كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

برومثيوس المعتقل السياسي المُكبل بالسلاسل

مروان حبش- فينكس:

على مسرح ديونيس الذي أنشئ حوالي 500 ق.م على المنحدر الجنوبي للأكروبوليس بأثينا، هبة للإله ديونيس إله النبيذ والخصوبة، وعليه مُثِلث المسرحيات التراجيدية الكبيرة، كان النضال على أشده في المعركة التي احتدمت بين الدين القديم من ناحية، والعلوم والفلسفة الحديثة من ناحية ثانية، هذه الفلسفة التي ربطت أجزاء التاريخ الفكري لعصر بركليس وجعلته عملية كبيرة واسعة النطاق من عمليات التفكير والتغيير.
ومن أشهر المسرحيات التي مُثِلت على خشبة هذا المسرح، كانت مسرحية برومثيوس المقيَّد، للكاتب والشاعر المسرحي أسخيلوس، التي كتبها حوالي 463 عامًا قبل الميلاد، وهي إحدى تراجيدياته العظيمة، وتُعَرَّفُ المسرحية من حيث نوعها بوصفها تجمع بين كل من التراجيديا والميثولوجيا الاغريقية. ومُثلت ضمن مهرجانٍ مسرحي اغريقي يُسمى مهرجان ديونيس العظيم، وهو مهرجان سنوي للكتابة المسرحية ومسابقةً يُقام فيها تكريمًا لديونيس.
برومثيوس الإله (جالب النار) الذي قيَّده هفستيوس (إله الحدادة) بأمر من كبير الآلهة زيوس، إلى صخرة في جبال القوقاز، بعد أن غضب عليه بسبب نقله سر النار إلى بني البشر. وفي المسرحية يقول هفستيوس:
(يا ابن ثميس يا حصيف الرأي يا حكيم ـ فقد كتب عليك أن تُشدَّ بالأغلال إلى هذه الصخرة العالية التي لا يرقاها إنسان، ولا تسمع فيها صوت آدمي، أو تسمع صوت أحد ممن كنت تحبهم، وحيث تذبل زهوة جمالك، محترقة في جو الشمس اللافح الصافي، وسيُقْبِل الليل مزداناً بالنجوم وتتسلى بضلاله، فإذا طلعت الشمس بددت بأشعتها صقيع الصباح، ولكن شعورك ببلواك الحاضرة يقض مضجعك، ومهما يكن ما تتعرض له من أخطار، لن تجد أحداً يمد يده لحل وثاقك، إن هذا هو الذي تجنيه من حياتك لمحبتك لبني الإنسان، إن زيوس شديد صارم ، وإن الملوك المحدثين قساة غلاظ الأكباد).
ويتحدى برومثيوس، وهو مقيد إلى الصخرة لاحول له ولا طول، ربَّ الأولمبوس، ويحصي في زهو وكبرياء الخطوات التي نقل بها سر النار إلى بني البشر (الذين كانوا حتى ذلك الوقت يعيشون كالنمل الأخرق تحت الثرى في الكهوف الخاوية التي لا تدخلها أشعة الشمس، ولا تصل إليها دلائل على حلول الشتاء، ولا يعطرها شذى أزهار الربيع، ولا ثمار فاكهة الصيف. ولكنهم كانوا يعملون كل شيء وهم عُمْيَ البصائر، لا يخضعون لنظام، حتى علمتهم كيف تشرق الشمس وتغرب وكيف تسطع النجوم ثم تغيب في أماكن خافية على عقولهم، واخترعت لهم العدد باعث الفلسفة، وعلمتهم تركيب الحروف، ووهبت لهم الذاكرة صانعة كل شيء وأم التفكير الجلي، وكنت أول من روَّض الحيوان لخدمة الإنسان، وأنا دون سواي الذي ابتدعت السفن، وأنا الذي اخترعت كل هذه الفنون لبني الإنسان. والآن لا أجد وسيلة أنجي بها نفسي).
