كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المفكر د. الزاوي في حوار قديم مع "فينكس": وافقت د. شحرور على الكثير من آرائه و اختلفت معه على العديد, التي رأيت فيها تجاوزاً على مفاهيم "الجرأة العلمية"

أُبي حسن- خاص- فينكس

تمر هذه الأيام الذكرى الرابعة لارتقاء فقيد العلم و الفكر و الأدب، البحّاثة العالم أحمد عمران الزاوي، الذي انتقل إلى جوار ربه بتاريخ 9 تشرين الأوّل 2017 تاركاً لنا إرثاً معرفياً غنياً تجاوز الأربعين مجلداً، و بهذه المناسبة يحتفي فينكس بنشر جزء من حوار معه سبق أن أجريّ عام 2013. كما سننشر، احتراماً لذكراه، خلال اليومين القادمين بعضاً من تراثه.

السؤال الأوّل
تكشف مؤلفاتك التي تقارب الأربعين مجلداً عن مخزون ثقافي هائل وغني جدا مع ذلك يلحظ المتابع لإنتاجك خاصة الذي تنافح فيه عن الإسلام "الكلاسيكي" تجاهلك للمدارس الفكرية التي عرفها العالم الإسلامي المعاصر, إذ يبدو انك لست صديقاً لمحمد أركون, ونصر حامد أبو زيد, وجمال البنا, على سبيل المثال, ولا حتى لمحمد عمارة الذي كان شيوعياً وانتهى به المطاف "إسلامياً متطرفاً". في حال وضحت فكرتي لديكم أرجو أن تفسر لي سبب تجاهلكم للمدارس التي اعتمد بعضها على مناهج حديثة في نقد الفكر الإسلامي(أركون مثلاً)؟

الجواب
كان يمكن أن يقال "الأجوبة" لأن السؤال ينطوي على عدد من المواضيع والاستفسارات, لا بدّ من الإجابة على كل منها بالانفراد عن سواه, لأنه يحمل تكويناً فكرياً لا يشترك معه فيه أحد, ويختلف عن سواه.
"المنافحة عن الإسلام الكلاسيكي", "تجاهل المدارس الفكرية التي عرفها الإسلام المعاصر", "عدم الصداقة مع أركون وعمارة والبنا وأبو زيد", و"خاصة محمد عمارة الذي كان شيوعياً وانتهى به المطاف إلى أن صار إسلامياً متطرفاً", "المناهج الحديثة في نقد الفكر الإسلامي- أركون مثلاً".غلاف كتاب تاريخ القرآن
1-المنافحة عن الإسلام الكلاسيكي:
في الحقيقة لا يحتاج الدين الإسلامي ولا الدين المسيحي للمنافحة عنهما, إذ لولا أن تكون تلك المبادئ قادرة على ضبط أمور الناس العبادية والاجتماعية لانهارا منذ زمن, ولما كان لهما هذا الانتشار الأممي الذي يتزايد مع الأيام.
فالدين الذي أشرنا إليه, والذي هو مجموع العبادات والممارسات ينقسم إلى قسمين: عبادي, وتنظيمي.
-فالأول يتعلق بعبادة الخالق الذي ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير, وهو ينطوي على الأركان التالية:
التوحيد, أي الإيمان بالله الواحد الأحد.
والإيمان بالقضاء والقدر.
والإيمان بيوم الحساب, اليوم الآخر.
والإقرار بجهل الغيب الذي هو في يد الله.
-أما الثاني فهو القواعد والأسس التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني من ناحية التجمع تحت سقف التشريع والاقتصاد والسياسة والثقافة التي يجمعها في الحقيقة جامع التشريع لها جميعاً.
الأول باق لا مساس به: لأن معرفته تعني الإحاطة به, ولكنه بمجموعاته كتلاً من الغيوب التي لم يتمكن الإنسان حتى الآن من معرفتها. لذلك يعتقد المنصفون من المفكرين إن مفاتيحها في يد الله وحده.. (الأنعام-6/5 والجن 72/26).
هنا نقتصر على تحليل بعض مفردات هذا القسم من الناحية اللغوية فقط.
القضاء والقدر: القضاء هو الحكم, قال الحجازيون "القاضي معناه في اللغة القاطع للأمور المحكِم لها", وجاء في صلح الحديبية "هذا ما قاضى عليه محمد أهل مكة".
والقَدَر: معناه التقدير.
فإذا اقترن بالقضاء ونسب إلى الله, كان القضاء "خَلقاً" وكان القدر "تقديراً" فلا ينفصلان حينما ينسبان إلى الله.
"فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها... " (فصلت 41/12). أي خلقهن في يومين. والخلق يعني أن الله عمل السماوات وصنعهن وقطعهن وأحكم خلقهن.
والقاضية, هي المنية
جميع هذه المعاني وأمثالها, إذا اقترن فيها القضاء بالقدر فذلك من المغيبات التي عجزت عنها حتى الآن ملكات الإنسان في كل مكان.
إن الله عنده "علم الساعة" و"ينزل الغيث" و"يعلم ما في الأرحام" و"ما تدري نفس ماذا تكسب غداً" و"ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" (لقمان-31/34).
والتوحيد
يمكن فهمه الإسلامي من سورة "الإخلاص", وقد ثبتت تاريخياً القصة التالية: حضر إلى النبي أربعون أسقفاً من نجران, ودار بينهم حوار نجتزئ منه ما يلي:
قالوا له: صف لنا ربك. قال: هو الله أحد
قالوا: أنت واحد وهو واحد فما الفرق بينكما؟
قال: الأحد لا يتكثّر ولا يتجزّأ في حين أن الواحد يتكثّر ويتجزّأ إلى ما لانهاية.
قالوا: زه. زدنا.
قال: هو الصمد.
قالوا: وما الصمد؟ قال: هو الذي يصمد إلى الحاجات مهما كثرت وتراكمت, وهو الذي لا جوف له, لأن الذي يستعبد المخلوقات أجوافها.
قالوا: زدنا.
قال: لم يلد مثل مريم ولم يولد مثل عيسى وليس له كفواً أحد.
هذا التوحيد الذي نزه الله عن الحاجة, ونزّهه عن التعدد والتجزئة, جاء النص المسيحي على وحدانيته:
-في الصلاة التي تمارس والتي علمها المسيح لتلاميذه قائلاً صلوا هكذا: "آبانا الذي في السماء, ليتقدس اسمك, ليأت ملكوتك, لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.. ", فلم يشرك في الصلاة أحداً, لا الابن ولا الروح القدس.
-جاء في رسالة بولس إلى العبرانيين: "لأنه لَمِن مِن الملائكة قال قط, أنت ابني أنا اليوم ولدتك" (1/5). فالله لا يلد الله.
-في الإصحاح 15 من رسالة بولس إلى كورنثوس "الله أقام المسيح" (كورنثوس- 15/16).
-وفي العشاء السري قال المسيح لتلاميذه بالحرف: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى -28/20). فلم يقل أسماء بل قال باسم, مع أن المذكورين ثلاثة.
-في جشماني ابتدأ المسيح يحزن ويكتئب وقال: "نفسي حزينة حتى الموت" وخرّ على وجهه وكان يصلي قائلاً: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس, ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (متى -26/38-39).
ألا يبدو من هذا التبتّل أن المسيح ينفذ إرادة الله لا إرادته؟
-"أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماء إلا أبي وحده" (متى -24/36).
ألا يعني هذا إن المغيبات في يد الله لا يعرفها سواه؟
-وفي يوحنا: "رفع يسوع عينيه إلى السماء وقال: هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك. أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع الذي أرسلته, أنا, مجّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمله قد أكملته" (يوحنا -17/4).
-وفي الرسالة الأولى إلى كورنثوس:
"وليس إله آخر إلا واحداً, لأنه وإن وجد ما يسمّى آلهة سواء كان في السماء أو على الأرض, كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون, ولكن لنا إله واحد, الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له, ورب واحد يسوع المسيح الذي منه جميع الأشياء ونحن منه" (8/5-6).
-في مرقس "سأله أحدهم أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال يسوع لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد هو الله" (مرقس -10/17-18).
"ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض إلى الساعة التاسعة ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني, أي الهي إلهي لماذا تركتني" (متى -27/45-46, ومرقس-15/24).
-"ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: في يديك أستودع روحي ولما قال هذا أسلم الروح" (لوقا-22/46).
طبعاً: هذا التوحيد بحد ذاته هو التوحيد فيما سبق, وفيما لحق, ولا خلاف أو اختلاف إلا في الصيغ.
الموحدون جميعاً: ينزهون الله, ويؤمنون بأن لا مثيل له, ولا شبيه, ولا إله سواه, ولا صالح غيره.
