هذا التوضيح إلى أن المشروع قد أعيد إلى وزارة العدل، أي إلى المرجع نفسه الذي أشرف على إعداده. وهو ما يترك المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات، ومنها تكليف اللجنة (السرية) نفسها، أو بعض أعضائها، بإعداد مشروع جديد من الطينة نفسها أو تعديل عدد من بنود هذا المشروع- الفضيحة.
من حقنا أن نستغرب إصرار البعض غير المبرر على السرية ورفض اعتماد الشفافية لدى إعداد مشروع قانون بمثل هذه الأهمية والتأثير على حياة المجتمع وفعاليته وحيويته ووحدته، وأن يغيّب الشعب صاحب العلاقة و يترك لما يمكن أن يصله من تسريبات تنتشر من هنا ومن هناك. مع أن الحياة تؤكد أن ما يطبخ في السر ولا نقول في الظلام لا بد أن يثير الكثير من التساؤلات والمخاوف.
من الطبيعي أن يختلف السوريون أحياناً، كما يجري في سائر البلدان، حول الموقف.من بعض التدابير والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك انطلاقاً من مواقفهم الفكرية المتباينة، ومدى فهمهم لقضية العدالة الاجتماعية وأبعادها الوطنية، إلا أنه ما من وطني سوري، ناهيك بالديمقراطي المتنور، يمكن أن يختلف أو يتردد في رفض أن تهيمن قوى الظلامية السوداء على سورية الحضارات والمحبة والتآخي.، وأن يُدفع بدمشقها وبشعبها إلى كهوف تورا بورا.
سورية التي نفخر بأنها الرئة التي ضخّت الحضارات عبر التاريخ، ويحرص شعبها على تأكيد وفائه لتاريخها هذا، والتي حرصت دوماً على تعزيز تلاحم مكوّناتها رافعة شعار (الدين لله والوطن للجميع). سورية التي تعتز بعشتارها، و منها خرجت زنوبيا ملكة تدمر، والتي قدمت ثلاث إمبراطورات إلى روما، و كانت سباقة في تمكين المرأة من ممارسة حقها في التصويت والترشيح، ومن أن تتبوأ أعلى المواقع في المجتمع والدولة، وكان آخرها موقع نائبة رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة. سورية التي شاركت نساؤها مع رجالها في إطلاق عصر النهضة العربي، والتي يستمر النضال فيها من أجل إزالة مختلف مظاهر وأشكال التمييز ضد المرأة،سواء في نصوص بعض القوانين أم في المجتمع، والتي كانت تتوجه لإلغاء التحفظات غير المبررة على اتفاقية سيداو لولا نجاح ضغوط بعض القوى الظلامية مع الأسف.... سورية التي تؤكد أحزابها العريقة، إيمانها بالعلمانية وبفصل الدين عن الدولة. سورية هذه يراد لها، في هذا الوقت بالذات، ونحن نتابع بقلق واستنكار تنامي المظاهر والممارسات الظلامية في عدد من البلدان العربية والمحيطة، أن تعود هي الأخرى إلى القرون الوسطى الأشد ظلامية.
لسنا في مجال مناقشة هذا المشروع الذي يمس المجتمع بأسره، وحيوات أسره وأفراده، فقد كانت( النور) في مقدمة من تصدّوا له، وقيل في تفنيده الكثير ولم يترك في (بنائه) حجر على حجر، وإنما نود أن نتوقف عند ما يشكله صدوره من مؤشر فاقع على مدى تغلغل القوى الظلامية إلى مفاصل هامة في صنع القرار ومواقعه، ومدى تنامي قدرتها على التأثير، وبالتالي فهو ناقوس خطر يُقرع محذراً كل من تهمه مصلحة هذا الوطن ومستقبله.
