كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

محطّات في الذاكرة.. "بعض مما...", بقلم الروائي غسّان كامل ونوس

يتابع فينكس نشر محطّات في الذاكرة لأعلام في الأدب والثقافة والفكر, وهذه المحطة, وهي الخامسة, بقلم الأديب والروائي والشاعر السوري غسّان كامل ونوس.

بعضٌ ممّا...

عتمة غاصّة، وعمق كهفيّ، وروائح من الرطوبة وبضاعة الحيوان، وبعض اللعب المكشوف، في الأحياز المضغوطة بين البيوت المتراصّة، بلا أستار الثنايا وأوهام الخطايا...

هذا ما تجود به الذاكرة، حين أستعطفها؛ لتعيدني إلى مكان سقوط رأسي، أو نهوضه، مستهلَّ العام (1958م)*، أو تستحضر بعضاً ممّا بقي منّي في ذلك البيت الترابي، الذي كان؛ كأنّما لم يكن!

لو لم يكنْ...

أجنِّةٌ قبلك لم يسْلموا، أو لم يرتضوا، أو لم يكن قضاء، أو نصيب!

لو لم يكنْ؛

ما الذي كان سيحدث؟! ما الذي سيتغيّر؟! هل تقف الكرة العنيدة عن الدوران؟!

هل الأمر يتعلّق بك، يتوقّف عليك؟!

هل كانت ستتبدّل مصائر، ستتعدّل تواريخ، شيء ما سينقص، سيزيد؟!

أم أنّ كلّ شيء سيستمرّ على حاله؟!

هل يحزنك هذا؟! أم يشعرك بالمسؤوليّة، بضرورة أن تكون لست عابر سبيل فحسب؟!

أم للوقائع وآثار الخطو، وأصداء الأنفاس، والزفرات... رأي آخر؟!

وماذا لو لم تكن تلك الحارة، تلك الوِحدة، العزلة؟!

وماذا لو لم يكن ذلك السفح، ذلك البعد، التأمّل، التفكير؟!

لو لم يكن...!

ثمّة رحلة فاصلة، تنقلكم خارج ذلك الموئل الغامض المتشبّث بالسفح، الذي يدير ظهره للشمس، وبيوت أخرى تتلاصق في صفوفٍ سرعان ما تنكسر، وتتعرّج، وتنفصل، لتترك زواريب صخريّة مدرّجة، ستكون عنوان الدخول من جديد إلى الضيعة/"الصليّب"، في ما سيكون من زيارات والتجاءات إلى الكينونة البشريّة الأقرب دماً ونبضاً، والأكثر تكوّماً وتلوّماً، في فسحات زمنيّة لا تطول، يحدّدها غروب الشمس المبكّر خلف ظهر الجبل العنيد، أو انغمامُ القبّة السماويّة؛ لتزيد من تقارب الذرا المحيطة، وانكبابُ السفوح بخضرتها الداكنة العابسةِ؛ مداراةً لأوقات عصيّة، وتَلَمْلُمُ الكائنات "سُكارى وما هم بسكارى"، إلى ما يشبه الكهوف، التي لا تكاد تسعها؛ فكيف بكوابيسِ بشرها، ونزواتهم، وصراعاتهم الكامنة والمعلنة؛ أمّا أحلامهم فيشرذمها وقع "الدلف" الملحّ، وضجيج "المزاريب" الشريدة، وزفير الرياح العابثة؛ أو كائنات أخرى في أوقات أخرى، تدبّ، تزمزم، تزحف، تلسع، تُشري؛ وخوار وثغاء ونقيق، وعواء غير عميق في المخيّلة المكتومة؛ كما في الدروب الضائعة بين الأشجار والشجيرات، والحافّات والأركان المعتمة، وفي أعضاء لا تُشبَع، ورغبات لا تهجع!

فعليك أن تسارع إلى الخروج من هذا المعترك الوجوديّ الشائك الشائق، والدخول إلى عالمك المُشاكل في السفح المقابل "ضهر المتن"، قبل أن يسبقك الصوت الرجوليّ المدويّ، أو نداء أمّك اللائذ خوفَ أبيك، وخوفاً عليك! وإن لم يغصّ "الشرشار" بماء طارئ، فيتعذّر عليك العبور، وقد تسحبك المياه معها، أو تعلّقك شجيرات بين فروعها المتشابكة؛ فتلاقيك، وأخاك الصغير، لتساعد في تجاوز الخطر، الذي قد لا يكون بحجم الضجّة المهيمنة، وملحقاتها من تقريع وتحذير وتهديد!

وحتّى من دون الخوف الآخر من أفاع متليّنة ومتلوّنة في الدرب العاثرة، ووحوش متربّصة بالعائذ بعد حلول الظلام؛ امتصاصاً لآخر سحنات الضوء، أو تسامراً مع ندماء العمر اللاهف اللاهث، حتّى آخر أويقات السهر المرذول المسموح، حسب الظرف الطبيعيّ المتكهَّن بملامحه، والطقس الأبويّ العصيّ على الرصد وتقرّي ًإشراقه وانقباضه!