الإيمان باليوم الآخرغلاف كتاب الصوفية بين الوهم و الحقيقة
هذا اليوم يحمل في الإسلام الأسماء الآتية:
"يوم الدين" و"يوم الحساب" و"اليوم الآخر" و"يوم القيامة" و"اليوم الذي لا ريب فيه" و"يوم الحشر" و"يوم التلاق" و"يوم الخروج" و"يوم الجمع" و"يوم التغابن".
وقد وردت هذه الأسماء بالآيات القرآنية, التي نوردها بالتسلسل كالآتي: (الفاتحة -4), (البقرة -8), (النساء -141), (الأنعام -22), (هود -103), (مريم -39), (طه -59), القصص -41), (غافر -15), (ق -42), (التغابن -9).
وفي الأناجيل ورد باسم "اليوم الآخر" و"يوم الدينونة" وذلك في: (متى -25/14-30), (متى -5/221), (يوحنا -5/26-30), (يوحنا -3/18-19).
هذا اليوم الآخر بأسمائه المسيحية والإسلامية, لا يعرف عنه أحد شيئاً, لأن العلم به من المغيبات التي هي في يد الله, فلا يُطلع عليها أحداً.
ولكن القرآن استثنى, فقال: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا (28). (الآيات من سورة الجن رقم- 72).
فالاستثناء هو لـ"من ارتضى من رسول" فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه, وأما الرّصد, فهو الطريق, أي يجعل بين يديه رصداً من الملائكة, ويجعل له علماً عن الأنبياء والسلف السابقين.
-في الإصحاح 24 من إنجيل متى: "قالت الآية (36): "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماء إلا أبي وحده".
-وقالت الآية (42): "اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم".
-وفي القرآن: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها" (النازعات -79/42-43-44).
"قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيّان يبعثون" (النمل -27/65).
"يسألونك عن الساعة أيّان مرساها. قل إنما علمها عند ربي لا يجلّيها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفيّ عنها قل: إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (الأعراف -7/187) .
بعد ما تقدم:
تساءلت: ماذا قصد القائل من قوله "الإسلام الكلاسيكي", لأن كلمة "كلاسيك" لا وجود لها في اللسان العربي؟
وقلتُ: لعل قصد بها الإسلام الأصولي. فإن كان هذا قصده, نجيبه بأننا كنا قد نوّهنا بأن في المسيحية والإسلام سقفاً عبادياً غيبياً يبقى بمعزل عن التعديل "رفعاً ووضعاً" حتى يأذن الله برفع الغطاء عنه.
لاسيما وقد رفع الغطاء عن بعضه مثل "يعلم ما في الأرحام" و"إنزال الغيث", فأزاح الغطاء حتى صار الطب يعرف ما في الأرحام. وصار علماء الفلك يعرفون متى ينزل الغيث. وتلك المعرفة مرهونة بمشيئة الله وقتاً ومقداراً, وتبقى في كل حال نسبية.
قلت يعرفون متى, ولكنهم لا يعرفون كيف, ولماذا؟
أما ما سوى المغيبات, وخاصة تلك الثوابت الاجتماعية التي تبنى عليها أبنية المجتمعات, وما ينتشر فيها من تصرفات إنسانية غريزية وعاطفية وفكرية, فهي تخضع للتطور الإنساني "رفعاً ووضعاً وتعديلاً" على ضوء حاجاته التي تتطور مع الأيام.
-قال المسيح: "اتركوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متى –22/21).
"لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء, ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم, إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متى -5/17-18).
ولكن: مع الإعلان الصريح بعدم التدخل في شئون قيصر, وبأزلية الناموس "أحكاماً وكلمات وحروفاً", فقد أكمل بما تتطلبه حاجات الناس التي تطورت عما كانت عليه حين نزول الناموس.
كذلك تطور العقل الاجتماعي, فعدل:
-في يوم السبت الذي كان يرجم من يقوم بأي نشاط من إنسان وحيوان, وقال: "السبت خلق من أجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت"
-وفي الزنا, حيث منع الرجم وقال لهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر"
-ونادى بمحبة الأعداء مثل الأصدقاء, حيث قال: "إن أحببتم الذين يحبونكم فقط فأي أجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟".
-وما يدخل إلى الفم لا ينجّس لأن الجسد يخرجه, أما ما يخرج من الفم فهو الذي ينجّس مثل "الكذب والكفر وبذاءة اللسان... ".
تلك التعديلات أو الإكمالات, فرضتها ظروف الإنسان وحاجاته المتطورة.
أما في الإسلام, فقد فرض التطور أن تكون الأحكام على مقداره, فالرسالات أرسلها الله على مقاس العقل الاجتماعي الذي كان سائداً, إذ لو جاءت الرسالة متخلفة عن العقل الاجتماعي لرفضها المجتمع, ولو نزلت متجاوزة عليه لما فهمها.
لقد كانت المجتمعات حينما نزلت رسالة الإسلام محكومة بالمبالغة اليهودية والمبالغة المسيحية.
ففي اليهودية: الحب والبغض والقتل والزنا والنجس والصدق والكذب والإقراض والتقييم, وسواها, تنطلق من مصلحة اليهودي. فالإقراض بالربا ممنوع إن كان لليهودي, وواجب ديني إن كان لغير اليهود. والزنا مع اليهودية موجب للرجم, وهو غير معاقب عليه إذا كان مع غير يهودية, لأنه إذ ذاك يكون مع بهيمة. لقد خلا صدر الله من المحبة والرحمة, لأنه أفرغ ما لديه منها في الشعب اليهودي, أما باقي الشعوب فقتلهم حلال وواجب, كذلك الزنى بإناثهم وغصب أملاكهم فهو حلال.
وفي المسيحية: منذ المسيح حتى الآن يندر أن يوجد غير القليل من "يحب عدوه" و"يبارك لاعنه" ومن "يدير الخد الآخر عندما يقع الضرب على الخد الأول". حتى السيد المسيح لم يتقيد بهذه الأحكام, ففي يوحنا وصف لمجلس محاكمة السيد المسيح أمام "قيافا" كما يلي: "ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفاً قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع: إن كنت قد تكلمت ردياً فاشّهدّ على الردي وإن حسناً فلماذا تضربني وكان حنّان قد أرسله موثّقاً إلى رئيس الكهنة قيافا" (إنجيل يوحنا -18/22-23-24).
(يلاحظ أن السيد المسيح احتج على اللطم ولم يحوّل الخد الآخر).
لذلك: جاءت الأحكام الإسلامية وسطاً بين الشدة واللين, فالقتل لا يكون إلا للقصاص, حتى في القصاص يجب أن لا يتجاوز الاعتداء, "... فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... " (البقرة- 2/194).
فالفعل الأول جُرْم, والفعل المقابل جزاء وقصاص. والتماثل في اللفظ لا يؤثر على طبيعة التصرفين.
والمثلية التي حض الإسلام عليها, اعتبر تجاوزها اعتداء, "إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة -2/190).
وحينما تلقّى علي كرّم الله وجهه ضربة ابن ملجم, قال والدماء تصبغ وجهه مشيراً إلى ابن ملجم الذي كان قد التف حوله خلق كثير لمنع فراره, قال أبو الحسن: "أطعموه من طعامي واسقوه من شرابي, إن عشتُ فأنا وليّ دمي, وإن متُّ فضربة بضربة وإياكم والتمثيل به".
والبذل- العطاء, يجب ألاّ يتعدى الوسطية, "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلَّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً" (الإسراء -17/29).
والصلاة أيضاً: "... ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً" (الإسراء -17/110).
وابتغاء الآخرة مع عدم نسيان الدنيا, "وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا... " (القصص_ 28/77).
والوحدانية أي توحيد الله, جاءت وسطاً بين "الوجود الإلهي" وبين "تعدد الآلهة من أصنام وسواها".
مقاس العقل الاجتماعي: أبدعه الله منطوياً على نزعة التطور وأعطاه حرية الاختيار بين السلبيات والايجابيات من جميع المتضادات. هذه الكينونة الاختيارية, التي هي من صنع الله, رأى الكثيرون منذ القديم وما يزالون, على وجوب الإبقاء عليها وعدم خنقها, لأنها من خلق الله أولاً, ولأنها العصا التي يتوكأ عليها الإنسان لاجتياز صعاب الحياة.
ورأى القائلون بها وأنصارهم إن الإبقاء على الاجتهاد هو –في حد ذاته- إقرار بالاختيار الذي خلقه الله.
وأضافوا: النصوص التي لبّت حاجات الناس في زمن قد تتخلف عن تطور الحاجات في الأزمنة التالية, أي تتناهى فاعليتها وتأثيرها. أما الحاجات فلا تتناهى بل هي في تطور دائم. ومن الخطأ والظلم أن يبقى الذي تناهى متحكماً بما لا يتناهى.
