كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

جمانة طه: محطّات في الذاكرة.. جنيف: مؤتمر ومواقف- 1 من 2

يتابع فينكس نشر سلسلة "محطّات في الذاكرة", و في هذه المحطة يقف مع الجزء الأوّل من ذاكرة الأديبة الأستاذة جمانة طه:

أن تسنح لك الظروف بالسفر إلى بلدان مختلفة في الشرق أو في الغرب، وتتعرف إلى معالمها وحضارتها، فهذا يعني أنك شخص محظوظ لأن الله إذا أحب عبده فرجاه ملكه. ويعني أيضًا أنك تكون قد جنيت بعض الفوائد السبع، التي عدّها جدنا أبو تمام. إنما يجب ألا يغيب عن البال، أن لكل شيء إذا ما تمّ نقصان. فكما أن هنالك مسرات، هنالك منغصات. في العام 2003 رشحني صاحب الغبطة أغناطيوس الرابع هزيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للكنيسة الأرثوذكسية، لأشارك عن الكنيسة في المؤتمر العالمي للحوار الإسلامي-المسيحي المنعقد في جنيف بدعوة من المجلس العالمي للكنائس. وهذه المبادرة غير المسبوقة من أي رجل دين، تعبر عن إيمان غبطته بالمشترك التاريخي والإنساني والثقافي بين الديانتين المسيحية والإسلامية وأتباعهما، وتؤكد اهتمامه بالحوار وسعيه المخلص لتجديد التواصل وتمتينه تحقيقًا لاستمرارية الإنسان العربي وتدعيمًا لأمنه وسلامته.
 
في الطائرة
من دمشق وعلى متن طائرة الخطوط الجوية البريطانية، توجهت إلى جنيف عن طريق حلب ولندن للمشاركة في المؤتمر. بعد الإقلاع من مطار حلب، وصلنا صوت قائد الطائرة يقول بأن هناك خللاً غير خطير وطلب من الجميع الهدوء وعدم القلق. وأشار إلى أنه يحاول إصلاح الخلل عن طريق الاتصال الهاتفي بالقاعدة في لندن، وأنه سيضطر للدوران في سماء حلب ريثما يتم ذلك. بعد محاولة غير مجدية استمرت مدة تتجاوز نصف الساعة، أعلن الطيار أن المهندسين في لندن نصحوه بالتوجه إلى بيروت، والهبوط في مطارها لإصلاح الخلل وتعبئة خزان الوقود.
في مطار بيروت تم كل شيء كما يجب، وانطلقت الطائرة باتجاه لندن. وبانطلاقها نهض القلق في قلوب العديد من الركاب، عن مصير رحلاتهم الأخرى. وصولنا المتأخر إلى لندن، ضيع مني الرحلة إلى جنيف.
فتراكضت بأقصى سرعتي في مطار لا أول له ولا آخر، لأنتظم في طابور طويل من البشر أمام مكتب شركة الطيران لترتيب موعد جديد للسفر إلى جنيف. يأتي دوري مع موظف شاب لطيف ومتفهم، حجز لي مقعدًا في الطائرة المغادرة بعد ساعتين، واتصل بمن كان ينتظرني هناك وأعلمهم بالتوقيت الجديد. وفي مطار جنيف، أعاد لي صوت الدكتورة مارينا رزق توازني وأحضر معه الوطن بمحبته ودفئه.
 
مجريّات المؤتمر
رافق المطر أيام المؤتمر الذي يشارك فيه أكثر من أربعين شخصية دينية وفكرية مسيحية ومسلمة من بلدان عربية وآسيوية وأوروبية وأميركية وأفريقية، جاءوا إلى جنيف ليقدموا خبراتهم وآراءهم في مسألة الحوار، وفي مشكلات تشغل بال البشرية وتشوه إنسانية الإنسان. ترأس المؤتمر البطريرك آرام الأول للأرمن الكاثوليك، وتناوب على مهمة مقرر الجلسات الدكتور محمد سليم العوا من مصر والأستاذ محمد السماك من لبنان.
تضمن اليومين الأول والثاني، مداخلات عن التحديات التي تواجه المسلمين والمسيحيين في الداخل ومن الخارج، والوضع الحالي للعلاقة بين المسيحيين والمسلمين. وركز المتداخلون على الواقع المحلي، وعلى المواقف العالمية التي تشوش على العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وتؤثر على استقرارها وديمومتها.
وقد جذبني بعض المتحدثين من المسيحيين، إلى فضائهم الصافي الذي كان للدين الإسلامي حضور فيه. فكلمات رجل الدين الشاب من (كادونا) في نيجيريا، ما تزال تتردد في سمعي: "عندما كنا صغارًا، نصحونا بألّا نقترب من دكان الرجل المسلم ولا نشتري منه لأنه يخطف الأطفال. وعندما كبرنا، عرفنا بأنها تهمة باطلة ولا أساس لها من الصحة".
في اليوم الثالث، تشكلت ثلاث مجموعات عمل، بحث فيها المؤتمرون عددًا من المحاور تركزت حول إيجاد الوسائل المناسبة لتحقيق العيش المشترك في الوطن الواحد، وإفساح في المجال للإصغاء المتبادل ومعرفة الآخر. ومن ثم مواصلة السعي للقضاء على التفرقة العنصرية المدمرة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإلغاء العنف بأشكاله كافة لدرء الانفجار عن المجتمع البشري. وأيضاً العمل على تقدم المجتمع والارتقاء بمستواه العلمي والمعرفي، وعلى رفع الظلم بكل أنواعه وأشكاله عن الإنسان، وتحقيق العدالة للشعوب جميعها.
 
