كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

لطفي السومي: محطّات في الذاكرة... من ثورة 1936 في فلسطين حتى أيار 1966 في سوريا

يتابع موقع فينكس نشر سلسلة "محطّات في الذاكرة", مع أعلام عرب و سوريين, و هذه المحطة مع ذاكرة الأستاذ و الناشط الفلسطيني "لطفي السومي",

الأستاذ السومي, و هو المولود عام ثورة 1936 في فلسطين المحتلة, عاصر (فتى) قرار تقسيم فلسطين.. و يذكر ما كان يقال عن أخطاء جيش الإنقاذ عام 1948, و ما يزال يتذكّر كيف مزق والده عقال فوزي القاوقجي –بعد خيبته منه- للاستفادة من خيوطه الحريرية..

عرف "لطفي السومي" إمارة قطر منذ أواسط خمسينات القرن الماضي, تلك الامارة التي كانت أشبه بقبيلة بدويّة تفتح وعيها "السياسي", بمعية إذاعة صوت العرب, على عشق جمال عبد الناصر.. و كان قريباً من دوائر صنع القرار هناك, و أعدّ وزّع المنشورات المهاجمة للانكليز فيها؛ و كان شاهداً على انتشار حزب البعث العربي الاشتراكي في مصر و الكويت و غيرها من بلدان عربية في ذروة المدّ القومي العربي..

و الآن إلى المحطّات:

 

الولادة و ثورة 1936.. و اغتيال الملك غازي

ولدت في ٢٥ آذار ١٩٣٦في أسرة متوسطة الحال بمقاييس ذلك الزمن، ولكننا اذا قارنا طريقة حياة أسرة متوسطة الحال في ذلك الزمن بالطريقة التي يعيشها الناس في زمننا هذا لوجدنا اننا كنّا فقراء بعد ان اختلفت المقاييس وتوفرت وسائل الرفاه التي لم تكن متاحة في ذلك الزمن.

ولدت في قرية سيلة الضهر، إلّا ان الأسرة قد انتقلت الى مدينة جنين ولي من العمر أربعة أشهر، أي أنني لا أعي إلّا و أنا في جنين، المدينة الصغيرة التي تقع على مشارف مرج بن عامر.

من المعروف ان الثورة الفلسطينية الكبرى قد حدثت بين ١٩٣٦-١٩٣٩ والتي سبقها إضراب استمر لستة أشهر، ورغم أنني لا أذكر أحداث الثورة طبعاً، إلّا ان قصص الثورة والثوار وأغانيها ورجالها وخونتها كانت هي ما تفتح عليه وعينا المبكر. وأستطيع ان اؤكد أنني أذكر صوراً غير مترابطة من حادثة حصلت في النصف الثاني من العام ١٩٣٨، إذ انه في هذا الوقت كلّف قائد الثورة في المنطقة الواقعة بين جنين ونابلس وبيسان المرحوم الشهيد محمد صالح الحمد المعروف بأبي خالد وهو والد الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، كلّف شخصاً يدعى علي أبو عين من عائلة ابو الرب في قباطيه باغتيال الحاكم العسكري الإنكليزي في جنين "موفت". كان أبو عين أحدباً ومنحني الظهر جدا ولقد حمل معه أوراقا و ادعى انه قد ضرب وأهين من قبل الثوار و انه يريد ان يبلغ الحاكم شخصياً معلومات عن الثوار، وكان يلف على يده اليمنى شاشاً طبياً يخفي تحته فرداً صغيراً مجهزاً للإطلاق، ولقد ساعد شكله وتصنعه البكاء والتمويه في السماح له بالدخول، ولقد قام بإطلاق النار فوراً على الحاكم فقتله حالاً.

كان الشهيد أبو خالد قد كلّف اثنين من الثوار بإطلاق النار في الخارج لتشتيت الانتباه وذلك بمجرد سماع إطلاق النار في الداخل، وكان أحدهما هو مروح أبو قعية من عائلة الزبيدي من سيلة الضهر - أي من قرية ابو خالد - والذي اختبأ في جامع جنين الكبير مقابل السراي بعد إنجاز مهمته.

طارد الإنكليز الثائر أبو عين وقتلوه خارج السراي، بينما قاموا بتطويق جنين وأمروا كافة السكان بمغادرة بيوتهم وتجمعت النساء في الجامع الكبير وتجمع الرجال في مكان يدعى المنشية، وقام الإنكليز بتفتيش المدينة بيتاً بيتاً، وتدخل مفتي جنين الشيخ أديب الخالدي الذي اعترض على دخول الجامع للتفتيش مما أنقذ الثائر المختبئ في الجامع مروح أبو قعية.

سمح للناس بالخروج وقامت احدى سيدات جنين وتدعى وصفيه كلَاب بإعطاء لباسها (الغطوة والمنديل) للثائر المختفي في المسجد، و لأنه من أقربائنا فقد حملني كأم تحمل طفلها وخرج مع أهلي ونجا هذه المرة إلّا أنه قد قبض عليه و أعدم في طريق حيفا -جنين. ومن الأمور المهمة التي أذكرها هذه المرة بوضوح فهي أنه عندما توفي أو قتل الملك غازي ملك العراق عام ١٩٣٩خرجت معظم نساء جنين الى المنشية وأقمن مناحة جماعية، ولا زلت أذكر أنني كنت أمسح دموع والدتي بيدي، وهذا يؤشر الى المشاعر القومية التي كانت سائدة في تلك الفترة، بل و إن الكثيرين من المتطوعين قد التحقوا بثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وكان أي تحرك عربي في أي بلد يلاقي تجاوباً حقيقياً لدى الشعب في البلدان العربية الأخرى.

و أنتقل الآن إلى مرحلة الدراسة، ففي العام ١٩٤٢ اصطحبني والدي الى المدرسة (مدرسة جنين الثانوية للبنين) والتي استمرت دراستي فيها في جميع المراحل حتى إنهاء الدراسة الثانوية (المترك) في حزيران من العام ١٩٥٣، و إنني أستطيع القول ان مرحلة الدراسة الثانوية كانت وما زالت أكثر مراحل حياتي شعوراً بالسعادة  والرضى العميق عن الذات وذلك عائد الى تفوقي في المواد العلمية وبصورة خاصة الرياضيات والتي كانت مقياساً للتفوق والتميّز.

