كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحرب الثقافيّة..

د. نادية خوست:

لماذا العتب على ياسر العظمة؟ هل كان في فنه الساخر مثل شارلي شابلين أو مثل دريد لحام؟ أم كان أقرب إلى لوريل وهاردي؟ هل كان يعتمد السخرية التي تكشف جوهر الواقع لتستنهض منه وتوسع الفكر وتغني المعرفة، أم كان يخترق الخط الفاصل بين السخرية والتهريج؟ مصادفة تفرجت على مقاطع كوميدية مثّلها زيلينسكي في فيلم فكاهي. بدا مهرجاً تافهاً يستخدم رشاقة الحركة في الإضحاك السخيف. ورأيته في فيديو يعزف على الغيتار ونصفه الأسفل عار. فبدا مساره اللاحق متصلاً بنهجه الفني.
في فن السخرية، قدم مسرح أبرازتسوف للدمى تحليل شخصيات وأوضاع اجتماعية. ونشر البهجة على أجيال من المتفرجين. تلك السخرية فن حقيقي! يشهد أنه لابد للفن من الثقافة الواسعة التي تفحص الظواهر، وتلامس الجوهر، وترشد الموهبة، وتربي المنظومة الأخلاقية التي تقود الفنان.
ألا نتعلم من دراسة علم الجمال، أن السخرية قد تكون من أخلاق وأوضاع وقد تكون من الإنسان لتحط منه؟ لذلك نشعر بالحنان والرحمة والتعاطف عندما نتفرج على أفلام شارلي شابلين، ونضحك على البحث عن الذهب. ونرى مسرحيات دريد لحام أعمالاً فنية تكشف رؤية.
قد يبدو لنا أن مشاركة فناني النخبة السوريين في مهرجانات ومسلسلات منحطة، لحظة جديدة من الحرب الثقافية.
كأننا نسينا أنها بدأت منذ بدت الثقافة كمالية، وانزلق شعار "الثقافة هي الحاجة العليا للإنسان"! وضعفت في السياق المناهج المدرسية!..
كأننا نسينا أن سميرة مسالمة رئيسة تحرير جريدة تشرين، التي قالت إنها تستند إلى دعم رئيس الوزراء آنذاك، رعت ملحق أبواب الذي لمّع كتّاب الجنس، وكلأ من أصبحوا معارضة خارجية، و"كتاب في جريدة" الذي دس السم في الدسم!..
لذلك ننظر دون دهشة إلى أداء ياسر العظمة الأخير. فالحرب الثقافية تتقدم الحربَ العسكرية وتواكبها، مسددة على المقاتلين المسلحين بمنظومة أفكار تؤهلهم للموت في سبيلها، وعلى البنية التي تسندهم مسلحة بتلك المنظومة الفكرية الأخلاقية..
تستخدم الحرب الثقافية لكسر معنوياتهم وتصغير ما يؤمنون به، الإشاعات والمنشورات والقنوات التلفزيونية والمهرجانات الملونة والمسابقات، وقنص شخصيات مشهورة فنية أو سياسية..
تستند المعنويات التي تقاوم هذه الأسلحة المدججة بالمال، إلى المنظومة الفكرية العامة التي تتضمن ما تعلّمه المدرسة، والمثل التي يؤسسها الفضاء الوطني العام، الأسرة، والأحزاب، والكتب المنشورة، والأساطير المنقولة، والتراث المعماري، والذاكرة العامة المجسدة في أبنية وشوارع وساحات وغابات وأنهار تربي البنية الروحية في مكان محدد يسمى وطناً...
أداء ياسر العظمة، والمسلسلات السورية اللبنانية المنسوخة عن المسلسلات التركية، جزء فقط من الحرب الثقافية المسددة على الروح لتصغير الوطن وتغيير تلك المثل والأفكار والأخلاق. وهي خط في سياق الاتفاقيات التي اشترطت تدريس الهولوكوست في الكتب المدرسية والجامعات..
