كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

17 عاماً على وجع الرحيل.. سلاماً ممدوح عدوان

أُبي حسن- فينكس:
ما زلت – بعد سبعة عشر عاماً على غيابه- أشعر بالندم، وربما سيبقى ذلك الشعور يلازمني إلى أن ينقضي أمر كان مفعولاً، لأني لم أهاتفه في الساعة السابعة من مساء يوم الأحد (يوم رحيله الأخير- 19/12/2004)، بغية الاطمئنان إلى صحته وإخباره بقدومي من القرية على أمل أن أراه ثاني أو ثالث يوم على أبعد تقدير، محضراً له معي بعضاً مما تجود به الضيعة.

تعود معرفتي بممدوح عدوان (1941- 2004)، الذي سفح عمره و هو يدافع عن العبيد الذين طال ليلهم، إلى أيلول 1997، إذ كنت قد أنهيت، في ليلة واحدة، قراءة مسرحيته (سفر برلك / أيام الجوع) وحالما انتهيت منها انتظرت الصباح كي أهاتفه من غير أن أعرفه شخصياً لأعرب له عن إعجابي بما قرأت. ذاك الصباح سألني عما إذا كنتُ قرأتُ (الغول) الجزء الثاني من سفر برلك، فأجبته بالنفي، فطلب مني عنواني كي يرسل لي ذلك الجزء مع مجموعة من مؤلفاته بإحدى شركات النقل التي لم توصلها (بعدُ). في المقابل أفصحت له عن رغبتي في لقائه عندما آتي إلى دمشق، وكان ذلك. ما لفت نظري منذ أول لقاء أن ممدوحاً لم يكن يحمل ساعة في يده، ومع ذلك أتى على الموعد بدقة استرعت انتباهي.. علمت في ما بعد، و في وقت مبكر نسبياً، أنه نادراً ما كان يحمل ساعة تقيده بوقت، وعلى الرغم من هذا كان شديد الحرص على الموعد، إلى أن عرفت من خلال المعايشة و علاقتي به أن مثل ذلك الحرص هو من أهم مكونات شخصيته أديباً وإنساناً وكان هذا أول درس تعلمته من الأستاذ الراحل.أُبي حسن مع ممدوح عدوان يشربان المتة في منزله
‏ لم أحتج إلى الكثير من الوقت كي يزداد إعجابي به وبالتالي تعلقي، الأمر الذي جعلني نهماً لقراءة كل ما يكتبه من مقالة ورواية ونثر ومسرح و ما تبقى من صنوف الكتابة التي صال وجال فيها فأجاد. عندما بدأت أشعر أن ذائقتي في طريقة تناول المواضيع الأدبية والفكرية تتطور. صرت أقرأه قراءة نقدية، وأناقشه في نتاجه. حينذاك كان يسيطر عليَّ هاجس أن ممدوحاً ظلم نفسه، أو لكي أكون أكثر دقة، ظلمته غزارته وتنوع إنتاجه، على الأقل في البدايات، كمبدع طالما شكا من تقصير النقد لمنجزه الإبداعي. وقد أعربت له عن رأيي هذا أكثر من مرة قائلاً له: (إن ما تشكو منه يعود إليك لا إلى النقّاد و لا إلى القارئ) الذي احتاج إلى فسحة لا بأس بها من الزمن كي يألف ممدوحاً مسرحياً وشاعراً وصحفياً وكاتباً درامياً.. إلخ، في زمن التخصصات، تماماً كما احتجتُ أيضاً إلى فضاء معرفي آخر كي أدرك أن ما كان يكتبه وينجزه هو الفن، بغض النظر عن ماهية الاسم والجنس. وفي إحدى جلساتي القصيرة معه في منزله، أثناء مرضه، أثرت هذه النقطة تحديداً عقب قراءتي لكتابه (جنون آخر) الذي يعدّ من حيث هو منجز نثري، امتداداً لكتابه (دفاعاً عن الجنون) الذي وضعه قبل نحو أربعين عاماً. أقول هذا مع إدراكي أن ما أنجزه على مدى أربعين عاماً لم يكن على سوية واحدة من حيث المستوى، وهذا أمر طبيعي بحكم الزمن والخبرة والنضج والمثابرة.