ثم, وبمنطق آخر: ليس الاجتهاد اختلاقاً ولا تجاوزاً, بل هو تعمّق في الأسباب البعيدة للنصوص, واستخلاص المصلحة العامة منها, "فأينما وجدت المصلحة العامة فثمّ شرع الله ودينه" (ابن القيّم الجوزية).
والمشورة التي أمر الله بها في الآية 159 من آل عمران وفرضها على المسلمين يؤكدها بقوله في وصف المتوكلين في سورة الشورى "والذين يجتنبون كبير الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون, والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" (الشورى -42/37- 38).
هذه الشورى لم يقتصر وجودها على زمن النبي والراشدين, بل جاءت مبدأ عاماً لجميع المسلمين في جميع الأزمنة. وهي –كما قلنا- ليست نصوصاً جديدة, ولا اختلاقاً للأحكام, بل هي التدخل الفكري لإيضاح الغموض في النصوص, والتي لم يوح بها إلى النبي إلا لضمان تربية عبادية واجتماعية أفضل.
ومن ثوابت الأحاديث أن النبي (ص) قال: أنتم بشئون دنياكم أدرى". وفي أمر صريح للنبي كي يبلّغ البشر أنه لا يختلف عنهم إلا بالوحي "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد... " (الكهف -18/110).
كذلك الأمر مع جميع الرسل, لم يتميزوا عن الناس إلا بالوحي, "وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ..." (الأنبياء -21/7).
"وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم..." (الأنبياء -21/7). "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب" (الرعد -13/38). وما جاء في الآيات 2-3-4 من سورة النجم رقم 53 "ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى.. ", إنما كان القصد فيها النبي (ص) الذي ما ضل عن الحق, وما ضل فيما يؤديه. فما نطق شيئاً مما أوحى إليه بالهوى لأن ما يوحى إليه هو القرآن الذي هو كلام الله. وما مجيء الرسل بالصيغ البشرية وحديثهم مع الناس بلغاتهم إلا رحمة من الله بالناس, إذ فرض على كل رسول أن يتحدث ويبلغ باللسان الذي يتكلم به ويفهمه الناس "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم... " (إبراهيم -14/4).
"وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق... " (الفرقان -25/20).
وفي الآية 39 من آل عمران والآية 17 من سورة مريم دليل كتابي صريح على ألسنة الرسل:
"... فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّاً" (مريم -19/17)
"فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصُوراً ونبياً من الصالحين" (آل عمران -3/39).
وقبل الانتهاء من بحث التطور نرى وجوب إيراد أمرين هامّين:
أولهما: التطور هو التغير من حال إلى حال.
الثاني: ليس من الضروري أن يكون دوماً باتجاه الخير فقد يكون العكس.
وقد أثر عن النبي (ص) قوله: "إن الإيمان بدأ غريباً, وسيعود كما كان, فطوبى للغرباء إذا فسد الناس. والذي نفس أبي القاسم بيده ليُزوأن الإيمان بين هذين المسجدين كما تأوز الحية في وكرها" .
- تجاهل المدارس المعاصرة
ثم, عدم صداقة المفكرين "أركون" و"عمارة" و"البنا" و"أبو زيد", في الحقيقة, أنا لم أتجاهلها, ولم أتجاهل أي واحد ممن ذكرت من المفكرين والأدباء. ولكنني أستغرب كيف تطلق عليها اسم المدارس! ثم لا أدري إن كنت تقصد بأن كل اسم من هذه الأسماء هو مدرسة. فالمدرسة مكان يجتمع فيه الطلاب لتلقي الدروس. ما علمنا أن أياً منهم كانت لديه مدرسة أدبية أو فكرية تلقّى الناس منها دروسا لا يحيدون عنها.
وفي الواقع: لا مدارس ولا مدرسين ولا طلاباً ولا شهادات مدرسية بل أفكار أطلقها أصحابها بين الناس وعرضوها عرضاً ولم يفرضوها فرضاً. وبعض الناس, قد اعتنقوها, وليس جميع الناس, إذ قد رفضها وقد يرفضها الكثير أو القليل منهم.
لقد عرف الفكر الإنساني, قديماً وحديثاً, كثيراً من الأدباء والمفكرين اللامعين, فلم يعرف أن أياً منهم نصّب نفسه أو نصّبه سواه على رأس مدرسة تبقى للأجيال على مرّ الأجيال.
هؤلاء الذين ذكرهم السائل, نحترم أقلامهم, وما صدر عنها من أفكار, ولكننا لسنا ملزمين بكل ما صدر عنهم. فقد نقبل ببعض أفكارهم ونلتقي معها, وقد نتعارض مع بعضها فنبتعد عنها. ولكننا –كما قلنا- لن نزدريها.
نحن جميعا نكتب للمتلقي الذي يرغب في تعدد الأفكار لتزداد لديه مساحة الاختيار.
قارن بين:
من يقول: "أنا أو لا أحد" وبين من يقول قول الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
الأنبياء أصحاب الكتب والرسالات التي نزلت إليهم من السماء, لم يقل أحد منهم "كتابي ورسالتي", هما المدرسة الوحيدة الخالدة خلود الحياة. بل قال كل منهم, عندما تخفت الأضواء الاجتماعية في الرسالة بسبب التطور الذي خلق الله بواعثه في الإنسان سوف يأتي من يعيد الألق والضياء فيرفد المبادئ الباهتة ويضيف ما تحتاجه الحياة.
موسى قال: سوف يأتي مع الزمان "مسّياّ"
وعيسى قال: سوف يأتي مع الزمان "الباركليتوس"
ومحمد قال: سوف يأتي بعدي من يملؤها عدلاً بعد أن ملئت جوراً.
لذلك أرفض ويرفض الكثيرون أن تتكرّس إمارة الفكر إلى الأبد لأي من هؤلاء المفكرين أو سواهم. ونرفض النظر إليهم إلا أنهم سحب, أسقطت على الأرض ما تحمله من الخير. وغابت في غيهب الزمن لكي تأتي سحب أخرى لتلقي حمولتها وتغيب.
القول الفصل فيها جميعاً للقارئ, والفصل هنا لا يعني أن جميع القراء يتفقون على قول واحد, بل الآراء والأقوال والقناعة تتعدد. وما ذلك إلا لأن الله خلق فينا قدرة الاختيار. فحتى الرسالات الموحى بها منه, والتي لا تنطق عن الهوى, لم يأمر بفرضها على الناس, بل قال: "... فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... " (الكهف -18/29). "لا إكراه في الدّين... " (البقرة -2/256).
وإن كان العالم الإسلامي قد عرف بعض أفكار تلك الأسماء التي ذكرت, فليس من الثابت أنه التزم بها وهجر سواها, إما لتغير الظروف وإما لتغير المناهل الثقافية.
محمد عمارة مثلاً, قال السائل عنه: "إنه كان شيوعياً ثم انتقل تفكيره إلى النهج الإسلامي المتطرف" قدم في كلتا المرحلتين ما لديه من حمولة فكرية, فعلى أي مدرستيه يكون النهج؟ ليس لنا, ولا لسوانا, أن نحتقر فكره في أية مرحلة, لأنّ أفكاره في المرحلتين انساحت بين الناس ودخلتا تحت سقف الاختبار شاء أم أبى. فمن القرّاء, وقد يكون السائل أحدهم. من يفضل فكره الشيوعي. ومن القرّاء, وقد يظن السائل إني أحدهم, من يفضل فكره الإسلامي. ومنهم من يفضل أن يكوّن رأيه بنفسه دون الالتحاق بجه 
السؤال اثاني
خصصت الدكتور محمد شحرور وبالأحرى كتابه الأم "الكتاب والقرآن" بمجلدين نقديين, وتتبعته في الكثير مما أتى به.
يأخذ البعض على كتابيك أنك لم تضع في الحسبان أن الدكتور شحرور استفاد من علم اللسانيات في مشروعه, وهو علم مستحدث, في حين أنك أردت أنت أن تؤطره وفق الفضاء الثقافي الذي أتى في سياقه الإمام الشافعي مثلاً, إذ لم تأخذ بعين الاعتبار أننا في القرن العشرين عندما كتب شحرور كتابه, وأن الثقافة الإسلامية وحتى الإسلام ينبغي أن يُفهم في ضوء معطيات القرن العشرين وليس القرن السابع الميلادي.

الجوابأ محمد شحرور
هذا السؤال مثل سابقه ينطوي على عدد من المحطات, وهي –أي المحطات الفكرية- تدور حول ما كتبته عن شحرور, كما أنها تشير في عمقها إلى أنها متأثرة بالفكر الشحروري, ملتقية فيه مع الحداثة والتطور والتخلع من الفكر السلفي.