تلك الرحلة الأبعد، ما تزال عالقة في الذاكرة الأوفى؛ كأنّها الأقرب مشهداً وعناصر؛

أخوك الكبير "محمّد" يحمل أخاك الأصغر "قاسم" على كتفيه؛ (لم تكن قد وافتكم من ستكون الكائن الأصغر "صباح")، شادّاً بيديه على قدميه الصغيرتين المتدلّيتين بصعوبة حول عنقه، مطأطئاً رأسه، الذي يتشبّث به الراكب الباكي، يبحث عنك ربّما، أو عن صدى اضطراب مكتوم، يظهر إلى العلن فجّاً مفاجئاً، وأنت تمشي خلفه حيناً متمسّكاً بساقيه، أو يتعثّر بك أمامه، أو بين قدميه، في الدرب الضيّق المنحدِر في "جْدار" الضيعة الأثيرة، لعبور "وادٍ غير ذي زرع"، لا يتعمّق كثيراً، يتهادى قاعه مستوياً بين مَسيلين؛ أحدهما يغسل قدم دربكم هذا، قبل أن "تقطعوا" الطريق الوحيدة العابرة إلى القرية الأخرى "مشرفة كحله"، التي تنتمون إلى سجلّاتها في دائرة النفوس، وفيها المختار، والسيّارة الوحيدة، و"الداية" المولّدة لمعظم جيلكم، ومن تقدّم ومن سيتأخّر؛ (ستزوركم ذات ليل مدلهمّ؛ لتأتي بـ "صباح")! لم يكن لهذا المسيل البائس كثير سمعة أو ضجيج، لولا اسمه المرتبط بالـ"نبّوعة" اليتيمة، التي يعبرها، وتسقي الضيعة أحياناً؛ ولولا الذكْر المعكِّر الذي سيداهم كلّما عبرتَه، بعد أن ألقتْ جدّتك لأبيك "خديجة" حَجَرها في بِركة أوهامك؛ الجدّة الجادّة المستوحدة، التي لا تهتمّ كثيراً بالقيل والقال، ولا تجيد سرد الحكايات، وبعد أن استمهلتْك لتأكل شيئاً من "مْتبَّلَتِها" الجامدة الباردة، التي تحبّها، وقد أخرجَتْها من وعاء تحت (المكبّة)، في ذلك الركن الغامض، كأنّه العالم السفليّ، الذي ستقرأ عنه بعد سنين؛ قالت مشجّعة، أو مواسية لتأخّرك في العودة:

لا شيء يخيف يا ستّي؛ حين تصل إلى "مسيل النبّوعة"، سمّ باسم الله الرحمن الرحيم، وتعوّذ من الشيطان الرجيم؛ فهو "مسكون"!

ستسألها عن معنى مسكون، وتحدثّك باقتضاب عن "الجنّيّات"؛ وستسألك: لماذا لا تأكل؟!

تستحقّ الرحمة جدّتي؛ كنت معجباً بها؛ أعطتني معلومة، ذات يوم مكفهرّ غاصّ بالمطر، وكنت أنتظر؛ قادماً من المدرسة الابتدائيّة، أن يأتي أبي ليصطحبني إلى "ضهر المتن" في حارتنا الجديدة "حارة العين" (مع أنّهما عينان!)، حين قالت: البحر كبير يا ستّي، لا يطوف مهما هطلت الأمطار؛ ذهلت حينئذٍ لمعلوماتها؛ أمّا الآن، فهي لا تعلم أنّها زرعت في خلدي، بحديثها عن المسيل و"ساكنيه"، قلقاً لا ينتهي!    

   أمّا "الشرشار" فالسمعة له، هو الذي يمهّد للسبيل المتصاعد، حتّى يصبح تسلّقاً شاقّاً، بعد العينين المتجاورتين المتبادلتين مهمّة السقيا فيوضَ الشتاء وشحّ الصيف؛ متعرّجاً بين حافّات مستجدّة، تحتشد فيها أشجار الزيتون متعدّد الأجيال، وبعض تين ورمّان متهالك ومستحدث.

*

كنت وأخي "قاسم" عائدَين قبيل الغروب الصيفيّ، معكّرَين لأنّنا سنترك الوقت الأجمل في الضيعة، لكنّ علينا أن نعبر الممرّ الإجباريّ قبل أن تحلّ العتمة، التي تحمل معها أخطاراً شتّى. وكما هي العادة، حين صرنا في سفح الضيعة المقابل لبيتنا، نادينا أمّي كي تلاقينا، كان النباح بعيداً في السفح الغربيّ، فغذذنا السير، وجررت أخي من يده مستحثّاً كي نسرع، على الرغم من وعورة الطريق المصعّدة جوار العينين الشحيحتين، في هذا الصيف القائظ.

كانت أمّي قد وصلت إلى المشارف العُلويّة للمعبر الضيقّ، وصرنا في أوّله، متجاوِزَين النبعين، كان صوته الحادّ يقترب، ونتحامل على أنفسنا رعباً وتعباً، وأمّي تصيح: لا تخافا! وعلى مبعدة قليلة إلى اليمين، ثمّة ظلّ مديد وفسحة، وجلسة سمر صاخبة. النباح يقترب، صار لهاثاً. تشبُّثُ أخي بساقَيَّ؛ إضافة إلى ما بي من هلع، شلّني، وزاد من مسؤوليّتي. رأيته يتقافز محموماً باتّجاهنا. أمّي تصرخ به، والجيران يتضاحكون، وأخي يتلجلج، متعلّقاً في الجهة الأخرى من الخطر الوشيك. نظرت إلى الأرض حولي بلمحة، الأرض مسوّاة تحت شجرة زيتون، أغصانها فوقنا؛ ثمّة حجر وحيدة، على بعد خطوة، وفي زمن لا كالزمن، انحنيت إليها، التقطتها، وألقيتها نحوه، وقد صار شدقاه المفتوحان ولسانه المشرع، على بعد مترين أو أقلّ!    