بعد أن نهض ممدوح عن مائدة العمر فاتحتني إلهام عدوان برغبتها إطلاق دار نشر تحمل اسم ممدوح، مضيفة القول: "كان إذا استشار أحدهم ممدوحاً عن مشروع يقوم به، سرعان ما كان ينصحه بتأسيس دار نشر"، و هكذا بدأتْ إلهام و أنا بالخطوات الأولى للدار، تأسيساً و نشراً و من ثمّ مشاركة في معارض (بقيتُ أعمل في الدار طوال عام و نصف)، و ماتزال دار النشر قائمة حتى اللحظة، و يتولى أمرها، منذ سنوات عدة، العزيز مروان نجل ممدوح.
صحيح أن رحيل ممدوح كان متوقعاً، بحكم المرض العضال الذي فتك برئتيه و في بعض ذاكرته، مع ذلك كان غيابه موجعاً بقدر ما كان متوقعاً و ربما أكثر.. و بالرغم من خسائري الشخصيّة و المعنوية والتي لا يمكن تعويضها برحيل ممدوح، إلّا أنني لم أتوان عن القول لإلهام بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الذي قضى نحبه في 14 شباط 2005، و دخول المنطقة في نفق مطلم بدا و كأنه مرسوم بدقة من قبل قوى الاستكبار العالمي: "لأول مرة يا إلهام لا أشعر بالألم لغياب ممدوح، كونه ليس شاهداً على ما يجري.. فربما كان مات ألف مرة في اليوم".
بدا ممدوح في فترة مرضه ميالاً إلى الهدوء على غير عادته. ربما كان للعمر أثره، و لتراكم خبراته و تجاربه دورها، ورغم أنه أنتج في مرحلة مرضه، القصيرة نسبياً، أربعة كتب وأكثر من مسلسل تلفزيوني ما زالت طي أدراج شركات الإنتاج حتى الآن، إلا أنه بدا لمن يعرفه عن كثب كمن يعيد ترتيب أوراقه، فبدأ من دهاليز الذات وتشعباتها... ومن (وعليك تتكئ الحياة)، وهي قصيدة من أجمل قصائد ديوان يحمل العنوان نفسه.. عندما ألقى هذه القصيدة في عمان صيف 2004 لم يكن يخاطب أباه، بل كان يخاطب ولديه زياداً و مروان، وهذا ما دفع بإلهام (زوجه) إلى أن تقاطعه مراراً، راجية إياه أن يكف عن قراءة الموت (مت واقفاً يا أبي). وفعلاً هكذا رحل ممدوح، كرحيل والده الذي سبقه بعام وشهر وبضعة أيام.أُبي مع ممدوح عدوان في المعهد العالي للفنون المسرحية
وعلى سيرة الأب، من اللافت أن ممدوحاً طالما خجل أن يعبر عن مدى حبه لأبيه وتعلقه به إلى درجة كتم معها عنه ما به من مرض بقي الثاني يجهله، وإن كان قلبه قد أخبره أن الابن يشكو من علّة، فتمنى الغياب لنفسه قبل أن يرى نجله يسبقه إلى حيث يرقد الجد عدوان في الأرض التي تبرع بها لتكون مقبرة تخصّ القرية (قيرون). وهي الأرض ذاتها التي تبرع ممدوح بإصلاحها على نفقته الخاصة عن روح والده، إذ كانت تشكو الوعورة من كثرة الصخور، وهي الأرض ذاتها التي يحضن ترابها ممدوحاً الآن. ‏ 
أشياء كثيرة يقف عندها من يعرف عن كثب ممدوحاً الإنسان والمبدع، فقد كان يدرّس الطلاب في المعهد العالي للفنون المسرحية، وفي الاستراحة تجده بينهم صديقاً ومعيناً. وكثيراً ما كان يأخذ نصوص طلابه وغير طلابه (كاتب هذه السطور أحدهم) إلى منزله ليضخ في اليوم الثاني بعضاً من خبرته وتجربته في عقل من طرق بابه؛ وإن أحدنا ليستغرب حقاً كم كان عدد ساعات اليوم لديه كي لا يقول لطالب علم لا؟ هذا من غير أن ننسى أنه أنتج ما يزيد على الثمانين كتاباً تأليفاً وترجمة.. ولا أدري كم هو عدد مقالاته الصحفية، فعلاً إن اليوم لديه كان (سبعين ساعة) كما ذكر في إحدى مقالاته. إذاً لم يكن مصادفة أن يكون إهداؤه لرواية (أعدائي) ما يشبه الاعتذار من إلهام وزياد ومروان. 
تنويه: الصورتان الأولى والثانية كانتا يوم الأحد الموافق 11 نيسان 1999، في منزل الشاعر الغائب ممدوح عدوان، وبعدسة ابنه مروان عدوان.
 الصورة الثالثة في المعهد العالي للفنون المسرحية، يوم الأربعاء 16 كانون الأول عام 1998.