 

قرار تقسيم فلسطين 1947.. و هذا ما فعله والدي بعقال فوزي القاوقجي

عندما كنت في الصف السادس  الابتدائي صدر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في ٢٩ تشرين الثاني ١٩٤٧، وبدأت المناوشات بين العرب واليهود. وسأتحدث هنا كيف عشت مرحلة الحرب وذلك ضمن حدودي كطفل في الثانية عشر من العمر، ومع ذلك فإن المتابعة اليومية الحثيثة كانت متوفرة عند أبناء جيلي، إذ ان التعبئة الوطنية القومية في المدرسة والبيت والشارع قد خلقت وعياً مبكراً قد يستغرب القارئ المعاصر أبعاده.

بدأت الحرب ونحن على ثقة من أننا سنهزم اليهود الجبناء، خاصة بعد ان تقرر ان تدخل سبع جيوش عربية بعد جلاء الإنكليز في ١٥ أيار ١٩٤٨، ولقد قررت الجامعة العربية إرسال مجموعة من المتطوعين لتغطية الفراغ حتى موعد الجلاء بدلا من ان يقوموا بتسليح الفلسطينيين الذين اعتمدوا على إمكانياتهم الذاتية المحدودة، ولقد دخل ما سمي بجيش الإنقاذ والذي تشكل من ٣٠٠٠ مجاهد كان معظمهم من سورية ومن ثم العراق وذلك بقيادة فوزي القاوقجي الذي قاد ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩ والذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، إلّا انه استنفذ هذه الشعبية عام ١٩٤٨ وخرج غير مأسوف عليه، و إنني هنا لا أقدم تقييما علمياً بل أتحدث عن المشاعر العامة، و أذكر ان والدي الذي كان قد تبادل معه عقاله قد طلب من والدتي فك العقال والاستفادة من خيوطه الحريرية بينما كان خلال ١٠ سنوات محفوظاً بعناية.

 

قالت والدتي عام 1948: "ناموا بكير لتفيقوا على حجارة حيفا في البحر"

دخل جيش الإنقاذ الى فلسطين في الشتاء وكانت أولى معاركه في مستعمرة يهودية في الاغوار هي الزراعة، ولقد فتح اليهود مياه أحواض تربية السمك مما جعل القوات المهاجمة تغرق في الوحل وجعل قائد الهجوم محمد صفا وهو من سورية يأمر بوقف الهجوم و الانسحاب. توزع جيش الإنقاذ قليل العدد في بعض المناطق، بينما كان جيش "الجهاد المقدس" بقيادة الشهيد عبدالقادر الحسيني في منطقة القدس ودخل الى جنوب فلسطين مجموعة من المتطوعين المصريين.

استطاع اليهود احتلال المدينة العربية الأولى وهي مدينة طبريا في حوالي منتصف نيسان أي قبل جلاء القوات البريطانية، ورغم ثقل الهزيمة الاولى إلّا ان طبريا كانت مدينة مختلطة، و كان اليهود أكثر من نصف سكانها ولذلك فلقد كان تأثير سقوطها محدوداً على معنوياتنا. 

يبدو ان اليهود والذين كانت الهاغاناه أشهر منظماتهم العسكرية وكان الى جانبها كل من منظمتي اراغون وشتيرن الأكثر تطرفاً، قد كانوا في وضع أفضل بكثير مما كنّا نعتقد ولقد بدأوا بمحاولة احتلال المدينتين الأهم حيفا ويافا ولقد تم لهم احتلال حيفا في ٢٣ نيسان ١٩٤٨. و أذكر ان آخر نشرات أخبار إذاعة القدس حول معركة حيفا قد أكد احتلال أغلب أحياء المدينة وختم بالقول: "وَمِمَّا هو جدير بالقول إنه لا زالت هناك مقاومة ضعيفة في وادي النسناس"، ولقد كان احتلال حيفا مروعاً بالنسبة لنا، خاصة و انه قد سبق احتلالها استشهاد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل في ٩نيسان ١٩٤٨ وذلك بعد ان عاد من دمشق وترك رسالة للقيادة يحملهم مسؤولية ترك قواته بدون سلاح وعتاد وهي في أوج انتصارها، ورافق استشهاده مذبحة دير ياسين ثم احتلال اليهود لمدينة يافا، وبدأنا نشعر ان الأمور تسير على غير ما كنّا نتوقع، ولم يعد أمامنا إلّا املنا شبه اليقيني بأن الجيوش العربية التي اقترب موعد دخولها ستوجه الضربة القاضية للحلم اليهودي الاستعماري.

أذكر انه في ليلة ١٤/١٥ أيار ١٩٤٨ قالت لنا والدتي "ناموا بكير لتفيقوا على حجارة حيفا في البحر".

دخلت الجيوش العربية يوم ١٥ أيار ١٩٤٨ وكانت مكونة من ٢٠٠٠٠ جندي مصري، ١٥٠٠٠ عراقي ، ١٢٠٠٠ أردني، ٥٠٠٠ سوري، ٣٢٠٠ سعودي ، ١٢٠٠ لبناني.

كانت المشكلة انه رغم وجود قيادة موحدة على رأسها الملك الأردني عبد الله ومعه جميل المدفعي من العراق و آخرون إلّا أن الجيوش العربية في الواقع كانت ذات أجندات مختلفة وليس بينها أي تنسيق، ولقد قاتل كل من الجيش العراقي والاردني بشجاعة وبسالة وربحوا معارك مهمة كان على رأسها معركة جنين بالنسبة للجيش العراقي، ومعارك القدس القديمة وباب الواد وكفار عصيون بالنسبة للجيش الأردني، إلّا ان هيمنة بريطانيا على القرار السياسي قد ذهبت ببطولة المقاتلين أدراج الرياح. ففي معركة جنين مثلاً سحق الجيش العراقي القوات اليهودية المهاجمة و أصبح الطريق ممهداً لدخول مرج بن عامر فحيفا إلّا ان القوات العراقية بقيادة القائد عمر علي قد وقفت على بعد ١كم من جنين دون ان تحاول التقدم، ودرجت عبارة "مأكو أوامر" التي كان يرددها أبطال الجيش العراقي المقيدين.