كانت أولى غايات المؤتمر هي معالجة الضعف الذي يعتري العلاقة الإسلامية المسيحية ولاسيما في المجتمعات الغربية والأميركية، وما يمكن فعله لوضع هذه العلاقة في مسارها السليم لتحقيق التعايش وتصحيح النظرة إلى العرب والمسلمين. ويبقى التحدي الأكبر المطروح، وهو إلى أي مدى يستطيع الذين يشاركون في المؤتمر أن يطبقوا عمليًا الرؤية الإنسانية التي توصلوا إليها.
في نهاية المؤتمر برز سؤال مقلق حائم على الشفاه: بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، هل يمكن أن يجد الأوروبي والأميركي للعربي المسلم والمسيحي، فسحة له في قلبه وفكره؟.
فيتوافق الجميع، على أن الديانات وما تتضمنه تعاليمها من محبة ورحمة وتسامح هي المقصد والدليل. لأنها في رأيهم السبيل الوحيد، لكبح جماح الغضب والعنف والتعصب وتقبل الآخر.
 
 ما حصل!
 في اليوم الذي سبق عودتي إلى دمشق، مشينا (مارينا رزق وحنان إبراهيم وأنا) في الشارع الموازي لبحيرة ليمان، والتقطنا بعض الصور لنافورتها الشهيرة. ولا أدري لماذا نقلتني مياه النافورة إلى الزمن الذي وصل فيه العرب المسلمون إلى هذه البحيرة، وإلى بحيرة كونستانز في الشمال السويسري ما جعل رهبان أديرة تلك المنطقة يلجؤون إلى إمبراطور ألمانيا يطلبون منه تعويضهم عن كل ما خسروه أمام العرب. ويقال إنه حتى اليوم، توجد كتابة عربية على كنيسة بطرس في فاليه السويسرية.
بعد أن تعبت أعيننا من جمال الماء الممتد أمامها صفحة بلورية، ذهبنا إلى السوق لنشتري ساعات وحاجيات أخرى. لكن ما حصل معي في مخزن (باتا) للأحذية، كان قريبًا من الخيال. ففي ثوانٍ خطفت حقيبتي (هاند باك)، بكل محتوياتها من مال وهدايا وجوال وكاميرا وأوراق. لكن وجود جواز السفر وبطاقة الطائرة في الفندق، هوّن علي الكارثة. في تلك اللحظات أخذت مشاعري طعم الغضب، ولون الحزن وشكل البكاء. ما أصعب أن يفقد المرء في غربته، كل ما يملك من مال
 فإذا كان الفقر في الوطن غربة، فهو في الغربة موت وهوان. هكذا وبدلاً من أن نمضي وقتنا في مرح وفرح، أمضيناه في محطة البوليس نزولًا عند إلحاح الصديقتين، بالرغم من قناعتي بأن الشكوى لن تفيد وتسجيل المحضر سيظل حبرًا على ورق، فما سرق لن يعود. وقد أكد رجل البوليس ظني، حين قال: لا تتوقعي أن تعود إليك المسروقات.!
من يتخيل أن تحصل مثل هذه المنغصات في جنيف، المدينة التي كانت في الماضي قبلة المصلحين والفلاسفة، أمثال جون كالفن وفولتير وروسو وسواهم.؟ من يتخيل أن يكون في جنيف لصوص، وهي الخزانة التي تضم أموال الأثرياء والساسة؟. قلت لنفسي ساخرة: على ما يبدو كانت الخزانة السويسرية، بحاجة إلى الألف دولار التي في حوزتي.