على أنني قبل "استفرادها" بالجواب وجدت أن أتقدم بالفقرات التوضحية التالية:
آ-قلتَ: إن كتاب الدكتور شحرور "الكتاب والقرآن" هو الكتاب الأم بين مؤلفاته. لا أدري إن كان الدكتور يرضى أن يكون "الكتاب والقرآن" هو كتاب الأم, لأن هذا يعني أن الكتب الأخرى هم أبناء الجارية.
أما أنا فلا أرى درجة الجهد والتفكير فيها أقل مما بذله في "الكتاب والقرآن", فجميعها تسير على خط تفكيري واحد, أحترمه وأحترم صاحبه وإن كنت أختلف معه في بعض النتائج.
ب-قلتَ: إن البعض, شبّه المجلدين اللذين وضعتهما بعربة فكرية انطلقت دون مكابح, فلم تعر أي اهتمام لعلم اللسانيات الذي استفاد منه شحرور وأصررتُ على تأطيره في الرعيل الشافعي, الذي تحرر منه شحرور, مولياً اهتمامه إلى المستجدات مبتعداً عن الشافعي الذي لم يبق من علمه غير الأطلال.
جـ-وقلتَ: إن الثقافة الإسلامية التي اعتمدتُ عليها, تنتمي إلى لغة وثقافة وفكر القرن السابع الميلادي, فلم تعد ولم يعد الإسلام مقبولاً ولا مفهوماً إن لم يتكلم بلغة القرن العشرين.
د-وقع بين يدي كتاب "حقيقة القراءة المعاصرة مجرد تنجيم" لمؤلفه الأستاذ سليم الجابي. قرأتُ من العنوان, إن الكتاب مخصص لنقد كتاب شحرور من الناحية الفكرية.
ولكنني –إذ قرأته- فوجئت بتجاوزه على المهمة المحددة في "العنوان", فقد تحول إلى ناقد, وتحول من الناقد إلى الحاقد, إذ سمح لنفسه أن يتهمه بالكفر لأسباب لا يمت الكثير منها إلى الإسلام .
لذلك وجهتُ إليه في 15/3/1992م كتاباً مفتوحاً بحجم كتابه تقريباً عارضاً فيه ذلك التهجّم الشخصي, وقلتُ: مهما ارتفعت درجة الخلاف الفكري, فهو لا يبرر الانتقاص الشخصي. وقلتُ في كتابي إليه بالحرف, ما يلي: "لقد قرأت كتاب الدكتور شحرور فوجدت فيه نهجاً جديداً وجهداً شديداً. وفيه مثل ما في غيره "مقولات" لا يخالفه فيها أحد, و"مقولات" لا يتفق معه فيها الجميع. وهذا من طبائع الأمور فلا يستطيع أي باحث أو مؤلف أن يدّعي بلوغ الغاية والقبض على ناصية الحقيقة, ولكن ذلك لن يعيب المؤلف, ولن يهدم الأثر. فللمجتهد المصيب أجران وللمجتهد المخطئ أجر واحد كما قال رسول الله (ص)".
حينها حضر إلى عندي أحد الأصدقاء, وعندما قرأ بعض الكتاب استأذنني في استنساخه, فلم أرفض.
فقام هو باستنساخه على الآلة الكاتبة وأرسل نسخة منه إلى الجابي ونسخة إلى شحرور, فكانت النتيجة كما يلي:
-أرسل الجابي إلي رسالة على 15 صفحة يعاتبني فيها, لأنني انحزت بكتابي ضده, وأغفلت الكثير من محاسن كتابه.
-قدم الدكتور شحرور إلى طرطوس فالتقيتُ معه مرتين, كانت إحداهما بحضور اللواء علي حيدر . ودار بيننا حوار طويل, أدركتُ بعده إن هذا المفكّر الكبير متشبّث بكل حرف من حروف كتابه, الذي يعتبره قرآناً جديداً, يجب على المسلمين أن يمارسوا الإسلام الجديد بالاستناد إلى هديه لأنه أول من أوضح لهم الفرق بين النبي والرسول والقرآن والذكر والفرقان, وأول من نفض عن عاتق القرآن, باب الترادف والعطف, وغير ذلك.
إذ ذاك فكرتُ أن أعود مستقصياً, إلى الكتاب فصلاً فصلاً وفاصلة فاصلة, لأتأكد مما إذا كان "الكتاب والقرآن" نهجاً إسلامياً أم هو تشتيت للإسلام وتقسيم للقرآن.
صدر كتابي الأول تحت عنوان "القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان" عن دار النفائس في بيروت لعام 1995م, وقد قدّم له "الناشر أحمد عرموش" و"الدكتور أسعد علي" و"الأديب الشاعر سليمان زريق". ثم صدر الكتاب الثاني في 2001م تحت اسم "قصة القرآن مع الدكتور شحرور", وقد قدّم له: "الدكتور محمد علي ضناوي" و"الدكتور محمد عبد اللطيف فرفور" و"الدكتور وهبي الزحيلي" و"الأستاذ محمد بشير المفشيّ" و"الدكتور أحمد حمزة عبد الباقي" و"زوجته الدكتورة أمينة يحيى" و"الشيخ أحمد فتوح".
طبعاً آنذاك, كنتُ قد اطلعتُ على:
-قول الأستاذ الأتاسي عن شحرور.
و-تبرير شحرور لتبحّره في القرآن.
و-على رأي البوطي في الكاتب والكتاب.
فالأتاسي قال في حواره مع الدكتور شحرور:
"هذا الأستاذ القدير والمهندس اللامع في مجال الهندسة المدنية هو نفسه الضليع في علوم الدين الإسلامي. ومؤلف الكتب الجامعية في علم الأساسات والتربة هو نفسه واضع "الكتاب والقرآن" هذا المجلد الذي تجاوزت عدد طبعاته العشرة من تاريخ صدوره الأول في عام 1990م".
وقال الدكتور شحرور معللاً تبحره في الدين الإسلامي:
"مع اختصاصي بالهندسة, لم أنس أنني نشأت في أسرة دينية وبيئة محافظة زرعت في نفسي منذ الطفولة خشية الله والإيمان به".
وقال الدكتور محمد رمضان البوطي :
}إن كتاب الدكتور شحرور هو "كتاب صهيوني" وإن والد المُؤلّف كان يردد على مسامعي دائماً: إن قراءة آية الكرسي مئة مرة لن تقيه من شدة البرد, وما عليه إن كان ينشد دفئاً سوى إيقاد المدفأة{.
هذه الأقوال, وخاصة: -ما قاله شحرور عن تبتّله الإسلامي منذ نشأته الأولى عن طريق الأسرة الدينية التي نشأ فيها والتي زرعت في نفسه الخشية من الله والتبتل والإيمان.
-وما قاله البوطي عن ذلك البيت, وعن قول رب البيت –والد الدكتور شحرور عن آية الكرسي والمدفأة- الذي يعبّر بصراحة مطلقة عن درجة الإيمان. "قول البوطي, لم ينفه الوالد من قبل, ولا الولد من بعده, مع انه –أي قول البوطي- نشر في أكثر من صحيفة"!.
تلك كانت من دوافعي لوضع المجلدين "آنفي الذكر" وللمقال في جريدة النور. والمقال الأخير الذي احتل من كتاب "رؤية علمانية للإسلام" الذي وضعه السائل "أُبي حسن" من ص114- 138.
بعد ما تقدم, بات عليّ أن أعود إلى سؤالكم لتقديم الجواب المفصّل عن تساؤلاته وحتى لا تتداخل الأفكار. وضعتُ كلاً من تلك التساؤلات, في فقرة خاصة وأفردتها بالجواب عن سواها.
1-لماذا خصصت "كتاب الأم الشحروري" بمجلدين نقديين؟غلاف كتاب قصة القرآن مع د. شحرور
قلتُ في جوابي على السؤال الأول أنني ولدت في بيت مسلم, تغلغلت مفاهيمه الإسلامية في كياني مثلما يتغلغل الماء في النبات من أبعد جذوره عمقاً حتى أعلى هامته ارتفاعاً.
لذلك: ومع أنني وافقت شحرور على الكثير من آرائه فقد اختلفت معه على العديد, التي رأيت فيها تجاوزاً على مفاهيم "الجرأة العلمية" وغوصاً حتى العمق في المحاذير الدينية والمنطقية.
تلك المحاذير, أو على الأقل ما رأيته منها, أوردته وأوردت تحليله والجواب عليه ضمن الأحرف الأبجدية التالية:
آ-كنا –ولا نزال- نعتقد أن من الخطأ رؤية الفرق بين "محمد الرسول" و"محمد النبي" فالرسالة والنبوة في محمد لا تنفصلان, ولكنهما غير بشريته التي صاغ الله بها الرسل والأنبياء كافة.