استطاعت الجيوش العربية تحقيق بعض النتائج الإيجابية في الفترة الأولى، فاحتلت القوات السورية مستعمرة مشمار هياردن بينما فشلت في معركة قرب سمخ تدعى "باب ألثم" في مكان التقاء نهري اليرموك والأردن، واستطاع الجيش اللبناني بقيادة فؤاد شهاب احتلال مستعمرتين، وحقق الجيش المصري تقدما في الجنوب، و أذكر اننا كنّا نسمع انه على بعد ١٤ كم من تل أبيب، و أمام هذا الوضع فرضت الهدنة الاولى لمدة أربعة أسابيع من ١١ حزيران وحتى ٩ تموز ١٩٤٨ ولقد جلب اليهود خلال هذه الهدنة أسلحة لم تكن  لديهم وبصورة خاصة طائرات ميسر سميث وطائرات سبت فاير، ومدفعية من عيارات اثقل وإعداد كبيرة من البنادق والرشاشات والذخائر الى جانب عدد من الدبابات والسيارات المصفحة بل وبعض طائرات النقل من عدد من الدول الأوروبية وأمريكا وذلك كله بشكل سري لأن مجلس الأمن كان قد اتخذ قراراً بوقف توريد الأسلحة للقوى المتصارعة، غير أن هذا القرار لم يطبق إلّا على العرب. ومن جهة أخرى استفاد اليهود من الهدنة في جلب عدد كبير من المتطوعين ذوي الخبرة وأقاموا المزيد من التحصينات، كما حققوا خرقاً استراتيجياً لفك الحصار عن الأحياء اليهودية في القدس بفتح طريق آخر من خلال احتلال بعض القرى العربية.

وفي الوقت الذي كان فيه اليهود يعملون على حشد أسباب القوة لم يتمكن العرب من جلب أية أسلحة بسبب الحظر وكل ما فعلوه هو إدخال كل من الجيش العراقي والمصري بعض القوات الإضافية.

كان مجلس الأمن قد عين الكونت السويدي "برنادوت" وسيطاً دولياً يساعده الامريكي رالف بانش، وقد قام الوسيط الى جانب الإشراف على الهدنة باقتراح حل شبه دائم يقضي باعتبار حيفا ميناء حراً وكذلك مطار اللد، و إعادة بحث موضوع يافا وإعطاء جزء مهم من النقب للعرب وجزء من الجليل الغربي لليهود بالإضافة لما كان بيدهم، وضم القدس التي كانت دولية بموجب قرار التقسيم الى الدولة العربية مع إعطاء يهود القدس صلاحيات بلدية كاملة. ولقد بادر اليهود الى رفض الاقتراح، كما رفضه العرب وبذلك استؤنف القتال بعد نهاية الهدنة واستمر من ٨ تموز ١٩٤٨ وحتى ٢١ تموز ١٩٤٨ بعد ان كان ميزان القوى قد تغير وبعد ان أضاع العرب فرصة الاستمرار في الحرب قبل الهدنة الاولى وأعطوا فرصة ذهبية لليهود الذي استفادوا من كل يوم من ايام الهدنة.

استطاع اليهود بعد الهدنة ان يحققوا انتصارات مهمة على الجيش المصري الذي أخرجوه من كامل جنوب فلسطين، من أسدود شمالا الى العقبة جنوبا باستثناء قطاع غزة بطول ٤٠ كم وعرض حوالي ١٠ كم، كما انسحب الجيش الأردني من اللد والرملة ودخلها اليهود دون قتال، كما احتلوا كامل الجليل بشقيه الغربي والشرقي و أخرجوا الجيشين السوري واللبناني من الأجزاء التي كانا قد دخلاها، كما احتلوا الكثير من القرى وأصبحوا يسيطرون على حوالي ثلاثة ارباع فلسطين، مما جعل العرب يقبلون بالهدنة الدائمة في ٧ كانون الثاني ١٩٤٩ وعقدت الدول العربية ودولة اليهود اتفاقية رودس التي منحت لهم عدداً مهما من القرى في منطقتي جنين وطولكرم ووادي عاره واكتملت عناصر ما أصبح يسمى النكبة أو نكبة فلسطين والتي اكتملت من خلال حرب ٥ حزيران ١٩٦٧ حين احتل اليهود كامل فلسطين و أجزاء مهمة من مصر (سيناء) وسورية (الجولان).

كان رد فعل الشعوب العربية على الهزيمة قوياً، فحدثت انقلابات عسكرية في كل من سورية ومصر والعراق، كما اغتيل الملك عبد الله بن الحسين ملك الاْردن في القدس. ومن الناحية الشعبية انفجر الحراك الشعبي من خلال الأحزاب والحركات السياسية، بل وحصل رد فعل اجتماعي وفكري في اتجاه ادانة الفكر والمجتمع التقليدي، بغض النظر عن تقييمنا الحالي لهذه التحولات، وذلك بالإضافة الى ازدياد النقمة على قوى الاستعمارين القديم والحديث ودورهم الجلي في حصول النكبة منذ سايكس بيكو ووعد بلفور وتشجيع الهجرة اليهودية وقرار التقسيم وفرض الهدنة الاولى وتزويد اليهود بالسلاح.

 

 

ولادة الأحزاب و الانخراط في الشأن العام.. و تأسيسه لحزب "فلسطين الفتاة"

أصبح الانتماء الى الأحزاب السياسية بالنسبة للشباب هو القاعدة، فانتشرت كالنار في الهشيم كل من أحزاب البعث العربي الذي توحّد مع الحزب العربي الاشتراكي عام 1952 تحت اسم حزب البعث العربي الاشتراكي، وكذلك حركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور جورج حبش و آخرون وكانت جذورها تمتد الى عصبة العمل القومي التي أسسها الدكتور قسطنطين زريق، وازداد نشاط الحزب القومي السوري الذي أسسه انطون سعادة، وكذلك وجدت حركتين دينيتين هما الاخوان المسلمين التي تأسست في مصر وحزب التحرير الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني. ولقد كان توجهنا السياسي بعد العام ١٩٤٨ لا يجد له متنفساً، فقمت بتأسيس حزب في المدرسة وكنت في الصف العاشر باسم حزب "فلسطين الفتاة" و أصبح يضم ١٧ عضواً، اذ لم نكن نعرف بوجود أحزاب حتى ذلك الوقت اي في العام الدراسي ١٩٥١/ ١٩٥٢، وبعد أشهر قليلة طلب مني أحد أساتذتنا ان اختار ٤ طلاب و أنا ودعانا الى لقاء، وبدأ يتحدث عن النكبة وحال الأمة و الاوضاع العامة من مختلف النواحي وكان مستوى حديثه متقدما بما لا يقاس عن ما كنّا نطرحه في فلسطين الفتاة، وكنت الأكثر اندفاعا وحماسا للعمل وبعد عدد من اللقاءات تبين أن الحزب هو حزب التحرير وهو ذو توجه اسلامي وبقيت على حماسي ونشاطي حتى ربيع العام ١٩٥٥ حينما تركت الحزب بسبب تغيرات أساسية حصلت في تفكيري.