ما الذي حدث؟! لم يستوعبه كياني؛ اللهاث انقلب عواء ملأ الأسماع، مع ارتماء الكلب/الكابوس على الأرض، يتقلّب منحدراً كـ "جلمود صخر هدّه السيل من علٍ"، حتّى وصل إلى حافّة جدار يسوّي انحدار السفح، ويصون الفسحة المجاورة والبيت التالي، وغاب مع صوت مخنوق تحتها!

علا صراخ الجيران، وهمّوا باتّجاهنا.

هرعت وأخي إلى أمّي، التي أخذت تصدّ الهجوم الصوتيّ وحدها بشراسة، قبل أن يتكاثر الصراخ الشاتم، ويقترب من جهة البيوت الأخرى، وقبل أن ينهدّ أبي، ويتداعى عمّي وأبناؤه، ونفر أُخر، من الضيعة، لنصرتنا، واتّخذت المعركة مسمّى "مشاجرة جماعيّة"، في ملفّ الدعوى التي لم يتوانَ عن رفعها "رجل" الحارة، بحجّة الاعتداء على آمنين! هو الذي صعد إلى سطح بيته، وسحب السلّم الخشبي، ونادى إلى المختار في القرية التالية، بصوت مخنوق؛ وهو المغرم بالدعاوى ومراجعة المحامين والقضاة مرّات في الأسبوع الواحد، ويحتلّ مكاناً شبه دائم في السيّارة الوحيدة، في رحلتها اليتيمة إلى "البرج"/"صافيتا" وينزعج منه السائق الشهير، الذي يتمنّى أن تجاوره كائنات ألطف!

وبما أنّني "تحت السنّ"، فقد تجاوزتني الاتّهامات والأحكام، التي أصابت، بعد أشهر، أبي وعمّي، بـ"فضل" شهادة زور من إحداهنّ، كانت تتلمّظ بعض الحلوى، وملأت عبّها منها– ربّما-، في جلسة السمر تلك، وتنتظر امتلاء جرّتها من قطرات العين المتثاقلة!

*

من العادات الجميلة التي كانت في ضيعتنا الفقيرة في كلّ شيء، قراءة الكتب سِيَراً وروايات، يتمّ تبادلها، وانتقالها من يد إلى يد، ومن بيت إلى بيت؛ كباراً (ممّن يعرفون القراءة)، ويافعين، حتّى تفقد ألوانَها غير الناصعة أصلاً؛ طباعة ذاك الزمان، وغلافَها -ربّما- وبضع أوراق أخرى!

لذلك لم أتبيّن عنوان الكتاب، الذي شرعت بقراءته، بليالٍ معدودات تتوالى، مضى منها عشرات، وصفحات متقدّمة الأرقام، وفيه حكايا، وكلام جريء، ومشاهد غريبة ومثيرة، كدت أخجل لدى قراءتها، لكنها شدّتني بلغتها وأسلوبها، وتنوّعها... لم أكن أعلم أنّها ليالٍ من "ألف ليلة وليلة"، الكتاب ذائع الصيت بنسخته الأصليّة غير المهذّبة! (عرفت فيما بعد، أنّ هناك نسخاً طبعت "بتصرّف"، فحذفت منها ألفاظ ومسميّات عُدّت بذيئة، وزّعت على الفائزين في مسابقات أدبيّة على مستوى القطر، أقامتها منظّمة "اتّحاد شبيبة الثورة"، وقد حكّمت فيها سنوت عديدة). وكنت قد قرأت كتاباً آخر بلا غلاف، عنوانه "صور من حياتنا" لكاتب من طرطوس، اسمه "محمّد المجذوب" توفّي منذ سنوات قليلة في اللاذقيّة؛ إضافة إلى كتب أخرى مماثلة، وأخرى بعنوانات وأغلفة. وقرأت لاحقاً "تغريبة بني هلال"، التي كنت قد تعرّفت إلى عدد كبير من شخصيّاتها، تتردّد في أحاديث القرية، ويروي أبي بعض أشعارهم، ولا سيّما "أبو زيد"، و"دياب بن غانم"، و"الجازية" اخت "السلطان حسن"... وضحاياهم من "شبيب التبّعي" في جبل الشيخ، إلى "الزناتي خليفة" في تونس؛ كما قرأت "سيرة سيف بن ذي يزن" الواردة في سبعة عشر جزءاً وأربعة مجلّدات، لم تكفِ صيفيّة "إعداديّة" واحدة لإنهائها. وقد أدهشتني لِما فيها من وقائع ومعارك وأسماء، وبطولة وجبن، وأمانة وغدر، وحبّ وحقد، وفوز وخسارة، ومدن قديمة تدمّر، وأخرى تنشأ، وعلاقات لا تدوم، ومؤامرات لا تتوقّف، وحياة تجري إلى لا مستقرّ لأحد فيها. وكان للأسلوب الحكائي متعته، وجاذبيّته؛ إضافة إلى الغرائبيّة والتخييل؛ ما يترك أكثر من تساؤل عن المصداقيّة التاريخيّة لدى الرواة، وما يمكن أن يضيفه الخيال الشعبيّ إلى نصوصها الأثيرة...