لذلك وجدت أن الدكتور تطوح في الخطأ حينما قال:
"محمد كان مجتهداً تاريخياً, وكان اجتهاده بنبوته, وقد سقط الاجتهاد بوفاته, وبسقوطه سقطت طاعته عن كاهل المسلمين, منذ مغادرته الدنيا, فالطاعة مفروضة للرسول وليس للنبي".
و"الرسول معصوم والنبي غير معصوم. وآيات النبوة غير واجبة الطاعة, بل تخضع للتعديل والتجاوز البشري".
هذه الأقوال والكثير منها, بل الأكثر تخلعاً, يجده القارئ في كتابه "الكتاب والقرآن", ويجده في الحوار الذي أجراه الأستاذ الأتاسي في جريدة النهار, كما يجده في المقال الذي نشرته له مجلة الناقد.
ولو أن الدكتور عاد بفكره إلى ما يرى, لما اعترضنا. ولكنه قال إن ذلك, هو الفهم الصحيح للقرآن, وان الفهم العام لدى المسلمين, في أنحاء الدنيا هو فهم خاطئ.
لذلك عدنا إلى الآيات القرآنية واستعدناها –وما نزال- فلم نجد ما وجده شحرور.
من آيات القرآن:
"... فآمنوا بالله ورسوله النّبيّ الأمّي ..." (الأعراف -7/158)
"الذين يتبعون الرسول النّبيّ الأميّ ... فالذين آمنوا به وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف -7/157).
"يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً" (الأحزاب -33/45- 46).
"إن الله وملائكته يصلون على النّبيّ يا أيها الذين آمنوا, صلوا عليه وسلموا تسليما" (الأحزاب -33-56) .
"... ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب" (الحشر-59/7).
فهل في هذه الآيات القرآنية وأمثالها فرق بين:
-الرسول والنبي بمحمد (ص)؟
-وحينما صار الإصرار على الإيمان. هل كان ثمة تفريق بينهما؟
-وهل يوجد إيمان دون تصديق وقناعة؟
-وهل صلاة الله على النبي عبثاً؟
وجه الخطأ الشديد في كتاب الدكتور –حسب رأينا- انه اعتبر شخصية محمد ببشريته التي أكلت وشربت وحاربت وتناسلت هي ذاتها شخصية النبي التي أمرنا الله أن نأخذ بما أتى به وأن ننتهي عما نهى عنه. وان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (اقتباس من الآية 6- من الأحزاب).
كنتُ في مقالي "قول على قول" تحدثت عن الخطأ والخطورة على الكيان الإسلامي في تقسيم شخصية محمد (ص- المرسل من الله) بين الرسول والنبي, وتمزيق الطاعة التي هي –كما قال- واجبة لمحمد الرسول, وغير واجبة لمحمد النبي بل ساقطة بعد وفاته, وإن الآيات التي وردت فيها كلمة النبي غير جديرة بالطاعة أو الأخذ بها لأنها وردت لزمن غير زمننا.
وقلتُ: إن الأخذ بهذا المبدأ يسقط من حياة الناس قسماً كبيراً من القرآن.
ثم هو –فوق ذلك- يشكل مجابهة شديدة مع المسلمين الذين يرون في القرآن بكامل كلماته وآياته مجدهم الروحي.
فالأمر بالتبليغ لم يقتصر على جزء من القرآن دون غيره, كما إن الغاية من التبليغ هي تكليف المبلّغين باليقين والطاعة. " يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" (المائدة- 5/67).
"ما كان على النّبيّ من حرج فيما فرض الله له. سُنّة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا. الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا" (الأحزاب-33/38-39).
ب- الإعجاز: أي الذي يعجز أياً كان على الإتيان بمثله. "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" (الإسراء -17/88).
"أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" (يونس -10/38).
بالإعجاز القرآني تحدى القرآن جميع الإنس والجن فرادى ومجتمعين أن يأتوا بمثله أو بسورة من سوره, هذا الإعجاز ظل الدكتور شحرور يطويه ويلويه حتى قدمه عجزاً.
قال عن النص القرآني, أي عن السور, عن الآيات دون استثناء: "إن نصّ القرآن متحرك دوماً إلى الأمام", ولكن الله تعالى قال: كلا: "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون" (الحجر- 15/9). أي هو محفوظ وثابت بمبناه ومعناه.
فالجزم بأنه متحرك دوماً, ينفي صفة الثبات عنه ويجعله تابعاً بدلاً من أن يراه متبوعاً..
ونصه الثابت الذي لا يتحرك منه حرف, يحتوي على العديد من المعاني بحيث يستطيع كل جيل أن يجد في آياته, مايغطي حاجاته العبادية ويجيب على أسئلته وحاجاته الاجتماعية.
فتعهد الجهة التي أنزلت القرآن بحفظه, أي عصمته من الزيادة والنقصان والتزوير والتغيير إلى آخر الدهر, ينتقل مع العصور من عصر إلى عصر. على أن استخراج سداد الحاجات من الآيات لا يعني أنّ الجيل المستخرج قد أوجد ما لم يكن موجوداً, بل تعرّف إلى موجود لم يكن يعرف أنه كان موجوداً.
فالمعاني وأجوبة التساؤلات موجودة في الآيات منذ نزولها, وهي راسخة وكامنة في أعماق حروفها تنتظر حاجة الإنسان التي تدفعه دفعاً إلى اكتشافها والإفادة منها...
وفيما يلي عرض لبعض صور الإعجاز القرآنية:
1-"إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا" (الإنسان -76/3), أول ما يتبادر إلى الذهن من هذه الآية هو الاثنينية القائمة على التضاد. فإذا أمعنا الفكر في موجودات الوجود, وفي مصطلحاته, وجدنا أن البناء الكوني "المادي والفكري" بُني منذ الأزل على الاثنينية, أي التضاد, فكل مفهوم من المفاهيم يقابله عكسه الذي يعيش ويموت معه.
"الكفر يقابل الإيمان" و"البخل يقابل الكرم" و"الشر يقابل الخير" و"الظلام يقابل النور" و"القليل يقابل الكثير" و"الجهل يقابل العلم" و"القبح يقابل الجمال" و"البعيد يقابل القريب", وهلم جرا إلى ما لانهاية.
فلو أراد الله أن يتفرد أحد النقيضين بالوجود أو لو أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر لكانت إرادته كلمة من كلماته لا مبدّل لها- اقتباس من (الأنعام-6/115), ولكنه جعل المتناقضين متساويين, ومنح المكلف معرفتهما بالكامل ثم ترك له حرية الاختيار.
"ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها, ولا تزر وازرة وزر أخرى, وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا" (الإسراء -17/15).
"رّسلاً مّبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً" (النساء -4/165).
وقد أجمل الإمام علي ذلك بقوله: "إن الله أمر تخييراً ونهى تحذيراً", وقال: "كل ما تشكر الله عليه فهو منه, وكل ما تستغفره عنه فهو منك".
2-كذلك فيما يلي بعض المقابلات الإعجازية في القرآن:
-كلمة "الدنيا" وردت 152 مرة, وكلمة الآخرة وردت 152 مرة.
-كلمة "الحياة" وردت 145 مرة, وكلمة "الموت" وردت 145 مرة.
-كلمة "الجنة" وردت 77 مرة, وكلمة "النار" وردت 77 مرة.
-كلمة "الحرّ" وردت 4 مرات, وكلمة "البرد" وردت أربع مرات.
-كلمة "يوم مفردة" وردت 365 مرة بعدد أيام السنة.
-كلمة "شهر" وردت 12 مرة بعدد الأشهر في السنة.
-كلمة "يوم مثنى ومجموع" وردت 30 مرة بعدد أيام الشهر.
-كلمة "ساعة مسبوقة بحرف" وردت 24 مرة بعدد ساعات اليوم.
-كلمة "المرأة بالمفرد" وردت 24 مرة, وكلمة "الرجل" وردت 24 مرة.
-كلمة "أقم وأقيموا مقرونة بالصلاة" وردت 17 مرة بعدد الركعات اليومية.
-كلمة "عزم" وردت 5 مرات, وكلمة "أولوا العزم" خمس مرات.
3-الإعجاز في الحروف المقطعة التي تتقدم السور:
منها, ما شكل كلمة تكونت منها الآية الأولى من السورة. وبالإحصاء الدقيق لحروف كل كلمة من هذا النوع تبين أن كل حرف من الكلمة يتكرر في السورة بما يزيد على الحرف الذي يليه. وإليك مثالاً على ذلك:
"ألمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من رّبّك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (الرعد -13/1).