في أواخر العام ١٩٥٢ طلبت وزارة المعارف الاردنية ممثلاً عن كل مدرسة ثانوية في الاْردن من أجل الفحص في مواد الرياضيات والفيزياء واللغة الانكليزية، ولقد رشّحتني الادارة لأمثّل مدرسة جنين حيث أنني كنت الاول في مجموع هذه المواد، وعُقد الفحص في وزارة المعارف في عمان وتم اختيار الثلاثة الأوائل وهم: منذر المصري من نابلس ولطفي السومي من جنين واسحق الدويك من الخليل، وأبلغونا ان نستعد للسفر قريباً جداً الى بريطانيا لدراسة الهندسة ووقعوا معنا عقوداً بذلك، إلّا ان السفر تأخّر لمدة سنة عملت خلالها معلماً في سلفيت، ثم سافرنا في أواخر العام ١٩٥٤، وكانت الطائرات تتوقف في محطات متقاربة، إذ اننا سافرنا من عمان الى بيروت وقضينا ليلة فيها ثم غادرنا الى اثينا (سكال) ثم الى روما (سكال) ثم الى جنيف حيث نزلنا ونمنا في الفندق، وهنا أروي حادثة طريفة ففي صباح اليوم التالي نزلنا للإفطار وكنا أول النازلين ووجدنا ال كورن فليكس مع الحليب ولم يكن أي منا يعرف الكورن فليكس، فانتظرنا حتى نزل أول زبون وراقبنا كيف يأكل وقلدناه، ولقد أكملنا الرحلة الى لندن وبعد أسبوعين من اطلاعنا على أهم معالم لندن أرسلنا الى ثلاث مراكز تدريب مهنية مختلفة وكانت هذه المراكز مصممة من أجل إعداد عمال المصانع، ولقد شعرت منذ البداية ان هناك خطأ ما وقمنا ثلاثتنا بالاعتراض لدى السفارة الأردنية، وكان السفير هو الدكتور يوسف هيكل رئيس بلدية يافا السابق والذي أرسل احتجاجنا الى وزارة المعارف الاردنية التي أصرت على ان نستمر فيما نحن فيه، ولقد تابعت التدريب في المركز لمدة شهرين عدت بعدها الى لندن وعاد ايضاً اسحق الدويك وبعد ثلاثة أشهر من الإضراب جرى إعادتنا الى الاْردن.

 

السفر الى قطر و اكتشاف مجتمعها

كانت الصدمة ثقيلة على والدي الذي تصور عند سفري ان ابنه سيكون أحد خريجي الجامعات البريطانية النادرين في ذلك الوقت، ولم يتقبّل فكرة ان وزارة المعارف الاردنية والسلطات البريطانية قد ارتكبت كل هذا الخروج على الاتفاق، ولذلك لم يكن مستعداً لإرسالي للدراسة في مصر أو سورية لأنه لم يكن هناك جامعات في الاْردن. 

كان صديقي وزميلي في المدرسة اسماعيل الزابري بصدد السفر الى قطر للعمل سكرتيراً للشيخ خليفة بن حمد الثاني وهو جد الشيخ تميم الحالي، فطلبت منه ان يحاول ان يجد لي عملاً في قطر، ولقد استطاع بسرعة قياسية ان يؤمّن لي عملاً وهو سكرتير شقيق الشيخ خليفة، وسافرت في أيلول ١٩٥٥ الى قطر التي كانت لا زالت بلداً بسيطا ينقصها الكثير من مقومات المدينة، فالشوارع الفرعية غير معبدة ولا يوجد بنايات أو نوادي، وكان هناك مطعم بسيط واحد وكان دخل البلد المحدود يقسم الى أربعة أقسام متساوية، يصرف الاول للحاكم  شخصياً، والثاني للعائلة الحاكمة والثالث يخزن كاحتياطي اجباري في المصارف البريطانية، والرابع يخصص للإنفاق على الشأن العام. وكانت رواتب الشيوخ تقدر بحسب قربهم من فرع الشيخ عبد الله بن جاسم الثاني والد الحاكم آنذاك الشيخ علي بن عبد الله الثاني, وكان أولاد الشيخ عبد الله هم الشيخ علي (الحاكم الحالي- هذا الحديث عن عام 1955) والشيخ حمد (الحاكم السابق وهو الشيخ حمد بن عبد الله الذي اغتيل عام ١٩٤٩ بالسم) والشيخ حسن، وكانت رواتب أولادهم هي الأعلى، ولقد كان الراتب من الدولة ٨٠٠٠ روبية هندية يضاف اليها ٧٠٠٠ روبية من مخصصات الحاكم والمبلغين يعادلان ١٥٠٠٠ روبية شهرياً اي ما يعادل ١٢٥٠ جنيه إسترليني، يضاف اليها ١٦٧ جنيه إسترليني لكل طفل ذكر بمجرد ولادته. و لقد كانت النساء هن الأكثر معاناة في المجتمع القطري، اذ كانت المدارس محرّمة على الإناث وكان الزواج مقرراً سلفاً لابن العم الذي يطلق عليه (قرعي) حتى ولو كان متزوجاً أو أكبر من ابنة عمه بكثير، وكانت النساء يغطين وجوههن بما يسمى (البطولة) والمرأة لا تنزعها حتى في البيت، ولقد أقسم لي شخص اسمه علي بن بادي إنّه لم ير وجه زوجته رغم ان لديه منها ثلاثة أطفال، إلّا ان شخصاً آخر كان معنا وبخه على ذلك أي انه كان في قطر سلوكين متناقضين في هذا المجال.

أما من الناحية السياسية فلقد كان أول اتصال للقطريين بالعالم من خلال إذاعة صوت العرب، ولذلك فقد كانت شعبية الرئيس عبد الناصر تتجاوز كل وصف، لم يقتصر ذلك على أفراد الشعب، بل ان الشيوخ قد عشقوا عبد الناصر الى أبعد الحدود، وكان الاستثناء الوحيد قلة قليلة جداً من العاملين والمتعاونين مع الإنكليز لأن قطر في ذلك الوقت كانت تحت الحماية البريطانية، ولقد كنت أعد منشورات سرية أطبعها على الآلة الكاتبة على دفعات وكان يتعاون معي على توزيعها كل من الصديق حمد بن عبد الله العطية وخليفة بن ناصر السويدي وكنت أهاجم الإنكليز والمتعاونين معهم، ولقد حازت هذه المنشورات على الكثير من الاهتمام لأنها كانت ظاهرة لا سابق لها، وهنا لا بد من الإشارة الى انه كان من بين أفراد العائلة الحاكمة فرع يسمى آل عبد الرحمن والذين خرجوا من المدينة الى البرّ القطري لأنهم اعتبروا دخول وسائل الحياة الحديثة كفراً ولقد سمعوا بالمنشورات فطلبوا واحداً، وعندما قرأوه لم يفهموا كلمة ثورة فسالوا أكثرهم فهماً والذي يسمى (العارفه) عن معنى كلمة "ثوره" فقال لهم باللهجة القطرية (امحق رياييل ما تعرفون الثورة، انها امرأة الثور) أي (اعدم رجالا لا يعرفون الثورة، انها امرأة الثور).