كان في تلك الحكايا والسير، ما يشبه بعض ما كانت "حليمة" جدّتي لأمّي، تحاول روايته لنا، لدى كلّ زيارة لها بعد طول انتظار؛ وقد نضطرّ، من لهفتنا، إلى أن نناديها في جرّة الملح! وكنت أفرح بحكاياها، أكثر ممّا كانت تحضره من خضار طازجة، ينتجها خالاي، وخالتي الوحيدة، في تلك القرية "سرستان"، التي تقع فيها المدرسة؛ لكنّ خيبتي، في أثناء سرد الحكايات، لم تكن قليلة؛ حيث تتقطّع بوقائع وأحاديث، تستذكرها جدّتي، فتنقلها إلى أمّي التوّاقة إلى سماع أخبار أهل ضيعتها، التي لا تزورها كثيراً، فيضيع التشويق وتخفّ الإثارة؛ هل هذا ما كان يحدّ من رغبتي في زيارات خالتي؛ حيث تسكن الجدّة بعد وفاة جدّي، الذي لا أكاد أذكره، وبيتَي خالّيّ، مع أنّ أعمار أبنائهم تقارب أعمارنا، ولا سيّما في حالات المناخ القاسية. وقد حدث أن عدنا أنا وأخي الصغير أكثر من مرّة، قبل غروب الشمس بإلحاح منّي، فيما كنّا قد عقدنا العزم على المبيت عندهم في أكثر من صيف؛ أم أنّ تلك العودة تحمل أسبابها؛ تعلّقاً وأشياء أخرى، ستجعلك تمارس عودة أخرى، عودات... أكبر وأهمّ؛ مستغنياً عمّا يحلم بها كثيرونّ؟!

وصلت من المدرسة، التي تبعد نحو أربعة كيلومترات قبيل الغروب، كانت الشمس ترسل أشعتها المودّعة، في آخر نهار خريفيّ. كانت أمّي قد حضّرت بضع طعام، على أحد الأطباق الأليفة، التي تصنعها بنفسها من قشّ القمح، بعد تجفيفه ومعالجته وصبغه، كانت مهارتها تتجلّى في أشكالها وألوانها وحرفيّتها، فتشغلنا عن بساطة الطعام أو قلّة تنوّعه؛ هذه المرّة شغلني أمر آخر! وضعت كتبي على الطاولة الخشبيّة الوحيدة، التي يطيب لي الجلوس إليها على كرسيّ صغير من قشّ آخر، جوار سريرين متعامدين: معدنيّ وخشبيّ، وتبقى جهة واحدة مفتوحة.

كتاب مختلف ملقى على الطاولة، سماكته تفوق كتب منهاجنا الإعدادي. تناولته بيديّ، وجلست إلى "المائدة". فتحته بعد ثلثه، ربّما، ورحت أقرأ. بعد حين دخلت والدتي، وكنت أوجّه الصفحات نحو الباب؛ لأستفيد ممّا تبقّى من ضوء في الخارج. قالت: "ويلي؛ لم تأكل شيئاً!" وأشعلت ضوء الكاز. انتهيت من آخر صفحة قرابة منتصف الليل، من دون أن ألتفت إلى وظائفي ودروسي المطلوبة ليوم الغد. أتذكّر أنّ الكتاب، كان رواية لبيار روفايل، لا أذكر اسمها، مع ملامح امرأة على الغلاف!

تُوِّج اهتمامي باللغة العربيّة، بحصولي على العلامة الكاملة في الشهادة الإعداديّة (60/60 مع المرتبة الأولى في المدرسة، وعلامة مميّزة في المجموع العام)، وهو ما يحدث للمرّة الأولى في المحافظة على الأقلّ، وربّما في البلد كلّها، حتّى ذلك التاريخ من العام (1973م)، حسب ما قال الأساتذة باعتزاز.    

مع الانتقال إلى المرحلة الأعلى، والالتحاق بثانويّة الشهيد علي يوسف للبنين في مدينة صافيتا، صار المجال أوسع للاطّلاع على الكتب واستعارتها، من خلال مكتبة المركز الثقافي العربيّ في صافيتا. وقد صرت من مرتاديها الدائمين، وأظنّ أنّني أتيت على مجمل الكتب الموجودة آنذاك؛ فلسفيّة كانت، أو أدبيّة، بمختلف الأجناس الأدبيّة، بمؤلّفيها العرب، أو الأجانب، على مدى عامين، ولا سيّما في الصيف؛ حيث الزيارة أسبوعيّة، يتمّ فيها استبدال الكتاب المستعار، وقد أسهم ذلك في الالتزام بالقراءة أكثر. ولا شكّ في أنّ هذا قد عوّضني عن الشراء، الذي لم أستطعه، حتّى مرحلة متقدّمة من تجربتي الأدبيّة. ولم يقتصر فضل المركز الثقافيّ على ذلك؛ بل شاركت خلال العام الدراسيّ في عدد من المسابقات الثقافيّة، وفزت فيها، وكانت مكافأتي كتبأ في الشعر والقصة؛ وستكون انطلاقتي الحقيقيّة في قراءة نتاجي الأدبيّ من على منبر المركز الثقافيّ ذاته أواخر الثمانينيّات؛ كما تعرّفت من خلال نشاطاته، إلى كثير من أدباء ومفكّرين من المحافظات السوريّة، كان لبعضهم حضور مميّز، ينطبق مع صورته، التي كوّنتها من قراءة كتبه أو موادّه المنشورة في الدوريّات، وآخرون خيّبوا ذلك التصوّر؛ وهو ما سيتأكّد لاحقاً من معايشة أكثر قرباً!