فعدد الألف في السورة 625, وعدد اللام في السورة 479, وعدد الميم 240, وعدد الراء 137.
4-الإعجاز العلمي
-وصف الشمس بالضياء والقمر بالنور, هذا التفريق بين "النيرّين" موجود في جميع الآيات التي يرد فيه أحدهما أو كلاهما. "ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً. وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً" (نوح -71/15- 16).
وقد أثبتت النظريات العلمية إن القمر يأخذ نوره من الشمس التي تتوقد مثل السراج ومن التوقد ينبثق الضياء, ومن هذا الضياء يأخذ القمر نوره.
-الرتق والفتق
"أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا "رتقاً", "ففتقناهما" وجعلنا من الماء كل شيء حيّ أفلا يؤمنون" (الأنبياء -21/30).
وقد ثبت بالعلم ما يلي:
-إن الأرض وأجرام الكون –الفضاء جميعها كانت رتقاً أي ملتحمة, فانفتقت وانفردت وتبردت, وصارت إلى ما هي عليه الآن.
-وان أصل الحياة, هو الماء, فلا حياة بدونه, وأول ما يبحث رواد الفضاء في تركيب الجرم الفضائي الذي صمموا على اقتحامه عن "الماء" حتى إذا وجدوا فيه ماء أيقنوا من وجود حياة عليه. "... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (الأنبياء -21/30).
"والله خلق كل دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين. ومنهم من يمشي على أربع. يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير" (النور -24/45).
"قال علمها عند ربي في كتاب لا يضلّ ربي ولا ينسى. الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى" (طه -20/52-53).
"ونزلنا من السّماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتة كذلك الخروج" (ق -50/9-10-11).
-كروية الأرض ودورانها:
عثر العلماء على ما يثبت كروية الأرض ودورانها في آيات القرآن كما يلي:
"خلق السّماوات والأرض بالحق يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل وسخّر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا وهو العزيز الغفّار" (الزمر -39/5).
"ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخّر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير" (لقمان -31/29).
قال المرحوم محمد متولي الشعراوي:
لماذا استخدم الله كلمة "يكور" ولم يقل "بسط الليل والنهار"؟ وفي الجواب يقول: "انك لو جئت بشيء ولففته حول كرة فتقول: إنك كوّرت هذا القماش أي جعلته يأخذ شكل الكرة الملفوف حولها.. وإن أردت من إنسان أن يصنع لك شيئاً على شكل كرة, تقول له: خذ هذا وكوّره, أي اصنعه على شكل كرة".
من هنا: يمكن فهم الأبعاد العلمية في الآية. فالله يكور الليل على النهار والنهار على الليل, أي يجعلهما يحيطان بالأرض التي هي على شكل كرة, وإلا لما قال "يكور" إذ لو كانت منبسطة لقال لفظاً غير التكوير.
"إن رّبّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" (الأعراف -7/54).
ففي عبارة "يغشي الليل النهار" دليل على تداخلهما. فالإغشاء والتغشية, إلباس الشيء بالشيء, وفي ذلك دليل على تعاقب الليل والنهار ولحاق أحدهما بالآخر دون أن يدركه إدراكاً كاملاً, فغاية ما يستطيع كل منهما هو أن يتصل أوله بآخر الثاني.
كذلك كلمة "يولج" في الآية 29 من لقمان تعني التعقب مثل الإغشاء. وهما, مثل التكوير. أدلة قرآنية دامغة على كروية الأرض ودورانها.
أما حركتها: وهي تبدو –بما عليها- ثابتة للعيان. فقد جاء في القرآن: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون" (النمل -27/88). فالسحاب يتحرك بحركة الهواء, وبدون حركة الهواء يبقى ثابتاً. وهكذا الجبال تتحرك بحركة الأرض.
هذه الآيات, وأمثالها, التي انطوت على معلومات علمية, كانت قائمة منذ الأزل, وسوف تبقى إلى الأبد, وكل ما أنجزته القوانين العلمية في صددها أنها اكتشفت ما كان قد أشار إليه القرآن منذ عشرات القرون.
نقول:
هذه الآيات بأبعادها العلمية لن نقول ما قاله الغير: إن النبي الذي بلّغها لم يكن يفهمها. بل –وبالاستناد إلى المنطق- نقول: ليس من المعقول ألا يكون حامل الرسالة الشفوية والمأمور بتبليغها حرفياً إلى الناس, ألاّ يكون فاهماً لما أُمِر بتبليغه. لأنه إذ ذاك لا يستطيع التبليغ, ولا يستطيع شرح ما بلغه. لذلك وجدنا "مجافياً للمنطق" قول من قال: لم يكن النبي يفهم أكثر من مئتي آية من القرآن.
فهذا الذي قال القول, لم يكن من معاصري النبي, ولم يشترك كما لم يسمع أن أية جهة فحصت النبي فأدركت "جهله" بالقرآن.
نخلص من ذلك, أن, ذلك القول, هو تطاول, دون دليل. ونحن هنا لا نملك حق التكفير, لأن الله خلق الناس على الاختيار وهو الذي يحاسب, فنحن جميعا إليه راجعون. "من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون" (الروم -30/44).
هذا الإعجاز الذي قدمنا بعض صوره "اللغوية" و"الغيبية" و"التشريعية" و"العلمية" لا يخفف من مستواه قول الدكتور شحرور وسواه: "إنه ملزم أن يسير إلى الإمام" أي أن يسير وراء الإنسان.
كما لن يخفف من قيمة القرآن: إنه رسالة لتربية الإنسان عبادياً واجتماعياً, ومن أقدر على التربية من الله؟
فتجزئته إلى "كتاب ديني" و"كتاب تربوي" كما قال الدكتور, لا يخرج به عن مهمته, سوى إنه كتاب واحد من مرجع واحد نزل على نبي واحد أبلغه بحذافيره إلى بني الإنسان من "الفاتحة" إلى "الناس" دون تقسيم.
جـ-الترادف:
قال الدكتور شحرور: "إن الكتب العديدة التي تناولت الرد على كتابي الأول لم تأت بأي شيء جديد بل اكتفت بتلخيص أوامر الأولين لي, فوفرت عليّ الوقت والجهد ولو أن أصحاب تلك الردود رفضوا فكرة "الترادف" في النص القرآني لكانوا شركاء لي. لكن أياً منهم لم يتجرأ على ذلك, وظلوا سجناء القراءة التراثية", وانتهى إلى القول بصراحة: "إن الترادف لا يقول به إلا كل سخيف" وأردف: "عودوا إلى كتابي (الكتاب والقرآن -قراءة معاصرة) فسوف تجدون فيه وجوه الخطأ الجسيم الذي وقع فيه جمهور المسلمين من جرّاء قولهم بالترادف".
قبل أن نعود إلى كتابه, قلنا: لا نزال إلى اليوم نلوم المتنبي على أقواله التي منها:
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
وقال:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصموا
وقال:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
بعد ذلك عدنا إلى "جمهورية المراجع- كتابه" فوجدنا: }لقد أجرينا –بقول الدكتوران شحرور ودك الباب- مسحاً عاماً لخصائص اللسان العربي, معتمدين على المنهج اللغوي لأبي علي الفارسي المتمثّل بالإمامين "ابن جني" و"عبد القادر الجرجاني" ومستندين إلى الشعر الجاهلي. واطلعنا على آخر ما توصلت إليه علوم اللسانيات الحديثة من نتائج, وعلى رأسها أن كل الألسنة الإنسانية لا تحوي خاصة الترادف, بل العكس هو الصحيح. وهو: إن الكلمة الواحدة ضمن التطور التاريخي إما أن تهلك أو تحمل معنى جديداً بالإضافة إلى الأول, وقد وجدنا هذه الخاصة واضحة كل الوضوح في اللسان العربي. كما استعرضنا معاجم اللغة فوجدنا أن أنسبها هو معجم المقاييس لابن فارس تلميذ ثعلب, الذي ينفي وجود الترادف في اللغة{.
وتابع: "إذا كان الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان, فيجب الانطلاق من فرضية أن الكتاب تنزل علينا وانه جاء لجيلنا, وكأن النبي توفي حديثاً" (ص -44 من كتابه).
وفي مكان آخر من كتابه قال: "القول بالترادف خدعة". هذا –كما يقول- ما أكده صديقي جعفر دك الباب. (ص- 47 من كتابه).
"وانطلاقاً من هذا المنطلق اللغوي بدأت بمراجعة آيات الذكر بشكل جدّي, وانتهيت إلى المصطلحات الأساسية "الكتاب", "القرآن", "الفرقان", "الذكر", "أم الكتاب", "اللوح المحفوظ", "الإمام المبين", "الحديث", "أم الحديث".