عندما بدأ التحضير للعدوان على مصر (مؤتمر المنتفعين بقناة السويس) في لندن قامت مظاهرات صاخبة في قطر وشارك فيها حتى بعض شيوخ آل ثاني، كما قام حمد بن عبد الله العطية بتفجير أنبوب النفط القطري الذي يصل الحقول بالمرفأ، وسرت شائعة بأن بارجة بريطانية قد اقتربت استعداداً لإنزال جنود إنكليز على البرّ القطري، وعندها قام الشيخ خليفة بن حمد الثاني (جد تميم) بإبلاغ عمه الحاكم بأنه لن ينزل جندي بريطاني قبل ان نموت جميعاً، ولا أعتقد ان هذا التهديد كان له أهمية من الناحية الفعلية ولكنه يدل على انتماء العرب في تلك المرحلة، وكيف حدثت كل هذه التغييرات وأصبحت قاعدة العيديد أهم قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط.

 

دراسة الفلسفة و الانتساب إلى البعث

كنت أرغب في إكمال دراستي ولذلك تذرعت ببعض الأسباب و استقلت من عملي و قررت دراسة الفلسفة لأنني كنت أعتقد ان من واجبي ان أفعل ما أستطيع في مجال الفكر العربي، رغم أنني كنت متفوقاً ومن عشاق الرياضيات والمواد العلمية، و كان عليّ أن أحصل على شهادة التوجيهي كما تقضي شروط الدراسة في مصر، فسجلت في كلية النجاح الوطنية في نابلس عام ١٩٥٧.

 في العام ١٩٥٦ قام الملك حسين بطرد قائد الجيش الأردني الإنكليزي كلوب باشا وعددا من الضباط الإنكليز وعددا من العرب المتعاونين معهم، ويبدو انه كان من بين هؤلاء شخص فلسطيني أحضروه الى قطر للعمل سكرتيراً للمعتمد البريطاني فيها، ولقد قام بزيارات تعارف على عدد من الشيوخ المهمين والذين كان من بينهم الشيخ خليفة بن حمد الثاني الذي كنت أعمل معه، ولقد عرفت ان هذا السكرتير الجديد هو فلسطيني، فانفردت به وأخذت أؤنبه بقسوة على عمله مع الإنكليز بعد كل ما فعلوه بفلسطين و أهلها، ولقد بدأ بالبكاء واعتذر بأحواله المادية وأبلغني انه جاهز لتنفيذ كل ما أطلب منه، فقلت له عليك ان تتعاون معنا بإعلامنا بما يفعله المعتمد البريطاني، فوافق بحماس، وأبلغني بعد أسبوع تقريبا ان وفدا من وزارة الخارجية البريطانية سيزور دول الخليج بصفتهم تجار لؤلؤ والماس بسبب ما تمر به بريطانيا من صعوبات مالية، ولم يكن هذا الخبر يعنيني، وبعد فترة جاء إليّ  وأعلمني ان الإنكليز هم من اغتالوا والد الشيخ خليفة، الحاكم السابق الشيخ حمد بن عبد الله الثاني وولي عهده الشيخ عبد العزيز بن حمد الثاني، وكان الاول في عمر ٥٢ سنة والثاني في عمر ١٨ سنة، وذلك بالسم البطئ بمساعدة شخص قطري كان مقرباً من الشيخ حمد ولقد سماه لي طبعاً، ولقد ذهبت بعد مغادرته و أبلغت السرّ للشيخ خليفة الذي  كان يعرف أن والده وأخيه قد ماتا بسبب المرض. احتقن وجه الشيخ خليفة دون أن ينبس بكلمة ولقد انتقم من الشخص الذي ساعد بعد فترة وجيزة دون ان يكون قادراً على فعل شئ مع الإنكليز غير مزيد من الكره. وبعد فترة وجيزة وكنت لا زلت في غرفة النوم دخل سكرتير المعتمد البريطاني الى الغرفة، وأحسست فوراً ان وجهه مختلف على طريقة (يكاد المريب ان يقول خذوني) وجلس على السرير الى جانبي، فقلت له رأساً بأنني كنت أنوي رؤيته واختلقت عذراً بأن قلت: انني كنت أعرض حساب الشهر الماضي على الشيخ خليفة الذي سأل عن المبلغ المعطى لك فقلت له انك تتعاون معنا، وقلت انه ثار وأبلغني ان الإنكليز هم أصدقاءه وانه لا يريد التجسس عليهم، وأبلغته ان يعتبر العلاقة في هذا المجال منتهيةمستشار أميري في قطر يسجل روايته عنها وينتقد سياستها الخارجية - كيو ....

دارت الأيام وفي العام ١٩٦٤ وبينما كنت أسير في شارع الجهرة في الكويت وإذا بي وجهاً لوجه معه، وبعد السلام دعوته الى مطعم جبري القريب وسألته قائلاً: لم تعد انت سكرتير المعتمد البريطاني ولم أعد انا سكرتير ولي عهد قطر، فلماذا (دوبلت) عليّ بعد فترة قصيرة من التعاون؟ فقال على الفور: وكيف عرفت؟ فقلت له سأخبرك لاحقاً، فقال انه قد أخبر المعتمد وهو في حالة سكر إنني قد طلبت منه ذلك و إنه لم يوافق بعد، فطلب منه ان يتظاهر بالموافقة وكان قادماً إلي ليخبرني بذلك. وقال ولكن انت كيف عرفت؟ فاكتفيت بالقول "يكاد المريب ان يقول خذوني"..

كان قرار دراسة الفلسفة قفز فوق أية اعتبارات شخصية أو مصلحية، إذ كان الهم العام هو ما يوجه خطوات النخبة من شباب أمتنا وكان النشاط السياسي في أوج قوته، وأكرر القول انني لم أكن حالة استثنائية في هذا الخيار. فاتني ان أقول إنني منذ تركت حزب التحرير (الاسلامي) في صيف العام ١٩٥٥ أصبحت أعتبر نفسي بعثياً، إلّا ان مغادرتي فوراً الى قطر ، حيث لم يكن يوجد تنظيم حزبي، جعل انتسابي بصورة رسمية يتأخر حتى عودتي الى نابلس عام ١٩٥٧ . كان أمين فرع الحزب في نابلس حسني الخفش وحل محله بعد وفاته بسام الشكعه الذي كان مختفياً الى ان تمكن من المغادرة تهريبًا الى سورية، فحل محله خالد الطاهر.