*

كان للدخّان في قريتنا والمنطقة كلّها حضور مهيمن، زراعة وقطاف أوراق، وشكّاً وتجفيفاً وتوضيباً وبيعاً للدولة، أو للمهرّبين، وملاحقة الفاعلين، وهرباً من "الورديانيّة"! وقد حاولنا زراعته مرّات من دون نتيجة مجزية؛ بل كنّا نبحث عن طريقة لتخفيف الخسارة الحالّة، ولم يكن تعلّمي التدخين، بداية المرحلة الإعداديّة، في إطار ذلك! لم أكن الوحيد من بين أترابي؛ بل تأخّرتُ في الانصياع، وبكّرت في الإقلاع عنه.. بفضلها!

كنت في الطريق إلى البناء القابع فوق السيّار الصخريّ، هيكلاً من البيتون والبلوك، يشرف على معظم الضيعة بتفاصيلها، والضيع الأخرى. الجلوس هناك مغرٍ، مع سيكارة، ودُخَان مشرع، وأنف مرفوع، عنوان الرجولة المستجدّ، بعد التحوّل من تحت الشجرة المعمّرة الوحيدة، جوار المزار الأشهر "الخضر"، والمقبرة المتجدّدة، والبيدر الأثير ملعباً للكرة، ولسواها، قبل أن نستصلح ملعباً أكبر، وأكثر وعورة، قربه، جوار المزار الآخر، "الشيخ شبل" الأقلّ شهرة وقبوراً، والأكثف شجراً وشجيرات، تتمدّد في الجانب الآخر...

أماكن مناسبة للتظلّل والدراسة والتوحّد، والاستتار من المعاصي والنزوات، كما الأحلام التي قد تبدو أكبر من احتمالاتها؛ وإلى الغرب تنهض غابات الصنوبر المميّزة في المنطقة كلّها، وهضاب طبيعيّة الشجيرات متنوّعة الخضرة، مع زحف منظّم لأشجار زيتون تتناهض، وزراعات تتنامى على حساب الطبيعة البكر، تلك التي لم تسجّل مخالفاتها "المكشوفة" ضدّ مجهول ولا معلوم؛ مواقع أخرى أبعد لأفكار أعمق، وانشغالات وخيالات وشطحات... نحاول النجاة من وحشيّتها وعريها النفسيّ قبل الماديّ، بالارتداد إلى موائل أكثر أنساً واعتداداً ومشهديّة.

كنتُ بمفردي، استبقت رفاقي القادمين بعد حين، أحمل كتاباً، وسيكارة تتّقد بين شفتيّ الماصّتين بحرقة، ويعلو دخانها مع سعال فاقع. فاجأتْني خارجة من بين الصخور والشجيرات كالجنّيّة: "أيلي يا غسان، مدّخن، والله تقلّو لبيّك"!

ضحكت بلا اهتمام؛ ستنسى بعد حين، الأمر لا يستحق التفكير، ولا المزيد من القلق، القلق الذي لا يفارق حين أقوم بعمل غير مسؤول، هذا الذي لم أعتده، حتّى حين ضربنا الأستاذ جميعاً في الابتدائي؛ لأنّنا أكلنا من تين جيران المدرسة، في بداية الفصل؛ لا لشكوى من صاحب الشجر؛ بل لأنّ حادثاً وقع لواحد من التلاميذ من أبناء قريتنا، في أثناء تسلّق الحافّة؛ فارتمت صخرة على زنده، الذي تحطّم، فعلا صراخه، ونزف دماً كثيراً، خلال الوقت الذي استغرقه إخبار والده، وحضوره، وحمله على دابّة مسافةَ أربعة كيلومترات، في الطريق المختصرة الوعرة إلى الطريق العامّة، ومنها إلى طبيب في صافيتا. كانت المرّة الأولى، التي أخرج فيها إلى أرض أخرى، والمرّة الأولى التي يضربني فيها المدير، الذي أشعر بتقديره، واكتفى بقضيب على راحة كلّ يد؛ فيما كان نصيب زملائي أضعاف ذلك.

التدخين كان جديداً عليّ، واستهواني طقسه، الذي يمارسه أبي والرجالات الأخر؛ ويقلّدهم الصغار في ذلك وسواه من أعمال الكبار، الصغائر منها والكبائر! كان والدي يرسلني أو أخي إلى الدكّان الوحيد في الضيعة المقابلة لإحضار دفاتر شام الصغيرة الخاصّة بذلك، وقد كتبت على غلافها ثلاثة أبيات شعريّة مرغّبة.

بعد نحو ساعتين من تهديدها ذاك، ومع بداية هيمنة الظلام على الطريق المنحدرة الوعرة الواصلة بين الحارة العليا المستحدثة، والضيعة الأصليّة، وتزيد أشجار الجانبين في مستوى تأثيره- كنت وأبي نازلين بهمّة وحذر، وهي راكبة على أتان، تصّاعد متثاقلة على الأحجار، وتحرّك ساقيها الصغيرتين بحيويّة؛ لم أتبيّنها تماماً، حتّى قالت: "كامل.. ابنك غسان بيدخّن"!

وتجاوزَتْنا بضحكة منتشية!