مطار وانتظار!
في الصباح انطلقت إلى مطار جنيف لأطير إلى دمشق عن طريق لندن - بيروت. في المطار حاول الأستاذ محمد السماك تحويل رحلتي إلى بيروت على خطوط شركة الشرق الأوسط، لكي لا أنتظر ثلاث ساعات
في المطار وحدي. محاولاته أخفقت، فالبطاقة المعطاة لي مغلقة ولا يمكن تحويلها أو تبديلها. سبق لي أن زرت مطار لندن عدة مرات منذ سنوات طويلة، فأذهلني التغيير الكبير الذي طرأ عليه، مساحة وتجددًا. الأسواق الحرة امتدت واتسعت حتى لا يبين لها أول من آخر، والجمال في التنسيق والمخازن أكبر من التوصيف.
هكذا هي حال الأمكنة في البلاد المتقدمة لا تشيخ كما يشيخ الإنسان، بل تزداد مع الأيام حسنًا وجمالًا وبهاء. في قاعة الترانزيت رميت جسدي التعب على أحد المقاعد، مع أني مللت الجلوس على المقاعد. فمن مقعد في طائرة، إلى مقعد في سيارة، إلى مقعد في صالة مطار. تجلس قبالتي سيدة هندية تحضن ابنها، وتضع قدامها أكواماً من الأمتعة. أحاول أن أنسج من حالتها حكاية تنسيني وطأة الوقت، فأُخفق.
أنكش في ذاكرتي عن أحداث مسلية أبدد بها الساعات الثلاث التي تفصلني عن ركوب الطائرة، فتصدني ذاكرتي المغلقة بتفاصيل غير سارة. ما أوقع على ذهني عطالة فكرية، زادت في ضجري وعمقت وحدتي.
أنهض للتجول في المكان: مقاعد مزروعة في الممرات مترعة بالأجساد وبالمتاع، مخازن على الجانبين مذهلة ببضائعها وأسعارها، ومقاه لا عدَّ لها ولا حصر لأسمائها. أنهكني التعب والضجر والإحساس بالغربة، فلاحت لي بارقة أمل تجلت في وجه سيدة ملامحها عربية. كانت تطالع توقيت الطائرات على جهاز التلفزيون، فقلت في نفسي: ((إجت والله جابها)). فبادرتها باللغة العربية: هل أنت ذاهبة إلى بيروت؟. فنظرت إلي بوداعة، وأجابت بالإنكليزية: ما اللغة التي سألتني بها؟. عندها أدركت، أنها ليست كما خمنت. تحادثنا، فقالت إنها من الأرجنتين، وذاهبة إلى باريس للمشاركة في مؤتمر دولي حول البيئة. وأضافت: وصلت لندن منذ ساعة، قادمة من لوس أنجلس حيث أقيم. لا أحب أميركا، لكن ظروف بلادي الاقتصادية فرضت علي العيش فيها.
 
العودة
في الطائرة المتجهة إلى بيروت، يجلس بجواري شاب يافع، يوحي شكله الخارجي بأنه إنكليزي. وبدافع الفضول والرغبة بتمضية الوقت، سألته عن سبب زيارته لبيروت وفيما إذا كانت هي الأولى. فقال: أحب لبنان جدًا وأزوره مرتين كل عام. وعندما لحظ الدهشة على وجهي، سارع (زيد) وهذا اسمه إلى القول: لا تستغربي فأنا عربي، أبي لبناني وأمي انكليزية . وقد حرص أبي، على أن نتواصل مع أقاربنا في لبنان. بيت جدي يسكنون في منطقة بعبدا، وأخي(جاد) يدرس الهندسة في الجامعة الأمريكية في بيروت. من فرط إعجابي بهذا الأب الذي حافظ على أصالته وهويته ورسخها في فروعه ولم يذب في بوتقة التغريب، طلبت من ابنه أن ينقل إليه تحياتي وتقديري. مفارقة مناخية لطيفة تستقبلنا في لبنان، قمر فضي يزين السماء ومطر ألبس أرض المطار ثوبًا مائيًا براقًا. أعجبني مطار بيروت، ووجدته أكبر مما تصورت ومضيئًا أكثر مما توقعت.
في مطار دمشق، امتلأت رئتاي بشميم الوطن. حشد كبير من العرب تكوم أمام كوة واحدة لختم الجوازات، بسبب وصول ثلاث طائرات في وقت واحد. تساءل أحد الركاب عن موظفي الكوى الأخرى، فجاء الجواب: الكومبيوتر معطل. قدمت الجواز للموظف، وقلت له: لماذا لا يكون للسوريين كوة خاصة بهم؟ فنظر إليّ شزرًا، وردّ عليّ باستنكار: أتريدين أن نصير مثل بعض الدول العربية، ونفرق بين السوريين والمواطنين العرب؟. تناولت جوازي، وأنا أعاتب نفسي لتجاهلها ضرورة التمسك بالروابط القومية
 ملحوظة: بعد أيام قليلة من وصولي دمشق، جاءتني رسالة من البوليس السويسري يقولون فيها إنهم وجدوا الحقيبة قرب أحد الجسور القريبة من مدينة جنيف، فإمَّا أن أحضر لاستلامها أو أوكل أحدًا القيام بهذه المهمة. وفي الحالتين عليّ أن أدفع للبوليس أجرة تخزين الحقيبة. بعد التواصل معهم بواسطة البريد الالكتروني، عرفت أن الحقيبة فارغة من كل محتوياتها. ففضلت أن أتركها لهم، وأحتفظ لنفسي بأجرة التخزين.
 
من كتابها "غواية الذكريات"
 
رابط الجزء الثاني من المحطّات:

جمانة طه: محطّات في الذاكرة.. "جبلة: طفولة وذكريات"- 2 من2

http://www.fenks.co/index.php/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/37616-2-6