وأخذت معنى "رتّل" في اللسان العربي فتبين لي أن التنسيق والصف على نسق واحد, فأخذت الآيات التي فيها لفظة القرآن والآيات التي فيها لفظة الكتاب ورتلتها (صففتها على نسق واحد) واستنطقتها فتبين لي الفرق بينهما وقد توصلت إلى هذه النتيجة الهامة في أيار 1982, وبعد ذلك اهتديت إلى الفرق بين "الإنزال" و"التنزيل" و"الجعل" (ص -47-48) .
وكان في ص 45 قال: "هذا الكتاب هو قراءة معاصرة وليس تفسيراً أو كتاباً في الفقه", ناسياً أنه كان قد قال في ص32 من كتابه إياه: "إذا أردنا أن نخترق الفقه الإسلامي الموروث "الفقهاء الخمسة" وجب علينا إعطاء البديل, وهذا ما فعلناه في هذا الكتاب" (ص32).
من هذه الأقوال يمكن استخلاص ما يلي:
-وضع الدكتور شحرور آيات القرآن في موضع المتهم ووضع نفسه في موضع المستنطق. وفي العرف القانوني والاجتماعي أن المستنطق أكبر من المتهم قدراً وقيمة وصلاحية, مع أن الدكتور قرأ الآيات وحاول أن يفهم منها أكثر ما يمكن من المعاني, أي لم يسلك معها بالأسلوب الاستفهامي وليس بالأسلوب الاستنطاقي.
هي جرأة, بل تطاول غير مسبوق. فالقرآن من أوله إلى آخره كلام الله, والتمعن الشديد في أبعاد آياته هو لاكتشاف ما تنطوي عليه من المعاني, لا لكي تُستنطق, ويسل الجرم منها.
ثم: لا يكفي أن يكون القرآن بعيداً عنا في الزمن لنخضعه إلى زماننا. بل كان الأجدر أن يقال: لنخضِع زماننا إليه ونجد فيه الكثير من الحلول لمشاكلنا الاجتماعية.
صور الإعجاز, التي قدمناها, هي القليل جداً من الكثير جداً مما احتوى القرآن من إعجاز يتحدى منذ عشرات القرون التي مرّت فيها أدمغة لا تقل عن دماغ "دك الباب" و"شحرور".
ولو كان لدينا الوقت الكافي لحلّلنا أبعاد "تسعة عشر" التي أوردها القرآن في الآية 30 من سورة المدثر 74, وقال عنها في الآية 31 "... وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً...".
ويكفي هنا: أن نتوقف عند "بسم الله الرحمن الرحيم" كمثل:
-عدد حروفها 19.
-جميع كلماتها تتكرر في القرآن عدداً هو من مكررات 19: 114 ÷ 19 =6.
-"اسم" تكررت 19 مرة.
-"الله" تكرر 2698 مرة من مكررات 19 أي 19 × 144 = 2698.
-"الرحمن" تكررت 57 مرة أي ثلاث مضاعفات لـ19.
19 × 3= 57.
-"الرحيم" تكررت 114 مرة وهي من مضاعفات 19, أي تقبل القسمة على 19 دون باق: (114 تقسيم 19 = 6) .
-لقد بلغ عدد آيات القرآن –كما يقول "الإتقان" في ص 89 ستة ألاف وستماية وستة عشر. لم يتل الدكتور منها أو يحلل بأسلوبه أكثر من مئتي آية, لذلك يكون قوله بأنه "رتل" و"نسّق" و"صنّف" و"استنطق" و"راجع آيات الكتاب والقرآن والفرقان والذكر وأم الكتاب واللوح المحفوظ والإمام المبين والحديث وأحسن الحديث" يتناقض مع ما اقتصر عليه كتابه.
وهو –مع أنه لم يستطع نفي المصدر الإلهي لآيات القرآن, استدعاها إلى الاستنطاق مثلما يستدعي المتهم. وهناك –في غرفة التحقيق- حاول معها بالحسنى, وإذ لم تستجب استعمل أساليب التحقيق من طيّ وليّ وتجزئة وامتصاص حتى القشور.
-أما عملية "المسح" لخصائص اللسان العربي, والاطلاع مع "دك الباب" على آخر ما توصلت إليه الألسن الإنسانية, فهو معذور لاستعمال كلمة المسح, التي هي من مفردات اللغة الهندسية, ولكنها هنا في غير مكانها. وهو غير معذور في سواها, لاستحالة إمكان مسح اللسان العربي, والاطلاع على الألسن الإنسانية التي قدّر البعض عددها بالآلاف لكي يعرف آخر ما توصلت إليه تلك الألسن.
فالسائل الذي نسب إليه, العلم والاستفادة, من علم اللسانيات نرجو أن يكون ناقلا عنه لا مقتنعاً ولا متأكداً.
إننا في غاية الريب والدهشة من قوله: "إن جعفر دك الباب الذي ظل في موسكو عدة سنوات يحضّر لنيل الدكتوراه في اللسانيات, استطاع أن يفرغ معلومات السنوات جميعاً في ذهن المؤلف بحيث استطاع هذا المؤلف بعد ذلك الوقت القصير أن يستوعب ما توصل إليه علم اللسانيات.
صدق الله العظيم: "... وفوق كل ذي علم عليم" (يوسف -12/76).
ترى: أين كان "الكتاب" أثناء عملية المسح؟
ألم يقل إمام النحاة "سيبويه" اعلم أن من كلامهم: "اختلاف اللفظ والمعنى واحد". ألم يعط مثالا على ذلك: "ذهب" و"انطلق"؟
وأين كان "قطرب" و"الأصمعي" و"ابن خالويه" و"المعري" و"ابن يعيش"؟
ألم يقرا مؤلف "الكتاب القرآن" قصة أبي العلاء الأعمى, حينما عثر برجل وهو داخل إلى مجلس الشريف المرتضى. فقال الرجل: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف إن للكلب سبعين اسماً .
وهذا أبو هلال العسكري ألّف كتاباً عن الترادف سمّاه "الفروق اللغوية", حيث عدد فيه مئات المزدوجات اللفظية, وكرر القول في كل منها "الفرق بينهما هو في صفة كذا" .
وثعلب: الذي اعتمده المؤلّف, كأحد علماء اللغة العربية المنكرين للترادف, هو ذاته قال في المجلس (11): سويداء قلبه وحبة قلبه وسوادة قلبه وجلجلان قلبه وأسود قلبه وسوداء قلبه, جميعها بمعنى واحد.
وقال: غلام نُشنُش, وشُعشُع, وبلبل, وبزبز, بمعنى واحد هو الخفيف في السير.
فالترادف في اللغة: هو تكرار الألفاظ التي تدل على مدلول واحد.
ومثلما يقع في الأسماء يقع في الأفعال مثل "البر- القمح", "ذهب- انطلق- غادر", "جلس- قعد".
لقد عللوا أسباب الترادف في اللسان العربي:
-بعضهم عاد به إلى تعدد القبائل حيث أعطي للشيء هذا اللفظ ثم أعطي له في قبيلة أخرى لفظاً آخر.
-ومنهم من قال: هو ظاهرة من ظواهر التطور اللغوي, "إما للإفاضة في الدلالة على المدلولات" و"إما للاستزادة في تحسين اللفظ أو تضخيمه" كقول أكثم بن صيفي: "من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت".
ومثل "وربك فكبر" حيث جاء الترادف بالمجانسة اللفظية, إذ حافظت الكلمتان على الحروف معكوسة. ومع ذلك فكل منها تفيد الأخرى.
-لقد ورد في اللغة سبعين اسماً للكلب وخمسين للسيف وثمانين للعسل.
ومع ما تقدم:
ففي القرآن ألفاظ مفردة المعنى تمنّعت على الرديف مثل "ضيزى" في سورة النجم "ألكم الذّكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى" (53/21- 22). فكلمة "ضيزى" تعني غير عادلة, كما تعني غير الحيادية.
ثم: مادام المؤلف يطرح كتابه فقهاً جديداً للمسلمين الحاضرين, ومادام انه –إذ نفى عن المسلمين فهم ما في الكتاب- لم ينف الإيمان بأنه وحي, فلماذا نسي أسماء الله الحسنى.
فالله, هو الرحمن الرحيم قال: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون" (الأعراف -7/180). "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى... " (الإسراء -17/110).
فأسماء الله الحسنى ورد منها ستة عشر اسماً في ثلاثة آيات من سورة الحشر, "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبّر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق الباري المصوّر له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم" (الحشر -59/22-23-24).
ثم: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" (البقرة -2/2).
"بل هم في شك يلعبون" (الدخان -44/9).