لم ينطق أبي بكلمة طوال الطريق، ولم يلتفت إليّ، ولم أنبس، وبتّ أتعثّر أكثر، وأنا أجدّ كي ألحق به، متصوّراً حنقه المكتوم من سرعته، ومن تجارب سابقة. كنت أتمنّى لو أستطيع أن أسبقه إلى البيت، أن أجري بعيداً عنه؛ خجلاً أكثر منه خوفاً. كانت المسافة الزمنيّة التي استغرقها عبور الطريق النازلة الأخرى، والوادي "الهوّة"، والأخرى الصاعدة إلى جواره، هي الأقسى. لم يضربني؛ بل لام، وعتب، وأنّب، وهدّد، وتوعّد. سيسامح هذه المرّة؛ لأنّها الأولى، على أمل ألّا يتكرّر؛ وإذا ما تكرّر، سيكون الأمر مختلفاً.

في اليوم التالي انتهيت ممّا بقي لديّ من سجائر، ولم أعد أهتمّ بالتدخين بعدئذ؛ على الرّغم من أنّي حاولت مجاراة رفاقي في الجامعة، وفي العسكريّة، بعدها، بيد أنّ أمر التدخين انقضى تماماً: شكراً لها!

*

لم يكن حبٌّ، ولا علاقات للمتعة، التي تعرّفت إليك، ذات بلوغ قدريّ، أرعبتك قبل أن تستعذبها، وعذّبتك لأنّها جعلتك تحتفظ بتجلّياتها لنفسك؛ لن تفصح عنها، ولن تجاهر بها، أو تتباهى بإنجازاتك بها ومعها؛ كما يفعل أترابك، ومن هم أكبر! لا شيء مهمّ، ولا تحبّ الحديث في ذلك؛ لكنّك تحسن الإصغاء، والالتقاط، والارجاع! حتّى في مشاجرة نسويّة ألفاظ فاضحة، وفي مزحات رجاليّة، وأقوال عاديّة، شيء غير قليل من هذا؛ أوّل نكتة فاحشة سمعتها من رجل متديّن، دعاه أبوك في حالة نادرة، الآخرون يبالغون في دعوته، حملك أبوك إلى التحامل على خجلك أو نفورك، والجلوس في حضرته، تيمّناً بما يقول، لعلّك تقتنع أو ترضى؛ فخجلت أكثر، وزاد شكّك، واقتنعت بما يشغلك أكثر، وخجل والدك، وضحك حضورٌ أُخر منتشين!

أنت صريح وواضح وشفّاف ومباشر، لا تكذب، ولا تبالغ، ولا تخاف من قول كلّ شيء، فليس لديك ما يخشى منه. أليس لديك حقّاً، ما يمكن أن تقوله في جلسة المكاشفة، التي يعقدها رفاقك كلّ حين؟! لا يصدّقون، هل تحلف لهم؟! يهزؤون بك، يسخرون من تفوّقك؛ هذه فرصتهم: ألا تخجل يا رجل؟! أليس لديك ما يبلّ الريق؟! خلّك في كتبك ودفاترك ، واستمتع بها!

هل تقول لهم إنّ متعتك خاصّة؛ بالقراءة واللغة والأفكار والوقائع، وأشياء أخرى؟!

في بعض لياليك تستذكر مشاهد من ليالي ألف ليلة، وأساطير وروايات قرأتها، وأحياناً تعود إلى مجلّات تتحدّث بالأسماء عن أعضاء وسلوك وأمراض، وكتب أخرى اكتشفتَ أنّها تتحدّث عن المتعة والغرائز تحذيراً أو ترويجاً، تسويغاً أو علاجاً.. وإلّا!

هل لوِحدتك علاقة بذلك؟! وهل ظلمك أبوك حقّاً؟! فأنت في عزلتك لا شركاء حقيقيّين، ولا أصدقاء مقيمين، ولا جيران مواظبين، ولا سمّار دائمين، وليس لك إلّا نفسك الأمّارة بالمتعة والرضا والأمان؛ وإلّا!! فمن أين، وكيف، ومتى؟!

ألهذا كنت تنتشي بالمتعة، التي تأتي عن بُعد؛ هل كان هذا تيمّناً بالضيعة البعيدة، والثوب الجديد البعيد، والبهجة البعيدة، والخلاص الأبعد؟!

هل مصادفة كانت الأغنية التي سمعتَها لدى أوّل اصطحاب للمذياع، مكافأة للرعي من قبل شباب الضيعة وصباياها الذين اجتمعوا في بيتكم: "يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا"؟! بالرغم من وجودهم قيد مبادرة أو همّة أو اقتناع يُتوهَّم، ولا يدوم طويلاً!

ربّما كنت تعتقد أنّ الحبّ أسمى من أن يكون رغبة ونزوة، وأدوَم من نشوة عابرة، وأبعد من علاقة مباشرة، وأرقى من اتّصال و.. إهمال، وأبقى من آخر احتمال!!

إذاً...

كيف يُعاش الحبّ الذي ترسمه الحكايات، وتقرأ عنه في الروايات والأساطير، وتسمع آهاته في المسلسلات الإذاعيّة العديدة؟! وأين هي تلك التي لا يمكن العيش من دونها؟! وهل أنت مستعدّ له؟! أنت الذي كتبت في مقتبل السابعة عشرة: "أحبّك؛ ليس لأنّك طويلة، أو قصيرة؛ فأحذية اليوم تتكفّل بذلك؛ ولا لأنّ صوتك جميل كفيروز، أو أمّ كلثوم؛ ولا لأنّك سمراء أو شقراء، أو حنطيّة... بل أحبّك لأنّك تحمّلت مسؤوليّة الحياة مثلي!!).

وأين المفكِّرة التي ستقبل منك هذا الكلام الوجودي، وفي هذه السنّ؟!