وتحزن الأرض كلها لحزنه، فإذا تلاطمت أمواج الحر صرخت وخرج من أعماق البحر أنين حزين، وانبعث من كهوف الموتى عويل. وترسل الأمم كلها تعازيها إلى هذا المعتقل السياسي(1)، وتذكره بأن الألم يطوف بكل الخلائق (فالحزن يسير في الأرض، ويجلس عند قدمي المخلوقات واحداً بعد واحد). ويشير عليه أوقيانوس "إله البحار" بالخضوع لزيوس، أن الذي يحكم، يحكم بالقوة لا بالحق. وتتعجب الأوقيانوسيات "بنات البحر" ولا تدرين فيما إذا كانت الإنسانية جديرة بأن يعذب أحد من أجلها، ويصلب على هذا النحو: (لقد كانت تضحيتك هذه أيها الحبيب، تضحية لا جدوى منها، ألم تر الجنس البشري ضعيفاً في جهده ونشاطه، ويتكون من حالمين خياليين مكبلين بالأغلال). ومع ذلك تُعْجَبْنَ به وتبقين إلى جانبه حين يهددهن زيوس بإلقائهن معه إلى الهاوية، غير أن برومثيوس تُمنع عنه راحة الموت لأنه من الآلهة، لهذا يُرفع من الهاوية إلى صخرة جبلية ويقيد مجدداً، ويرسل زيوس نسراً لينخر قلبه، ولكن القلب ينمو بالليل بنفس السرعة التي ينخره بها النسر في النهار، وبهذه الطريقة يعاني برومثيوس العذاب على مدى ثلاثة عشر جيلاً من أجيال البشر. حتى يأتي هرقل الجبار ويقتل النسر، ويقنع زيوس بفك أغلال برومثيوس الذي يندم على فعلته.
كان الشعراء في بلاد اليونان هم أنفسهم فلاسفة وكانوا في مقدمة أرباب العقل والتفكير في أزمانهم ويعبرون عن آرائهم في الدين والفلسفة. ومن شبه المتفق عليه أن فلسفة عصر من العصور تصبح في الأحوال العادية أدب العصر الذي يليه، ولكن المسرحيات اليونانية كانت دراسة لكفاح الآلهة مع الآلهة والإنسان مع الآلهة. وكان موضوع مسرحيات القرن الخامس ق.م هو الصراع بين الفكر الثائر من جهة، والدين التقليدي والفكرة الانتقادية لرب الأولمبوس، ومنها مسرحية برومثيوس المُقَّيد.
تنطوي أسطورة برومثيوس على عدد كبير من الاستعارات والتشبيهات منها: أن العذاب هو ثمرة شجرة المعرفة، وأن معرفة المستقبل تحطم قلب الإنسان كمداً، وأن العذاب والصَّلب هما جزاء المخلص على الدوام، وأن الإنسان يضطر في آخر الأمر أن يحقق غايته داخل طبيعة الأشياء.
كان أسخيلوس ضمن أول ثالوث عظيم من الكتّاب مع سوفوكليس ويوريديس(2)، حيث قدموا مآسٍ مسرحية عظيمة تتميز بجمال الأسلوب وسمو الفن والجزالة الرشيقة، ولقد شق أسخيليوس بشعره القوي وفلسفته الصارمة الطريق الذي سارت عليه المسرحيات اليونانية وحدد أشكالها، وتمكن بفضل لغته الجزلة، أن يجعل من برومثيوس مأساة من الطراز العظيم، وقد صوَّر وسما في الرمزية وفي الصراحة إلى أسمى ما يكون في هذه المأساة، إذ صور الكفاح بين العلم والخرافة، وبين الاستنارة والجهل، وبين العبقرية والتحكم.
وحسب تعريف ارسطو تعتبر مسرحية بروميثيوس مقيَّدًا ميثولوجيا لأنها تمثل صراعًا بين الآلهة والآلهة، وكان غوته مولعاً بهذه المسرحية واتخذ من برومثيوس أداة يعبر بها عن نزعة الشباب الجامح. كما أن الشاعر الإنكليزي ميلتون مؤلف الملحمة الشعرية "الفردوس المفقود" كان يتذكر برومثيوس كثيراً وهو يؤلف الخطب البليغة التي ينطق بها الشيطان، ويقول الكاتب والناقد الألماني شليجل: (إن المآسي الأخرى التي أنتجها المؤلفون اليونان عادية أمام هذه المأساة الحقة). أما الشاعر الإنكليزي بايرون فقد اتخذه نموذجاً ينسج على منواله.
مروان حبش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صفة المعتقل السياسي مقتبسة من قصة الحضارة.
(2) يذكر الناقدون أن سوفوكليس هذب فن المسرحيات بموسيقهه المتزنة وحكمته الهادئة. أما بوريديز فقد أتم تطوره بمؤلفتاته التي تفيض بالشعور الجياش والشك القوي.