فهل من فرق معنوي بين الشك والريب؟
إن عملية إعدام الترادف من القرآن واللغة لم يكن لها من مبرر عند الدكتور شحرور إلا لكي يدخل في أذهان الناس أن "النبي غير الرسول" ولكل منهما صفة وعمل وموقع من الله والناس.. وان كلا من "القرآن والكتاب والذكر والفرقان" تستقل بمعنى ووظيفة ومرجع وموقع وقيمة دينية ودنيوية تختلف عن الآخرين.
لذلك, وبدلاً من أن يقول هناك من يقول بالترادف وهناك من يقول بنفيه أرسل صواعقه الكلامية على القائلين بالترادف فهم "واهمون" و"من مرضى الفكر" ولكي يدق هذا الإسفين في رؤوس الناس ادعى –وهو المهندس- أنه قام بعملية المسح اللغوي, وانه مرّ على الألسن الإنسانية كافة, وتأكد بعد المسح والطواف الإنساني, أن لا ترادف مطلقاً.
ملاحظة:
فقرة الإعجاز مقتبسة اقتباساً غير حرفي من كتابنا الذي ناقشنا فيه مقولات الدكتور شحرور والذي أصدرناه تحت عنوان "القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان".
ء- الشافعي المظلوم
لقد وقع الظلم عليه من الدكتور شحرور, إذ قال: "المسلمون جميعاً حطمهم بأنوفهم جميعا الشافعي والسيوطي".
وقال: "لو سألني سائل: أنت أم الشافعي أيكما أكثر فهما وعلماً؟ لقلت: أنا أكثر من الشافعي فهما وذكاء وعلماً".
كل ما في الأمر هو: إنني لما كنت قرأت الكثير عن الشافعي, وقرأت كامل كتاب الدكتور شحرور, ولما كان الله قد أمر بعدم كتمان الشهادة "... ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون" (البقرة -2/140). "... ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه... " (البقرة -2/283).
لذلك قلتُ في مقالي بجريدة النور:
}إن كان هذا رأيه في نفسه وفي الشافعي فلنا في هذا الرأي القول التالي: الدكتور متخصص في الأساسات وميكانيك التربة فلن يكون ولم يكن في مستوى الشافعي بعلوم "القران والفقه واللغة والفلسفة" والشافعي شاعر مجيد له ديوان شعر, وهو القائل:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت الآن أشعر من لبيد
والدكتور –وقد تجاوز السبعين- أطال الله بقاءه ولم يقل بيتاً من الشعر, وما أظن له نبوغاً بعد الآن في الشعر.
الشافعي –كما جاء في الميسرة الإسلامية- حفظ القرآن في التاسعة, وموطأ مالك في العاشرة, وجلس إلى الإفتاء بمكة في الخامسة عشر.
فلو قال الدكتور أنا أكثر منه فهما في ميكانيك التربة والأساسات لما جانب الصواب, ولكنه بالغ في إقصاء الشافعي والسيوطي عن كل موهبة ومنح لشخصه جميع المواهب حتى استقصاء الألسنة الإنسانية{.
هـ-احتقار الشعب العربي:
اشمئزازه من الشعب العربي سياسياً وفكرياً جعله لا يقف عند حد في احتقاره للعرب جميعاً.
قال: الشعب العربي "مخصي" سياسياً وفكرياً.
قلنا: وهل يقول أعداؤنا أكثر من هذا؟
وقلنا: إن كان مقتنعاً بوجود الإخصاء, فكيف –وهو العربي بن العربي- أنتج تلك الكتب الرشيدة والآراء السّديدة؟
لا شك, إن ذلك –إذ ذاك- ثمرة محرمة عن فكر آخر.
والبشر جميعاً, في نظره حيوانات.
رحم الله التلمود الذي قال: المخلوقات شردت من زرائب الحيوانات أما هم فليسوا بشراً إنهم أبناء الله وأحباؤه والذين امتصوا رحمة الله حتى خلا منها صدره تماماً.
ظللنا نقول, كلام التلمود, كفر وتخبط, حتى سمعنا وقرأنا من واحد من أبناء زمننا وجلدتنا وقومنا تكراراً للتلمود.
فقلنا: و بأي وجه يستطيع القائل أن يقابل ما جاء في القرآن:
- "قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر... " (آل عمران -3/47).
-"قالت لهم رسلهم إن نّحن إلا بشر مثلكم... " (إبراهيم -14/11).
-قل إنّما أنا بشر مثلكم..." (الكهف -18/110).
-... فإمّا ترينّ من البشر أحداً..." (مريم -19/26).
فهل يعقل أن يكون الأنبياء ومريم, ونحن والمؤلف والسائل من صنف الحيوانات؟
نرجو من الله أن يعامله بالرحمة, لأن معاملته بالعدل سوف تكون لها نتائج شديدة جداً.
 
السؤال الثالث
أي إسلام تريد؟ 

و-أما كيفية فهمي للإسلام أي إسلام أريد:
فأنا اعلم جيداً إننا والعالم الإسلامي وأمم العالم الثالث كافة نعيش الزمن الحضاري الغربي. الزمن المادي بأبعاده التكنولوجية على جميع المستويات, ولكنني وأمثالي نحتفظ بمبادئ لا نحيد عنها, وهي –وإن كانت ضد التيار- فوجيبها لم يغادر ولن يغادر قلوبنا, وهي تتلخص بالآتي:
عدم الاكتفاء بالتراث والاستغناء به عن سواه, وعدم نبذه بكليته وقطع الصلات بهت. لأنه بالنسبة إلى الأمة بمثابة الجذور إلى الشجرة. فالشجرة التي تقطعت جذورها, تغدو طعاما للنار.
ولكن الوسطية التي قام عليها البناء الإسلامي "عبادياً واجتماعياً" تقضي بأن الأخذ من حضارة الغير يجب ألا ينسينا من نحن؛ فاليابان والهند أخذتا من حضارة الغرب ما احتاجتا, ولكنهما لم يذوبا فيها. فاليابان ظلت اليابان بتاريخها وطباعها وعاداتها وثوابتها العقائدية. كذلك الهند, فعلت مثلها, فقد أصبحت دولة ذرية . والاقتصاد الياباني في طليعة الاقتصاد العالمي.
هذه الوسطية المبدأية, التي كنا نوهنا قبلا عن انتشارها في جميع نواحي الحياة "العبادية والاجتماعية" أقنعتنا إن الحضارة تحمل جواز سفر أممي, وأنها في تدفقها الزمني تتكامل ولا تتصارع أو تتحاور, فيأخذ جديدها من قديمها ما يحتاجه ويضيف إليه, ليغدو بذاته الجديدة قديماً لمن سوف يأتي.
السيد المسيح قال: ما جئت لأنقض. جئت لأكمل.
والسيد محمد قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
الأكاديون الذين احتلوا جميع الجغرافيا السومرية وتمددوا على أمداء واسعة حافظوا على الفكر السومري والحضارة السومرية, وأضافوا.
والرومان الذين حلّوا محل الإغريق في المناطق الجغرافية التي كانت تحت سيطرتهم, وضعوا يدهم على الكتلة الثقافية الإغريقية, وظلت بين أيديهم يتناولون منها ما يحتاجون حتى جاء البديل العربي فاستلم قيادة الفكر والسياسة وعكف علماؤه على المخزون "نقدا تحليلا, رفعا ووضعا" حتى نشرت الحضارة العربية ظلالها فوق الأمم وأثمرت تلك الأثمار العظيمة مثل الفارابي, ابن حيان, والكندي, وابن سينا, وابن رشد, وابن خلدون, والمتنبي, المعري, وسواهم.
هكذا, تكاملت الحضارة, فلم يقتل حديثها قديمها ولم يمش على جثته. هذا التكامل, هو الإسلام الذي أردته وسوف أبقى أريده ما حييت, فالنبي محمد الذي هو:
-... رسول الله إليكم جميعاً... (الأعراف -7/158).
-وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء -21/107).
كان يعلم –كما قلت سابقاً- انه ليس في الصين قرآن ولا سُنّة ولا تفسير ولا تأويل, ولكنه رمز بقوله "اطلبوا العلم ولو في الصين" إلى أن الطريق إلى العلم يجب أن تُسلك مهما كانت شاقة وبعيدة.
والله حينما أوحى إلى نبيه أن يطلب من الناس جميعا أن يسيروا في الأرض فينظروا ويكتشفوا كيف بدأ الخلق "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق... " (العنكبوت -29/20). إنما كان يطلب من الناس دون تخصيص بالمسلمين أن يسيروا في الأرض ليكتشفوا بأنفسهم كيف بدأ الخلق وكيف توزعت المخلوقات وتحدّد لكل صنف منها كيفية نشاطه وحيويته. لا أن يجمد الناس على ما بين أيديهم, التي سوف تبقى ثوابت لا تتبدل ولا تتعدّل إلا باكتشاف الجديد.