كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: انتخابات شباط 1954 النزيهة.. صعود البعث والشيوعي.. نجاحي في مسابقة دار المعلمين العليا دون واسطة في صيف 1954.. محطّات في الذاكرة- ح4

 هذه الحلقة الرابعة من محطّات في الذاكرة, للدكتور و المؤرّخ عبد الله حنا:

في شباط 1954 تمردت قطعات الجيش في حلب على حكم الشيشكلي، الذي لمس صعوبة السيطرة على البلاد, فغادر دمشق دون مقاومة إلى لبنان، تاركا الأمر في يد مأمون الكزبري رئيس المجلس النيابي. وسرعان ما اجتاحت المظاهرات الطلابية مبنى البرلمان وأجبرت الكزبري على الإستقالة، ودخلت سورية في عهد من الديموقراطية استمر حتى 1958.
أشرفت حكومة سعيد الغزي الحيادية على انتخابات المجلس النيابي في ايلول 1954، وخاض الحزب الشيوعي الانتخابات بقائمة تحت اسم "مرشحو الإتحاد الوطني" متجنبا ذكر الشيوعية حتى يكسب أكبر عدد من أصوات الناخبين، الذين يخافون الشيوعية أو يكرهونها لأسباب كثيرة. خاض خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي الانتخابات باسم مرشح الاتحاد الوطني. وشاركت بنشاط في اللجان الشبابية التي كانت توزع البيانات، ولمست بوضوع ترحيب الناس العاديين بترشيح بكداش. ولم يكن مجال نشاطي يقتصر على توزيع البيان الانتخابي، بل تعداه إلى الاتصال بالناس والتحدث إليهم بمضمون البيان. كنت غالبا المتحدث من لجنة مؤلفة من اثنين إلى ثلاثة أفراد. ولمست من خلال اللقاءات الأولى أن خير وسيلة للإتصال بالناس التعريف عن نفسنا بالجملة التالية: "نحن من جماعة خالد بكداش". وكان هذا التعريف يجد صدىَ حسنا لدى معظم من نلتقي بهم. وكان خالد بكداش بالنسبة لهم العدو اللدود للاستعمار والبرلمان بحاجة إلى أمثاله.
بعد إختفاء دام سبع سنوات تجنبا من الاعتقال ظهر خالد بكداش للعلن في المهرجان الإنتخابي الكبير في حي الأكراد, وكنت في عداد صفين يقفان أمام (تحت) المنصة المرتفعة أتلهف لرؤية خالد بكداش. في ذلك الحين كنت أظن أن خالد بكداش يقود الحزب من دمشق مختبئا في بيوت سرية. وكان الخيال يسبح بي الخيال وأنا اتخيل خالد بكداش كالمارد المتنقل من مكان إلى آخر بعيدا عن أعين رجال الأمن. (واكتشفت فيما بعد أنه أمضى تلك المدة في لبنان، ومن هناك كان يقود الحزب)
صوت عريف الحفلة عبد الكريم محلمي وكلماته نقلتني إلى أجواء سحرية و أنا أطير من الفرح منتظرا لحظة إطلالة "الرفيق خالد". أثناء إلقاء عريف الحفلة كلمته كان يجلس على المنصة مرشحا الإتحاد الوطني المحامي نصوح الغفري وجورج عويشق، وإلى جانبهما الشاعر شوقي بغدادي. وفي الوسط كرس شاغر ينتظر سيد الحفل. وعندما أعلن عريف المهرجان دخول خالد بكداش المنصة التهبت الأكف بالتصفيق المتواصل مدة طويلة.
وبعد أن تحدث الغفري وعويشق، ألقى الشاعر شوقي بغدادي قصيدة حفظتها فيما بعد عن ظهر قلب، أنقل منها البيتين التاليين:
خالدنا هل كنت في غيبة
ما أحمق الباغي وما جربا
خذهم تأملهم أكانوا هنا
جميعهم من قبل أن تُحجب
أثار خطاب خالد بكداش المجلجل الجماهير الغفيرة وهي تصفق له بصورة لا يصدقها العقل. كان بكداش من فرسان المنابر، وأذكر أن استاذ التاريخ في الصف العاشر قال لنا: خطباء سورية ثلاثة: عبد الرحمن الشهبندر ومصطفى السباعي وخالد بكداش. وعشت ساعة من الزمن منتشيا مستمعا لخطاب بكداش، الذي افتتحه بالجملة التالية: "أيها... لقد تقابلنا أخر مرة قبل سبع سنوات. وبعضهم يظنّ أن هذه السنوات السبع سنوات عجاف، أما أنا فأقول إنها سنوات سِمان...". ونجح بكداش في الانتخابات بأصوات أتت بعد خالد العظم. ودخلت سورية في عهد برلمانها 1954 – 1958 مرحلة من أزهى عصورها.
*

في صيف 1954، وأنا موظف في البريد والبرق والهاتف، تقدمت إلى مسابقة للقبول في دار المعلمين العليا، التي تؤهل الناجحين، بعد الدراسة في الجامعة السورية لمدة خمس سنوات، للتدريس في المدارس الثانوية حسب الإختصاص الذي درسه الطالب في كليتي الآداب والعلوم. كان على المتقدم للمسابقة أن يملئ استمارة تشتمل على مجموعة أسئلة ومنها تسمية ثلاثة كتب قرأها المتقدم للمسابقة. واخترت: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، كتاب عن القضايا الإقتصادية، والكتاب الثالث يدور حول تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية. اللجنة المؤلفة من ثلاثة أساتذة وجّهت لي مجموعة من الأسئلة حول كتاب المادية. ولم تقتصر إجابتي على ما ورد في الكتاب، بل توسعت في أمثلة حيّة وبسيطة عن الديلكتيك تعلمتها من ابن عمي خليل حنا خريج دار المعلمين العليا ومدرس الرياضيات. ولاحظت على وجوه أعضاء اللجنة الإرتياح من أجوبتي، واستبشرت خيرا بالنجاح. وكان أعضاء اللجنة وهم أساتذة في كلية الآداب والتربية خريجي الجامعات الفرنسية أيام عزها في التأهيل الجيد، وكان ديدنهم مقدرة الممتحَن العلمية. ولهذا نجحت دون واسطة أحد. ولم تكن المباحث السلطانية موجودة في ذلك الزمن وليس لها دور في القبول أو الرفض.
سنوات الجامعة الخمس كانت من أسعد أيام حياتي: راتب شهري يفوق راتب الموظف حامل البكالوريا بعشرين ليرة لها قيمة شرائية وازنة في ذلك الزمن.. اكتساب معارف جديدة على يد اساتذة أكفاء.. إطمئنان وعدم الخوف من المستقبل طالما أن العمل في التدريس مضمون مع راتب محترم.. نشاط سياسي وفكري دون حسيب أو رقيب.. الأمل بالمستقبل الزاهر لسورية المستقلة السائرة في بناء صناعتها الوطنية وغدها المشرق كما كنّا نتخيل.. وحدة عربية تجمع شمل العرب على طريق التقدم الحضاري.

 

روابط الأجزاء السابقة

د. عبد الله حنا: الاشتراكات الحزبية.. وفد طلابي جامعي في زيارة الشيخ محمد الاشمر بعد عودته من موسكو.. وفاة ستالين- محطّات في الذاكرة- ح3

http://www.fenks.co/index.php/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/35182-3

رابط الجزء الأوّل:

http://www.fenks.co/index.php/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/34991-1-2

رابط الجزء الثاني:

http://www.fenks.co/index.php/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/35136-2020-04-07-07-03-16