كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: من ذكريات ابن الخمس سنوات (السلق) و (السيل).. محطّات في الذاكرة.. ح1

يتابع فينكس نشر سلسلة "محطّات في الذاكرة", مع أعلام سوريين و عرب, و هذه الحلقة الأولى من هذه المحطة نقف فيها مع المؤرّخ و النهضوي السوري الدكتور عبد الله حنا.

في 24 – 11 – 1932 رأت عينا كاتب هذه الاسطر النور في ديرعطية من ابوين فلاحين. تسميتي باسم عبد الله يعود الفضل فيها إلى كبير العائلة عم والدي عوض حنا، الذي قال: "كلنا عبيد الله" سموه عبد الله. واسم عبد الله لا يقتصر على المسلمين كما يظنّ بعضهم، ففي بلدتنا ديرعطية، كما في غيرها، كان اسم عبد الله منتشرا بين مسيحييها. وعندما عدت الى دفتر النفوس لعام 1904 لاحظت ان معظم اسماء المسيحيين في ديرعطية هي اسماء مشتركة بين المسلمين والمسيحيين وقليلة هي الاسماء المسيحية الخالصة، اما الاسماء الغربية مثل ميشيل وجورج وجورجيت... الخ فلم يكن لها اثر في اسماء مسيحيي ديرعطية، قبل عشرينيات القرن العشرين.

لا تزال ذاكرتي تختزن من أيام الطفولة زمن "السلق". فقد كان الفلاحون بعد الانتهاء من جني محصول القمح في حزيران يشرعون في تحويل قسم من قمح السقي إلى برغل، وهو مادة الغذاء الرئيسة بعد الخبز. القمح يصوّل في الماء لتنقيته من الأحجار وينقل في أكياس أو أعدال (يسمون المفرد عدل) إلى مكان السلق. وهناك تنصب جعيلة (قدر نحاسي كبير مطلي من داخله بالقصدير) توضع كمية من القمح والماء في جوفها وتُوقد النار تحتها إلى ان "يستوي" القمح بعد تشَرُّبه للماء وانتفاخه. يُنقل القمح المسلوق إلى حوض واسع مبني من اللبن والطين كي يبرد، وبعدها تنقله النساء على رؤوسهنّ في مواعين إلى أسطح البيوت كي يجف ويتحول الى برغل. هذه العملية لا ازال أذكرها وعمري خمس سنوات، و أنا أنظر إلى النار تشتعل تحت الجعيلة، منتظرا استواء القمح، الذي كانا طعاما لذيذا، في وقت كانت الأطعمة محدودة.

ولكن الحدث الأهم من ذكريات الطفولة هو "ليلة السيل". أذكر جيدا سيري بجانب والدتي على أسطح بيتنا في ظلام دامس نتلمس الطريق بفضل نور البرق المتلاحق المصطحب مع رعود متتالية. ولا أزال أذكر أننا كنّا نقف برهة من شدة الظلمة منتظرين برقا جديدا، إلى ان وصلنا إلى بيت عمتي المرتفع والذي لم تصله مياه السيل، وبتنا هناك. في صباح اليوم التالي ذهبت مع رفيق الطفولة إبراهيم حبوبا لنرى ماذا حلّ بدارينا، وقد دُهشت مما رأيت من اتساع مجرى السيل الضيق، الذي كانت تلاصق جدران البيوت ضفتيه، فإذا به اصبح واسعا بسبب جرف السيل للبيوت الملاصقة لمجراه. في تلك الأثناء كان عمري خمس سنوات، والاطفال في هذه السن يبدؤن بتذكر أيام طفولتهم، وبخاصة إذا كان الحدث هاما ومتميزا. ومن حُسن حظّ والدي وعمي أن دارنا البعيدة قليلا والمرتفعة نسبيا عن مجرى السيل لم تتهدم، بل اقتصرت الكارثة على دخول مياه السيل إلى البيوت.
بقي عمي في البيت القديم وسكن والديّ في بيت قديم تسكنه جدة والدتي أم موسى وولَدَاها هاجرا إلى امريكا قبل 1914. كنا نربي في الربيع والصيف خروفا (أو اثنين) لذبحه في اواخر الخريف وتحويل لحمه إلى لحم مجفف "أورمة" تستخدم في الشتاء كلحم، لأن ذبح الخراف يتوقف في الشتاء. وغالبا ما كنت اقوم بعد عصر كل يوم بأخذ الخروف الى كرومنا لرعي العشب النابت على حوافي الانهر. وذات مرة نطح خروفنا في الاسطبل أم موسى فوقعت على الأرض وكُسِرتْ رجلها، ولم تنفع عملية الجبار في لأمْ عظم عجوز، وتوفيت بعد مدة قصيرة عام 1941.
كان زوجها رستم نعموش مكّاريا وكثيرا ما نقل على الجمال السمن من ديار بكر إلى بيروت. إضافة إلى ذلك عمل مع اخوته في الحياكة اليدوية. وسافر ابناه، كم ذكرنا، في السنوات الأولى للقرن العشرين إلى الأرجنتين، وبقيت ابنته وهي جدتي لأمي في ديرعطية وتزوجت اسعد البطل وهو جدي لأمي. وجدي هذا كانت مهنته النقل على العربة (الكميون) الذي يجره بغلان. ومما سمعته منه: "طعمي البغال بطعموك وما بيقطعوك". أي قدّم علفا جيدا (التبن مع كمية وافرة من الشعير) للبغال يجرون العربة دون مشقة، ويحقق صاحب العربة دخلا مقبولا. بعد انتشار السيارة (الأوتومبيل) ومنافستها لعربة النقل، باع جدي الكميون عام 1928 ويمم شطر الارجنتين، وعاد عام 1937 مع مبلغ من المال بنى به بيتا جميلا، وعاد إلى الفلاحة حتى أدركته الشيخوخة. كان وسيما قويّ البنية صارما أثناء العمل الزراعي لا يعرف الراحة، ولهذا لم اكن مسرورا عندما أقوم بمساعدته في أعمال الفلاحة.
 
رابط الحلقة الثانية:

الدكتور عبد الله حنا: هكذا حرقنا الكتب الفرنسية نكاية بفرنسا!.. محطّات في الذاكرة- ح2

http://www.fenks.co/index.php/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/35136-2020-04-07-07-03-16