وإذا كان جليّاً مدى تجذر النزعات الظلامية في أعضاء اللجنة المكلفة بتدبيج هذا المشروع - الدخيل، فإن ما هو أشد إثارة للقلق بل الأشد خطورة ليس هوية أعضاء هذه اللجنة وتوجهاتهم الطالبانية فقط، وإنما هو بخاصة في القوى التي تقف وراء تزكية هؤلاء الأعضاء وتسميتهم، والتي يفترض أنها تعرف من أية طينة قد جبلوا. ويعزز هذا الافتراض إحاطةُ عمل اللجنة هذه وأسماءِ أعضائها بسرية تامة، وحتى الآن، وهو ما يشير إلى تصميم مسبق من هذه القوى على الوصول إلى ما وصلت إليه وتمخضت عنه هذه اللجنة. فمن يضع في المطحنة شعيراً، بل أسوأ أنواع الحبوب، لا يمكن أن ينتظر منها طحين قمح، بل لا يمكن أن يُقنع عاقلاً أنه قد فوجئ بنوع الطحين المغاير.
من المعروف أن العديد من المسؤولين، ومن أعلى المستويات، وفي مقدمتهم السيد الرئيس، لم يكفّوا عن التأكيد، وباعتزاز، أن سورية دولة علمانية. فهل كانت القوى التي تقف وراء وضع هذا المشروع، تهدف في ما هدفت إليه، إلى قطع الطريق على هذه التأكيدات ومنعها من أن تتحول إلى واقع عملي فتتجسد في قوانين وممارسات؟
إذا كان مشروع القانون هذا، برغم الإعلان عن رفضه شكلاً ومضموناً، سيبقى علامة سوداء في تاريخ سورية، فسيبقى، في المقابل، هذا الرد المجتمعي العفوي الغاضب، والذي جسّد إجماعاً وطنياً شاملاً على رفض هذا المشروع الدخيل، معبراً بجلاء عن وفاء شعبنا لتاريخه الوطني والحضاري وتصميمه على مواصلة السير على طريق التقدم الاجتماعي، وإدانة كل ما يهدف لإعادة وطننا إلى الوراء أو يمس تلاحم مكوناته ووحدتها، سيبقى هذا الرد المجتمعي المفعم صدقاً وإخلاصاً ووطنية مثار اعتزاز وطننا وشعبنا، ودرساً لكل من لا يأخذ بالحسبان رأي هذه الشعب.
بقي أن نقول إن هذا المشروع لا يحتاج إلى تعديل وإنما إلى إعلان البراءة الكاملة منه ووضعه في سلة مهملات التاريخ، وإن ما يحتاجه الوطن والمجتمع اليوم هو قانون للأسرة عصري وعلماني ينسجم مع تاريخنا الوطني ويقوم على أساس تعزيز مبدأ المواطنة والمشاركة، وعلى أساس المساواة التي يؤكدها الدستور. وهذا يتطلب لجنة جديدة من الهيئات المعنية بهذا الأمر، ومنها الهيئة السورية لشؤون الأسرة وهي هيئة مختصة بمستوى وزارة جرى استبعادها رغم امتلاكها منذ سنوات مشروعاً متكاملاً للأسرة، وكذلك الاتحاد العام النسائي وممثلين-ات عن الحركة النسائية ومؤسسات المجتمع المدني والوطني.
فلتكن السيادة للشفافية ولتفتح النوافذ لاستقبال الشمس والهواء النقي.
وليكن الحوار المفتوح، وعلى أوسع نطاق ممكن، هو الطريق للوصول إلى أفضل القوانين وأضمنها لمصالح الشعب والوطن.
ونلفت في هذا الإطار إلى أن لدى مجلس الوزراء مبادرة هامة لم تلق نصيبها من العناية المطلوبة، وهي الموقع التشاركي الذي جرى إطلاقه لتنشر عليه مشاريع القوانين وتلقي الآراء وإجراء الحوار والنقاشات حولها. ونحن نرى ضرورة تفعيل هذا الموقع ليقوم بدوره المطلوب. ولينشر فيه مشروع قانون الأحوال الشخصية البديل الذي وُعد بإعادة صياغته.
ونجدد تأكيدنا أن صدر صفحات (النور) مفتوح لتلقي ما لدى المهتمات والمهتمين بقانون أسرة عصري وعلماني من مقترحات وآراء.
النور- العــــــــدد 401 ـ الأربعــــــــاء 19 آب 2009