في ١٤تموز١٩٥٨ حصلت ثورة العراق بقيادة عبد الكريم قاسم وَعَبَد السلام عارف وعدد من الضباط البعثيين والقوميين، ولقد قام عدد من أهالي نابلس بإشعال النار على أسطح المنازل تعبيراً عن الفرح وقامت السلطات باعتقالهم لمدة أسبوعين، كما بدأت في اليوم الثاني مظاهرات واسعة استمرت لثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث طلبت القيادة البعثية من الأعضاء التجمع بعدد محدود في عدد من البيوت انتظاراً لتوزيع السلاح، إلّا ان الأوامر صدرت بإنهاء التجمع لأن بعض الضباط قد تراجعوا عن قرار الاشتراك في الانقلاب.

كانت السنة التي قضيتها في نابلس حافلة بالنشاط السياسي والثقافي، ولقد تعرفت على عدنان كامل السالم الذي كان طالباً في الجامعة السورية، ولكنه كان تحت الإقامة الجبرية وكان مثقفاً ومتحدثا ألمعياً.

قدمنا فحص التوجيهي في القدس، و أود ان أشير الى حادثة للعبرة، ففي فحص الفيزياء كنت أهم بتسليم ورقتي بعد ان أجبت على جميع الأسئلة فوقعت عيني على شكل قد رسمه الطالب الجالس قبالتي في الطرف المقابل من الممر، وللوهلة الأولى قلت لنفسي انه مخطئ ولكنني أدركت بسرعة انني أنا المخطئ وهو على صواب، بدأ ترددي هل أسلم ورقتي و أنا أعلم ان جوابي خطأ أم اصحح الجواب وأسجل على نفسي انني قد ارتكبت الغش في الامتحان. لم يطل ترددي وقمت وسلمت الورقة و أنا على يقين ان جوابي خطأ. في المقابل وبعد ان كبر أولادي كنت أسمعهم يتحدثون عن الغش والنقل وكأنه نوع من الشطارة رغم تقريعي لهم، وإدراكا انهم يعيشون في زمان غير زماننا وقيم غير قيمنا وهذا ما أوصلنا الى ما نحن فيه فأصبحت السرقة والغش والرشوة كلها هي القاعدة في هذا الزمن الردئ.

 

وفاة الأب.. و بين القاهرة و الكويت و النشاط في البعث

ذهبت الى القاهرة ودخلت كلية الآداب، وكان النشاط السياسي من خلال الحزب ورابطة الطلاب الفلسطينيين ثم اتحاد الطلاب العرب، وكان حزب البعث يهيمن على الرابطة وعلى الاتحاد، وفي السنة الثانية أصبحت عضوا في أول مجلس إدارة وأول لجنة تنفيذية للاتحاد العام لطلاب فلسطين، وكان رئيس الاتحاد هو زهير الخطيب، وكان لطف غنطوس أميناً للسر وكنت انا أميناً للصندوق.  

توفي والدي في ٢٨ شباط ١٩٥٩، وبما أنني الولد الأكبر فقد أصبحت مسؤولاً، وقمت بعد نهاية العام الدراسي بالسفر الى الكويت حيث عملت رئيساً لشعبة الإحصاء في ديوان الموظفين بمساعدة الصديق عدنان كامل السالم الذي كان قد سبقني الى الكويت، وأصبحت أذهب مرتين في العام الى مصر لتقديم الفحص. وبعد ستة شهور من وصولي للكويت انتخبت عضواً في قيادة الحزب، واستمر انتخابي لمرات متتالية وكان معي في إحدى المرات ناجي علوش ثم بعد ذلك فاروق القدومي قبل ان يتحول الى فتح ويصبح رئيساً للدائرة السياسية. كان من بين أعضاء الحزب الكويتيين (وسأذكر المتوفين فقط) كل من حمد يوسف العيسى وهو خريج حقوق من القاهرة ورئيس ديوان الموظفين وابن مفتي الكويت، وكذلك فيصل عبر الحميد الصانع الذي كان صديقاً قريباً جداً من الرئيس صدام حسين عندما كانا في القاهرة، ولقد طلب منه صدام أن يصبح رئيساً لوزراء الكويت بعد احتلالها ولكنه رفض، ومنذ ذلك التاريخ لم يعرف عنه شئ وغالباً ما يكون قد مات في السجن.

أما القصة الأهم فهي انه في أواخر صيف العام ١٩٦٣ وبعد  الثورة العراقية في ٨ شباط ١٩٦٣ اتصل بي صديق محامي، وعندما تقابلنا أبلغني أن رئيس مجلس الأمة عبد اللطيف الثنيان الغانم يريد ان يقابلني لسبب لا يعرفه، و اتفقنا بالتشاور معه على موعد في مكتب المحامي حيث التقينا وتركنا المحامي وحدنا وبعد ذلك بادرني بالقول انه يريد الانتساب للحزب، فكان هذا الطلب مفاجأة غير متوقعة لي إذ ان الحزب كان يتكون من شباب من خريجي الجامعات أو المدارس الثانوية والذين ينتمون عادة الى الطبقة الوسطى والفقيرة وهم في الغالب شباب دون الثلاثين، ولكن طالب الانتساب في هذه الحالة هو من أهم الشخصيات الاقتصادية  والسياسية والعائلية وكان كما توقعت في حوالي الستين. لم أكن في وضع يمكنني من القبول او الرفض في هذه الحالة الاستثنائية، فوجدت مخرجاً في ان أقول له ان مثل هذا الطلب لا بد ان يعرض على قيادة الحزب في سورية، وفي الوقت نفسه طلبت منه ان نستمر في لقاءات كلما كان ذلك ممكناً، وكان هدفي هو ان أعرف المزيد عن دوافعه، ولقد تكررت اللقاءات وإذ أصبحت العلاقات أكثر حميمية قلت له: أودّ ان أصارحك انني أودّ ان أعرف دوافعك الحقيقية لهذا الطلب غير المفهوم بالنسبة لي، فصمت لدقائق ثم قال بعد تنهيدة ، ان الكويت قد تعرضت في اواًئل الثلاثينيات الى أزمة اقتصادية تقترب من المجاعة، ولقد اجتمع عدد كبير من وجهاء الكويت وتداولوا في كيفية الخروج من المجاعة و أظن ان ذلك قد حدث في العام ١٩٣٣ وأنهم اتفقوا على ان الحل الوحيد هو طلب الوحدة مع العراق الذي كان الملك غازي قد أصبح ملكه بعد وفاة الملك فيصل. وقام وفد من المجتمعين برئاسة عبد الله السالم الصباح بزيارة أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح (والد الامير الحالي) والذي وعدهم بإجراء الاتصالات اللازمة لتحقيق الوحدة. وبعد عدد من المراجعات للأمير من قبل أعضاء الوفد شعروا ان الامير يماطل وانه لا يريد الوحدة، فقاموا بثورة شارك فيها معظم شخصيات الكويت ولكنها فشلت وسقط عدد من القادة قتلى كان من بينهم شقيق عبد العزيز الصقر ووالد جاسم القطامي و آخرون، وكان يطلق على هذه المجموعة اسم "المجلسيون" وانه هو الوحيد الباقي على قيد الحياة من المجلسيين، وشعرت انه يريد ان يثأر لما حلّ لرفاقه من خلال الدخول بالحزب و إقامة علاقات مع الحزب في العراق. ومن سوء الحظ ان حكم الحزب قد انتهى بالانقلاب عليه في ١٦ تشرين الثاني ١٩٦٣ ولم يعد هنالك جدوى من المتابعة.  