قبل ثلاثة عقود، استخدمت الحرب الثقافية في التمهيد لإلغاء الاتحاد السوفييتي. فاتّهم ستالين، قائد الحرب الوطنية العظمى ضد النازية، بالإرهاب. وكسرت أو اقتلعت نصب الأبطال الروس والسوفييت. واكب ذلك نشر عيادات الإجهاض، والمخدرات، وتسفيه المنظومة الأخلاقية حتى قالت طفلة لمراسل تلفزيوني إن حلمها أن تكون عاهرة..
بعد تلك العقود من الانهيار، شاركت الثقافة في استنهاض الشعب الروسي. بمهرجانات غنى فيها مغنو الاوبرا قصائد الحرب الوطنية العظمى، واحتفالات كبرى بعيد النصر على النازية، وحتى بالاستقبالات الرسمية في الكرملين التي تجسد عمارته حضارة رفيعة..
ونبش الباحثون الروس الحقائق التاريخية. من هذه الحقائق، المراجع التي استند إليها الدكتور خلف الجراد في دراسته القيمة: "عملاء النفوذ وتفكيك الاتحاد السوفييتي". وفيها توجيه ألان دالاس الذي أعلنه في اجتماع سري جمع قيادات الماسونية وما يسمى حكومة العالم الخفية سنة 1945. وقد نفذته المخابرات المركزية، وذكر ذلك التنفيذ كتاب ساندرز "من دفع للزمار"..
التوجيه هو:
"ستنتهي الحرب (الحرب العالمية الثانية) وتسوّى الأمور، وسنوظف كل شيء نملكه من الذهب والثروة المادية من أجل تسفيه المدارك، والتلاعب بالعقول. فالعقل الإنساني، العقل البشري، ووعي الناس، مهيأ للتغيير في سياق الفوضى السائدة هناك. سنقوم بشكل غير ملحوظ بتبديل قيم الناس إلى قيم زائفة، ودفعهم إلى الايمان بهذه القيم البديلة والتمسك بها. كيف؟ سنعثر على مؤيدين فكريين لنا، على حلفاء حتى في روسيا نفسها. ومرحلة إثر أخرى ستتنامى وتتضخم قضية موت الشعب الروسي الذي لايقهر. وعلى أساسها يجري إطفاء وعي هذا الشعب وحرف أنظاره بصورة نهائية..
من خلال الأدب والفن مثلاً نقلب شيئاً فشيئاً الجوهر الاجتماعي للإبداع. نعزل الفنانين عن محيطهم، ونقتلع منهم الرغبة بالعمل وتجسيد الحياة الحقيقية للشعب. وسنقدم كل الدعم لإشهار الفنانين الذين يزرعون ويرسخون وينشرون في الوعي البشري عبادة الجنس، العنف، السادية، الخيانة، وبكلمة أخرى كل ماهو غير أخلاقي..
أما في إدارة الدولة المستهدفة فسنزرع الفوضى والارتباك. وستصبح النظافة الأخلاقية والتقيد بالقانون والنظام أموراً مضحكة. ولن تكون مطلوبة في أي مكان. بل ستتحول إلى بقايا رواسب الماضي. وستحل في كل مكان قيم الغدر والحقارة والضعة والوقاحة والكذب والغش والإدمان على المخدرات. ويسود الرعب الوحشي بين الناس، ويزدهر المجون بكل ألوانه وأشكاله دون حياء ولا خجل. وطبعاً الخيانة والتعصب وكراهية الشعوب بعضها بعضاً.
كل هذه الأمور سنقوم بغرسها بتأن وصبر ودون ضجة أو لفت انتباه..
سنقوم بهذه التحولات وتنميتها من جيل إلى آخر. سنسعى إلى السيطرة على الناس بدءاً من الطفولة، ومن سنوات المراهقة والشباب..
سنركز جهدنا الأساس باستمرار على الشباب بصفة خاصة، وسنعمد إلى إفسادهم بطرق شتى ونصنع منهم جواسيس عالميين. هذا ما سنعمله"..
أنواع الجوائز، وعروض الإقامة الذهبية، وما ينفق على المسلسلات التافهة، تنفذ هذه التوصيات..
في الهامش، نستنتج أن الثقافة ليست كمالية، بل مقاتلة في هذا الجانب أو ذاك..