كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سيرورة الديمقراطية

مروان حبش- فينكس:

من المعروف أن الربع الأخير من القرن الماضي شهد تغييرات في بنية الأنظمة السياسية لبعض الدكتاتوريات كالبرتغال واليونان، ثم اسبانيا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، وتلتها دول المعسكر الاشتراكي، وأثرت فيما حدث في دول شرق وجنوب شرق أسيا، مغيرة بذلك، ومن الأساس، خارطة الجغرافية السياسية للكرة الأرضية، وبعد انتهاء الحرب الباردة ازداد التمسك بالمبدأ الديمقراطي. وكانت المضامين السياسية التي أسفرت عنها هذه التغيرات عظيمة الأهمية، وهذا يؤكد بأن ما يحدث في بلدان ما لا يجري بمعزل عن بقية العالم، وأن مسألة أزمة الأنظمة الاستبدادية لها جذور بنيوية تؤدي إلى اهترائها وسيطرة حالة من الجمود شاملة لكل وظائفها. لأن النظام الاستبدادي يستبدل السياسة بالإدارة في المجتمع، وتطرح المصاعب الناشئة عن ذلك مسألة شرعية بقاء هذا النظام السلطوي ومدى نجاعة أو جدوى استمراره في الحكم، ومدى قدرة الحكام أنفسهم على الاضطلاع بمسؤولية الحكم وحقهم فيه، وهنا يُطرح سؤالٌ فيما إذا كان يحسن بالحكام أن يحاولوا التمسك بالسلطة، أو أن يفتشوا عن أساليب للتخلي عنها، وما هي الأسس والشروط التي إن توفرت ستتخلى الأنظمة السلطوية بموجبها عن السلطة.
تمر كل أنماط الأنظمة السياسية بحالات من التأزم تؤثر سلباً على تماسكها ووحدة صفوفها في أوقات مختلفة، ولكن الخطر الذي يتهدد الأنظمة الاستبدادية ناجم عن ضعف الأساليب المؤسسة لحل النزاعات والانشقاقات الأمر الذي يقود في النهاية إلى حالة معروفة من عدم الاستقرار، ويفاقم المشكلة ما يمكن أن تتضمنه مثل هذه الخلافات من تهديد لشرعية النظام.
إن الانقسام داخل النظام السلطوي هو الأمر الحاسم وجذر كل تحول، وهذا يفسح المجال لمشاركة شعبية وتعبئة عامة للسكان. كما أن الآليات المحلية هي الأساس في إجبار النظام الاستبدادي للتحول نحو الديمقراطية وليس الضغط الدولي الذي يركز جهده لإحداث بعض التغيير في سلوك الدولة المستهدفة، أو تشجيع انقلاب داخلي فيها.
إن النظام المستبد يبتعد عن الدمقرطة لأنها تدخل لاعبين جدد من خارج النظام في اللعبة السياسية تحدُّ من سيطرته على اللعبة وشروطها، وتكشف الغطاء عن مصالح النخبة الحاكمة. وهي ضرورية لفشل أداء النظام السلطوي على كافة الصعد، وعدم قدرته الاستجابة أو التعامل مع المصاعب الناشئة التي تلحق الأذى والضرر بقطاعات كثيرة من المجتمع.
إن معالجة آليات سيرورة الديمقراطية تبقى من أكثر المسائل إلحاحاً، والسيرورة نحوها تمر عبر مراحل ثلاث: اعتلال النظام- التحول الديمقراطي- الاستقرار الديمقراطي، وتناقش ضمن سياق تحول النظام وليس ضمن سياق اعتلاله. وكلما وقفنا على عالم جديد علينا أن نتطلع إلى ما وراء عالم آخر. و أن لا تكون العلاقة المتبادلة علاقة عِلَّةٍ بأثر. كما أن أساليب التحديث المختارة في بلد معين تحدد تجربة التحديث الديمقراطية، أو عملية الدمقرطة.
إن أمر نشوء نظام ديمقراطي تنافسي مستقر يرتبط: بنمط الثقافة السائدة في البلاد، وبوجود ارتباط بين الثقافة المدنية والأشكال الديمقراطية، وبوجوب الإقرار بشرعية التعددية، وبالقيم العقلانية، وبدرجة التطور الاقتصادي وثروة المجتمع، وباتفاق وطني على الديمقراطية، كما أن البنى المؤسسية، والقوى الفاعلة، هي ظواهر اجتماعية- تاريخية تطرح نفسها على القوى السياسية وتسهم في تأطير خط التحول الديمقراطي، والغاية من ذلك هو دمقرطة النظام السياسي.