 

عندما أدرنا ظهورنا لجمال عبد الناصر في حي العجوزة بالقاهرة

كنت أذهب من الكويت الى مصر مرتين سنوياً لتقديم الفحص، وفي أثناء زيارتي في العام ١٩٦٢ تقرر أن يحضر الرئيس عبد الناصر مجلس الآباء في مدرسة بناته هدى ومنى في حي العجوزة حيث كنت أسكن مع زميلين آخرين في البناية المقابلة للمدرسة تماماً، وكان عندنا ثلاثة أصدقاء آخرين وكنا جميعاً بعثيين، فاتفقنا على ان (نكتف) أيدينا ونظهرها على (درابزين) الشرفة، وعند وصول الرئيس وحرمه اتخذنا هذه الوضعية، بينما كانت البنايات كلها مكتظة بالمصفقين والذين يهتفون في الشارع وفي الشرفات، ولقد كنّا طبعاً الاستثناء الوحيد، مما لفت نظر الرئيس ونظر عناصر الأمن الذين تكتظ بهم المنطقة، ولم يحدث اي شيء وغادرت القاهرة بعد نهاية الامتحانات الى الكويت طبعاً. وعند عودتي في السنة التالية وكنت في السنة الرابعة جرت إعادتي على الطائرة نفسها الى الكويت، وفشلت كل محاولاتي لمعرفة السبب لأن زملائي في السكن لم يطردوا ولم يكن قد أبعد أي بعثي بعد، بل كان أول ابعاد للبعثيين من مصر بعدي بحوالي ستة أشهر، وذلك طبعاً بسبب الخلاف بين الحزب وبين الرئيس عبد الناصر، ولو عاد بي الزمان الى الوراء لما فعلتها بعد ان رأينا الأنواع الاخرى من الأنظمة العربية.

قدمت طلبا الى جامعة دمشق ولكنهم لم يردوا عليّ لا سلباً ولا ايجاباً، وبعد ان تسلم الحزب الحكم تابع أصدقائي طلب النقل وتم قبولي في السنة الرابعة مع تحميلي حوالي نصف مقررات السنين السابقة.

ولقد قسمّت المواد على الدورات وتخرجت في العام نفسه ١٩٦٣. وأما ما أثار قلقي وانزعاجي أنني قد اطلعت على مستوى الطلبة من خلال الفحوص الشفوية بل والتحريرية لدى الأستاذ أنطوان مقدسي وَالدكتور عَبَد الكريم اليافي، اذ ان كل من رأيت لم يكن لهم علاقة بدراسة الفلسفة وان معدلات البكالوريا المتدنية هي التي ساقتهم الى غير مكانهم. ومن المؤسف ان هذه هي الحالة العامة في بلادنا حيث يذهب المتفوقون لدراسة الطب والصيدلة و أنواع الهندسة وينحدر المستوى في الكليات النظرية التي تتطلب في الحقيقة مستويات عالية، وان إهمالها هو أحد أهم  أسباب الركود والتخلف في بلادنا.

 

طردي من الكويت بسبب خلفيتي البعثيّة

في ٢٢نيسان ١٩٦٦ كنت أتناول قهوة الصباح مع الصديق مرضي القطامين في ديوان الموظفين في الكويت، ولقد خطر لي فجأة الرابط بين اعتقال كل من علي نعمه اللبناني ومازن الدجاني من يافا مع ان الأول كان بعثياً بينما كان الثاني ناصرياً متطرفاً، ولقد كان مازن قبل سنوات مسؤولاً عن الحلقة الحزبية التي فيها علي نعمه وكنت أنا أمين الفرقة وعضو قيادة الشعبة، وبهذه الصفة زرت الحلقة مرتين وخطر لي ان هذا هو الرابط بين اعتقال علي ومازن وان ذلك سيوصل إلي. أخبرت مرضي القطامين بما أتوقع فقال: انها أضغاث أحلام. عدت الى مكتبي وقبل ان أجلس كان اثنان من المخابرات يطلبان مني مرافقتهما، وكان ذلك وبقيت في سجن المخابرات الانفرادي  ١٧ يوماً تقرر بعدها إبعادي مع كل من علي نعمه ومازن كل الى البلد التي يحمل جواز سفرها، فأبعدت أنا ومازن الى عمان، وقمت بحلاقة ذقني وغسيل شعري في تواليت الطائرة حتى لا أثير انتباه أمن المطار في عمان بعد أن علمت ان قرار الإبعاد الى الاْردن قد اتخذ في آخر لحظة وبالتالي قد يكون خبر الإبعاد لم يصل الى المخابرات الاردنية، فقمت بمغادرة المطار الى تكسيات دمشق وغادرت فوراً الى دمشق، وحصل ما توقعت ففي اليوم الثالث لإبعادي جاء عناصر المخابرات الى بيتنا في أربد لاعتقالي ولم يجدوني طبعاً.

حضرت الى سورية في ١١ أيار ١٩٦٦ وما زلت أعيش فيها.