مع ذلك، كان عليك أن تخلق ذاك الحبّ، تتوهّمه، وتعيش في كنفه، تتحرّق على جمراته، أو يحلّق بك على بساط النجوى. وتخلق مواقف تحمّل فيها آخرين مسؤوليّات لم يعهدوها، قبِلوها صغاراً خجلاً منك، واحتراماً لإمكانيّاتك، التي تمتدّ إليهم أحياناً، ويفيدون منها معايشة، ومسامرة؛ ورضي أن يمضي بها بعض الكبار، ترضية أو إشفاقاً. وستشفق على نفسك أنت أيضاً، واقفاً في هيكل للروائح والريح، سيغدو معلماً سياحيّاً بعد زمن، تراقب طيفاً وموئلاً من دون علم أحد، وتعود بعد حين، من دون نتيجة، سوى إرضاء النفس بما في الإمكان، ومغالبة ذلك أيّاماً وأسابيع أو أكثر! ليس في الأمر تغيير، ليست بعيدة ولا قريبة، حتّى حين كنت تكتب لها الموضوعات، وتحلّ المسائل، وقد تفاجئك في حضرة الجميع بموقف (مقشّر!)، فتضمّه إلى قائمة الارتجاعات المبشّرة، ليس إلّا! وقفت في أماكن ليست للوقوف، وسهرت مرّات، وانتظرت ما لا تقوم به إلّا مغامِرة متيّمة، حتّى لو كان عبر أسلاك! لكنّ قربها كان يتناءى، وبعدها غير محدود، وسيبقى كذلك، ويتنامى حتّى ينوس وقعها ويتلاشى، مع وقعك المبتعد إلى طيف أقرب، ووهم أكبر!

ليس حبّاً يمشي على الأرض، في كائنات كتلك التي تقرأ، وليس حبّاً ذاك الاقتراح العائلي المجاور؛ بارداً كان، وانتهى، من دون مقدّمات، ولا مخلّفات. وليس حبّاً ذلك التعلّق أو التعوّد، الذي عبّرت عنه أمّك محذّرة ذات امتعاض: "المواظبة غلبت الشطارة"! ولا ذاك الاهتمام المبتور على طريق "النبّوعة"، ولا ذاك الانتهاك العارض للخصام المزمن على الحدود الدهريّة بين الشرق والغرب، ولا تلك الملاحقة الغريزيّة لأشكال وأعضاء...

ولكن.. ما هو ذاك الذي جعلك تنام دامعاً مقهوراً، في أوّل ليلة من العطلة الانتصافيّة، التي ستحرمك من رؤية المعلمة الأنيقة الحنون أيّاماً؟! كنت ما تزال في آخر المرحلة الابتدائيّة، ولمّا تقرأ "الموت حبّاً" لـ "بيار دوشين"، التي تتحدّث عن علاقة حبّ غريبة، بين طالب ثانويّ ومدرّسته!

هكذا ستمضي مراهقتك؛ أوهام موصوفة، وتخيّلات مكبوتة، وتهيّئات مشرعة، تحتاج إلى أن تعيشها، أو ترويها لأترابك، الذين لهم قصص أغرب، حتّى مع كائنات من لحم ودم ورغبات ونزوات وسير، وفضائح وارتباطات عارضة أو قسريّة!

أنت لا تحبّ القرب ولا التقرّب؛ فليس في هذا شيء مميّز، وكنت ترفض المبادرات، التي قام بها بعضهنّ، صغيرات وكبيرات؛ فالأمر يحتاج إلى تعب وعناء واستحالة ربّما! تحبّ الأبعد حتّى تتعذّب أكثر، تودّ أن تحصل على ما ليس في متناولك؛ فإذا ما صار قاب خطوتين أو أقرب، أبعدتَه، أو ابتعدتَ، واكتأبتَ، وصرت تتحسّر، وتتظلّم!

ليس في الحبّ وحده؛ بل في الحياة أيضاً؛

كنت تبكي كثيراً في صغرك، قالت أمّك، وقال أخوتك الكبار؛ لعلّك تستذكر بعض الحالات! هل كان ذلك للمتعة، أم في طلب أشياء لا تتحقّق، أم قلقاً من مصير غامض، ومآل لا تعرف له احتمال؟!

هل عدت من بعيد، من لدن ما يتلمّظ من أجله كثيرون، من أجل حبّ قريب، أم للابتعاد عن قرب إشباع؛ كما يتراجع متسلقو "أفرست" قبل القمّة ببضع عشرات من أمتار؟!

ستقول بعد زمان: "لا تقتربي كثيراً، حتّى لا نبتعد أكثر"! وستكتب!

ربّما تفكّر في هذا، أو تمارسه لتكتب؛ فالكتابة معاناة، أو انعكاس للألم المكتوم أو الفضّاح. وهي تكفير عن الخطيئة الأولى، والخطايا التي يقترفها الكائن العاقل بحقّ نفسه، والآخرين والطبيعة...

ستكتب بعض هذا لدى حوّار أوّل، بعد الجائزة العربيّة في القصّة منذ ربع قرن، قبل أن تنشر كتاباً، وستكتب في حوار آخر، بعد حينٍ وحضورٍ وإصدارات ومهمّات؛ مقتنعاً:

"إنّ أصل الإبداع حزين"!

فهنيئاً لك حزنك السرمديّ/إبداعك "أيّها الشاكي وما بك داء...!"