لا يمكن فهم الديمقراطية واختزالها في مجموعة مبادئ إجرائية ترتكز على مفاهيم المنافسة الشعبية والرقابة من خلال العملية الانتخابية. ولا شك في أن السعي من أجل نظام انتخابي فعَّال ومن أجل خلق نظام حزبي دليل على الإقرار بدور يلعبه الناخبون في النظام السياسي، لكن الاقتصار على هذا الفهم يجرد الديمقراطية من مُثُلها المعيارية "القيمية". لذا لابد من وجود نظام حزبي متطور وراسخ، وهو يُعَدُّ أمراً هاماً على طريق قيام نظام ديمقراطي ناجح، كما يُعَد الدور البارز للأحزاب عنصراً منطقياً، إن لم يكن جوهرياً في سيرورة التحول. ولابد، أيضاً، من توفر الثقافة السياسية الديمقراطية: التسامح- الاعتدال- امتلاك الذات- العقلانية بخصوص السياسة والمعارضة السياسية- التدرج لخصوص التغيير- وجهات نظر وأراء أكثر غنىً- المساهمة والمشاركة في السلطة- تفكيك الروابط والعلاقات ما قبل المواطنة "عائلية، طائفية، عشائرية"، ونشوء روابط واتحادات مهنية خاصة ومنظمات اجتماعية حرة ومستقلة، أي نشوء مجتمع مدني، ومن خلال مؤسسات هذا المجتمع تتأسس شبكة الأنشطة والمشاركة الشعبية التي هي أساس في أي مفهوم يعني الديمقراطية، ويعتبر المجتمع المدني المهاد الأساس للديمقراطية الناجعة، ووجوده في الحياة السياسية ينفي إمكانية احتكار الحياة السياسية من قبل فصيل واحد واقصاء الآخرين.
إن الأمر الأساس الحاسم لقيام مجتمع مدني هو اعتراف كل من الدولة والمجتمع المدني أحدهما بالآخر، وبمشروعية حقه في العمل والنشاط دون معوقات ضمن مجالات معلومة ومحددة لأهليته واختصاصه، ومنها المجال السياسي، لأن النشاط السياسي شرط أساسي وحاسم لقيام مجتمع مدني يعطي تغيير النظام وجهة ديمقراطية، وعلى المستوى الفلسفي لا يمكن تحقيق هذا المجتمع إلا من خلال تقوية وتعزيز الديمقراطية وإدارة الشؤون العامة بانفتاح وشفافية ومشاركة واسعة تتناسب وتتلاءم مع إطار أو بنية الديمقراطية.
إن السبيل الذي يتخذه تطور المجتمع المدني وإنتاج هذا التطور لعناصر أو قوى مؤثرة في انجاز ترتيبات سياسية مستقبلية وقادرة على لعب دور ما، يؤكد أثر التنظيم المؤسسي الدقيق، ووجود مؤسسات مجتمعية ذات اقتدار تمثل القوى الاجتماعية في عملية التحول نحو الديمقراطية، وأثر ميزان قوى المؤسسات المختلفة في تحديد موقف اللاعبين الرئيسيين، كما أن مسألة العلاقة المتبادلة بين النظام والمجتمع المدني، يجب مناقشتها من زاوية استقلالية الدولة وحيادها.
يمثل حضور قوى هذا المجتمع إحساساً فعلياً بالخطر المحدق بالنظام عندما يعاني نكسات أو أزمات، لأن تلك القوى تنطوي على إمكانية تحريك تعبئة شعبية، ومن ثم عزل للنظام، وفي ظل مثل هذه الظروف تهبُّ نخبٌ، غالباً، للتنسيق والتعاون تبديل النظام أو الحلول الوسط، وترى فيه الخيار الأفضل على المدى المنظور يضمن بقاءها أمداً أطول.
ولا بد من التنويه بأن هناك مقاربة لبعض علماء الاجتماع السياسي تقوم على ربط الخيارات الاستراتيجية بالعوائق البنيوية القائمة، ويؤكدون على ضرورة وأهمية وجود وحدة وطنية كشرط مسبق وأولي للديمقراطية، ويطرحون خمسة ميادين متفاعلة وداعمة يرونها أساسية وحاسمة في سياق تحقيق ديمقراطية راسخة وهي: مجتمع مدني حر وحي- مجتمع سياسي متطور ومستقل نسبياً- حكم قانوني يتيح ضمانات قانونية لحرية المواطنين- جهاز دولة يمكن أن يُعوَّل عليه لتستخدمه الحكومة الديمقراطية- مجتمع اقتصادي مؤسسي قائم على مبادئ ومؤسسات.
إن الأنظمة التي تربط شرعيتها بوعد للتحول مستقبلاً إلى الديمقراطية تتلخص مسألتها في معرفة الشروط أو الظروف الواجب توفرها لتتيح خلق نظام حكم ديمقراطي، وما هو المعيار أو المقياس الموضوعي لتقدير متى تنضج أو تتهيأ الشروط الميسرة لنشوء نظام حكم ديمقراطي، وهكذا يصبح هذا الواقع سبباً قوياً محتملاً لعدم موافقة بعض قادة الأنظمة على التحول نحو الديمقراطية، وتدمر سيرورتها، وقواها الحاملة لها.