أدناه جزء من قصيدة كتبتها حين تركت حزب التحرير الاسلامي والذي ذكرته في هذه المحطّات بعيد ذكري لعبارة: "حصلت في تفكيري" في سياق ما كتبته أعلاه، ولقد عبّرت  عن هذا التغيّر بالأبيات التالية و هي بعنوان: "ربي"

ان اتاك الجاني وانت خلقته 

قد زرعت الشقاء فيه ليشقى

وزرعت الكمال فيه ليعلو

فإذا كنت قد أردت كمالا

فلماذا الشقاء ربي خلقته

رب مالي قويت حتى ضعفت

وسالت الكثير حتى مللت 

رب هلا خلقت انت سؤالي 

أم انا قلته بمحض اختياري

رب هل نفحة تبقيني ظنوني

وتريح الفؤاد من تعذيبي

فإذا كنت قد امرت بشئ 

رب أني ضرعت ان تهديني

وطريق الأديان هل تنجيني

ام بعقلي هذا الصغير أعيش

فهو اي ضمنتها تكويني 

هل بعقلي ان ائتمرت خلاصي

وهل العقل قد يضل سبيلي

ان يكن ضَل هل أعيش بغيره

فأكون المجنون كيف يحاسب

فلعقلي رأي يخالف ديني

وانا مؤمن بما قد ظننته 

انه الحق لا اداهن فيه 

صارخا لا أهاب ما اجتنيه 

 

زيارة فلسطين عام 1994


عام ١٩٩٤ كنت في الثامنة والخمسين من العمر، و انتابني شعور خانق بالحاجة الى رؤية فلسطين قبل ان أموت، فطلبت من أبناء شقيقتي طلب تصريح زيارة وسافرت في ٦ حزيران ١٩٩٤ وكانت تجربة قاسية مررت فيها بلحظات صعبة كان أولها عند عبور جسر الملك حسين، إذ تجد نفسك تمر من تحت علم إسرائيلي كبير والثانية عندما دخلت بيتنا في جنين، الثالثة عندما زرت قبة الصخرة والتي تعبّر عن الدولة العربية في أوجّ مجدها من خلال تفتيش عناصر الجيش الاسرائيلي في باب المغاربة، والرابعة عندما زرت عكا والتي هي المدينة المحافظة على نمطها العربي والتي دفع العرب في الحروب الصليبية أفدح الخسائر فيها والتي صمدت امام نابليون، لترى أسواقها مغلقة ولا يسمح للعربي فيها بترميم بيته، فكانت هذه القصيدة :

لا سيف في وطني يذود عن الحمى              كل السيوف بقبضة الجلاد

وطن تمرغ بالهوان  وان  صحا                    فالملهمون له  لبالمرصاد

في كل قطر  ملهم   وعصابة                       نهبت وتنهب ثروتي وتلادي

لا تهدل الورقاء في  اوطاننا                        الا باْذن من صَفِيق سادي

 الملهمون تسابقوا نحو الخنا                        مثل الذباب الى فتات سماد

باعوا العروبة والكرامة والحمى                    بخسًا وأعلوا سدة الاوغاد

تيجان امتنا وأحذية العدا                           صنعت سلام العبد والأسياد

هل تصمدي يا شام دون عروبتي                 وتظل  دار الشام  دار جهاد

ان هان ربع الشام هانت امتي                    وتلطخت. راياتنا  بسواد

عودي عروبتنا فجرحي  ها هنا                    في القدس قد اضحى بدون ضماد

عودي فمازن اغمدت اسيافها                      وبنو قريظة  يمتطون جيادي

عودي  فلا عرب بلا مصر ولا                       عرب بلا شام ٍ ولا بغداد

ما قصرت باعي ولا اندحر الهوى                 ستظل يا وطني هواي وزادي

قد عشت احلم ان اعود مدججا                   والثأر يحدو قبضتي وجوادي

لكنه عمر تسارع خطوه.                            فأتيت اسبق خطوه  المتمادي

فحملت شيبي والسنين  ولوعتي                  ومدامعي ومناقبي وعنادي

وأتيت يا وطني إليك مطأطٍئا                      والكبر جرح نازف  بفؤادي

يحدوني الشوق الكبير لكي ارى                 مهد  الصبا. ومرابع. الاجداد

والفتية الباقين من جيلي  الذي                   وهب. الحياة  لعودة  الامجاد

فقضى الزمان بأن تطيش سهامنا              وبأن نظل. رواسف  الأصفاد

وعبرت جسر العار مهدود القوى                 أنعي  بلادي  امتي  ميلادي

طوّبت عبدا في بلادي  أبقا                       لا الدار داري لا المهاد مهادي

لا جدً لي يثوي عزيزا في الثرى               هتكوا عظام  الجد والأحفاد

ومشيت في ارضي غريبا تائها                مثل الطريدة في حمى الصياد

ودخلت داري  لا كداخل داره                     بل كالغريب أتى  بلا  ميعاد

قد عدت يا جينين يا مهد  الصبا                 هل تذكرين ملامح الأولاد

قد عدت اسأل عن زمان ضائع                   ضيعته  في زحمة  الأضداد

قد ظل عزام ورهط طفولتي                        في كل خطو عدتي وعتادي

هذا زمان  العار هذا حتفنا                       نمشي اليه بخطوة المنقاد

ووقفت في الأقصى المدنس سائلا              أين الوليد وعصبة الاساد

أين الذين تطهرت بدمائهم                        ارضي لقد ذهبوا لغير معاد

واتى زمان الشوم كي يزري بِنَا                 عسف اليهود ونار الاستبداد

هذا المسيح وقد أعادوا  صلبه                    لا زال مرفوعا على الأعواد

تبكيه كل الأمهات  لأنه                            رمز  الفداء ورمز الاستشهاد

يا قدس حرمت الحياة ولهوها                     حتى تعودي قبلة العباد 

عكا عروس البحر تكتم حزنها                    كبرا  وتحفظ. عهدتي وودادي

في كل زاوية تضج عروبة                          وارى على اسوارها اجدادي

قد سرت اسأل ربعها ودروبها                من قد رواها في الزمان الغادي

هل يمسحوا تاريخنا بحذائهم                     سيظل تاريخي صدىً ومنادي

مهما تجبر عابر في ارضنا                      بالقتل او بالسجن والأبعاد

سيغور كم مر الغزاة وأثخنوا                     ويظل شعبي ناطقا بالضاد

سقط القناع فما تبقى برقع                       يخفي خيانة حاكم قواد

يا فتية الوطن العظيم تصبروا                   لن يستريح على ثراكم عادي

سيغور  كل الخانعين  وتشهدي                   فجر الحياة  وروعة الميلاد