*

أفقت ذات صباح ربيعيّ، يغصّ باخضرار وإزهار، ونسمات معطّرة بأريج متنوّع، تعرج من الوادي ذي الزرع الناهص، قرب بيتنا المحلّل بأجر شهريّ، نستدرجه بشقّ الأنفس؛ كنت أحسّ بنشوة بادية، ساءلتني عنها زوجتي باستغراب!

أسرجتُ ضحكة خجولة: سيأتيني خبر سعيد!

أدارت وجهها بابتسامة مواسية: آهٍ من أحلامك!

ونهضت إلى الصغير، الذي بدأ يزقو، وربّما تابعت في سرّها: التي لا تطعم خبزاً؛ لأنّها ذكرت جوع الصبيّ، وحاجاته الأخرى!

حين عدت من اللاذقيّة، حيث أمارس عملي التدريسيّ في الجامعة، على بعد مئة ورُبع المئة من الكيلومترات، كانت ضحكتها ملوّنة، كحروف المظروف، الذي في يدها، وكما رأيته في الحلم منذ أيّام، بالأحمر والأبيض بخطوط مائلة!

تلك كانت الفرحة الأهمّ، في مسيرة الأدب الشاقّة الشائقة، وقد حفرت في الذاكرة عميقاً لبذور ستتكاثر، وتنتش، وتتغازر أشعّتها، في جهات أخرى أقرب وأبعد.

*

كان مهمّاً أن يقول لنا المرافق الاسكندراني (أحمد): هذا الفندق "سان ستيفانو" شهد توقيع اتّفاق القاهرة المعروف (1969م)، الذي نظّم وجود الفلسطينيّين في لبنان، بحضور الزعماء: جمال عبد الناصر، الملك فيصل، شارل حلو. وأقام فيه كثير من مشاهير العالم في مختلف المجالات.. على مبعدة أمتار منّا، في الاستراحة الكبيرة، كهل نحيل أسمر، اعتدنا أن نراه وحيداً- في الغالب- يجلس إلى طاولة صغيرة؛ قال مدير المركز الداعي (السيّد حافظ) الناصريّ العروبيّ حتّى الصميم: إنّه الروائيّ نجيب محفوظ. وقبل أن تتناهض دهشتنا، أضاف: لكنّنا لن نسلّم عليه؛ فهو موافق على المعاهدة مع الكيان الصهيوني، وعلى سياسات التطبيع! ولم أغتنم تلك الفرصة النادرة، كما فعل أديب من بلد عربيّ آخر- في الالتقاء مع من تتلمذت، وكثيرون سواي، على رواياته؛ الثلاثيّة: (بين القصرين- قصر الشوق- السكريّة)، وغيرها كثير؛ ولست نادماً؛ فالحياة موقف!

لكنّنا سلّمنا على من لا يقلّ شهرة في مجال الفنّ: الممثّل فريد شوقي، بطل الشاشة الكبيرة والصغيرة؛ حين دخل مسلّماً علينا في قاعة الفندق، وهو من سيقوم بتسليمنا الجائزة. وقد كان تكريماً إضافيّاً، ومفاجأة سارّة؛ فهل أرضى هذا فضولنا، وعوّضنا عن ذاك؟! كان منشرحاً ومغتبطاً باللقب الذي مُنح إيّاه في هذا المهرجان الفنيّ الإبداعي الكبير: "فنّان الشعب"، وقال إنّه أهمّ لقب في حياته، والأقرب إلى قلبه.

*

ملحق:

في سنين خمس، عملت خلالها في جامعة تشرين. كانت تجمّع الساعات المقرّرة (كالعادة) في بعض أيّام الأسبوع، وتبقى أيّام أخرى، لانشغالات أخرى؛ منها، الاعتناء بالمولود البكر في أشهره الأولى، حين تكون والدته في دوامها المدرسيّ في الابتدائيّة غير البعيدة كثيراً؛ للتخفيف من عبء الانتقال اليوميّ به إلى والدتها، ومن هناك إلى البيت، في ظروف السير غير الميسّرة، وأخفّف عن جارتنا الطيّبة بعض ما تقدّمه من اهتمام في أوقات كثيرة. من عادته، أن يفيق في منتصف الساعات الخمس، لألقمه ما أعدّته أمّه، ونلعب قليلاً، مع تلبية حاجاته الأخرى، إن وجدت، ويعود إلى النوم..

في ذلك اليوم، وحال أصبحت وحيداً، بدأت بكتابة شيء ما، يلحّ منذ أيّام؛ مسرعاً في تسجيل ما يخطر بسلاسة، متهيّباً النظر إلى الساعة، منتظراً أن أسمع صوت الرضيع المنبّه، فينقطع الدفق العجيب. كنت أسابق الزمن، حتّى توقّفت، منتهياً من مسودّة القصّة، وقد تجاوز سنان موعد طعامه، مسترسلاً في نومه الهانئ.

تلك كانت (هامش الحياة.. هامش الموت)، القصّة التي شاركت بها، بعد أشهر، في مسابقة قصصيّة عربيّة في الاسكندريّة- جمهوريّة مصر العربيّة، وحصلت على المركز الثالث، وذهبت إلى هناك لتسلّم الجائزة في رحلة للذكرى.

وكان لذلك دور مهمّ في التحفيز على متابعة المسار الأدبيّ.

عنوان القصّة ذاتها، صار عنوان مجموعتي القصصيّة، التي وافق على إصدارها اتّحاد الكتّاب العرب العام (1991م)؛ وصدرت متزامنة مع مجموعة أخرى (الاحتراق) كتبت قبلها، وصدرت في طباعة خاصّة العام (1992م).

شكراً سنان...

***