كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن الإصدار الثاني لصحيفة تشرين في 17 نيسان 1976

صبري عيسى

بعد تعيينه مديراً عاماً و رئيساً لتحرير جريدة تشرين بنهاية عام 1975بدأ الأستاذ جلال فاروق الشريف بتوضيح رؤيته لجريدة عصرية تُعبّر عن رغبات الناس وتلبي اهتماماتهم، و لم يكن الأمر سهلاً بسبب عدم وجود آلات طباعة متعددة الرؤوس تُصلح لطباعة جريدة بـ 12 صفحة دفعة واحدة كما أرادها المرحوم أبو الفضل و أعني الأستاذ جلال، والخيار المتوفر هو أن يتم طباعة الجريدة بالطريقة تفسها التي تُطبع بها جريدتا الثورة والبعث أي بطريقة طباعة (التيبو) وهي طريقة الطباعة النافرة على آلة طباعة الدوبلكس والكليشيهات وهو أسلوب انتهى زمنه في أكثر الدول تخلفاً، وقلت لأبي الفضل: من غير المعقول أن نبدأ من حيث ينتهي الآخرون، ولابد من الطباعة بآلات الأوفست، وتوجد هناك آلة طباعة أوفست متعددة الرؤوس في الإدارة السياسية مخصصة لطباعة مجلة جيش الشعب، فقال لي اذهب إلى الإدارة السياسة و ادرس مع المعنيين هناك في إمكانية الطباعة عندهم. طبعاً آلة الطباعة الموجودة هناك يمكن أن تعطينا صفحة جريدة بقياس صفحة ونصف من حجم صفحات الصحف التي كانت تصدر وقتها، وتتكون من تسعة أعمدة بدلاً من ثمانية كما هو حجم الصفحة التقليدي، وفي هذه الحالة سيكون لدينا قياس مختلف بحجم صفحة أصبحنا نطلق عليها (ملحفة).
وقمت باختيار الطاقم الذي يشرف على تحضيرات الطباعة في مطابع الإدارة السياسية، وكتبت اسم كل واحد والى جانبه الراتب الذي يتقاضاه، وقلت لأبي الفضل: يمكن أن نحصل على طباعة أفضل وأنظف إذا دفعنا لهؤلاء العمال راتباً يعادل الراتب الذي يتقاضوه من إدارتهم، فوافق بحماس وحصل ذلك، وعند صدور العدد الأول بشكله الجديد الذي صممته أنا في 17 نيسان 1976، قام مدير الإدارة السياسة بفرض عقوبة على الذين تعاونوا معنا بحجة أن طباعة تشرين كانت أفضل طباعياً من كل مطبوعات ال‘دارة السياسية.
وكنا نعمل في غرفتين ضمن مطابع جريدة الثورة بلا تكييف أو مدافئ، وعلى بعد أمتار قليلة كانت هناك أربعة أجهزة تنضيد رصاصي تنبعث منها أبخرة الرصاص الناجمة عنها، وعلى بعد أمتار منها كان الفرن الرصاصي الذي يتم فيه تذويب رصاص الأسطر بعد الحصول على بروفة جاهزة لتثبيتها على صفحات الجريدة، وحصل تسمم جزئي لبعضنا، ومنهم أنا بسبب تلك الأبخرة.
بدأنا الإعداد لإصدار جريدة تشرين بحلة جديدة، قمت أنا بتصميم صفحاتها وبـ12 صفحة بالحجم الكبير الذي تميزت به الجريدة، و أول عمل بدأت به هو تكليف الخطاط الفنان المرحوم توفيق حبيب بكتابة ترويسة الجريدة التي تفنن بها بإبداع متميّز تحولت إلى إحدى الثوابت التي ميّزت الجريدة، و الأمر الآخر هو البحث عن شعار خاص للجريدة، وطلبت من الفنان الكبير الصديق أسعد عرابي بتصميم شعار الجريدة الذي رافق ترويستها حتى اليوم.
كان الأستاذ جلال مديراً للمعهد الإعلامي، وكان مقره في شارع بغداد بجانب معهد اللاييك، وتحوّل مقر المعهد إلى خلية نحل للإعداد لإصدارالجريدة، وفي غرفة واحد كانت تضم أهم الكوادر التي أسست لإصدار الجريدة، وعلى رأسهم المرحوم الأديب الأستاذ عادل أبوشنب والناقد المرحوم محي الدين صبحي و الصديق والزميل الأستاذ تميم دعبول الذي انضم إلى القسم الثقافي وشكل أهم رموزه، وطبعاً أذكر بكل تقدير الحضور الكبير للدكتور غسان الرفاعي الذي شغل رئيس قسم الدراسات وكاتب لزاوية (يوميات نزقة) الأشهر في تاريخ الصحافة السورية، و أصبح لاحقاً رئيساً للتحرير بعد إقالة المؤسس الأستاذ جلال فاروق الشريف.
إهم إنجاز أُشير إليه هو قيام الأستاذ جلال بتكليف الكبيرين الأستاذ محمد الماغوط والأستاذ زكريا تامر بكتابة زاوية يومية بالتناوب بينهما على الصفحة الأخيرة تحت عنوان (عزف منفرد)، وكان الاثنان يحضران بالتناوب يومياً لتصحيح بروفات زاويتهما، وبسبب ضيق المكان كنت أترك لهم مكتبي ليجلسا عليه في ساعة مودة أعتز بها.
ويقول الأستاذ جلال مستهلاً الإصدار الثاني للجريدة في 17 نيسان 1976:
(كانت الصعوبات أكثر من أن تطاق، صعوبات مادية كبيرة. لا مبنى. لا مكاتب. لا كوادر. لا أنظمة لا ميزانية. لا مطابع. وصعوبات معنوية أكبر. وعدم قناعة بالممارسات الإعلامية السائدة. مع عدم ثقة بإمكان التغيير.
كانت البداية في نظري من تحت الصفر. وكان هذا كافياً لجعل أجرأ مغامر يرفض هذه المحاولة..
غير أن إغراء المهنة الذي استيقظ كان كبيراً أيضاً. كان لا يقاوم حتى و لو كانت المحاولة ضرباً من المستحيل.
بل كان ثمة ما هو أقوى من هذا الإغراء. إنه الثقة، الثقة بالبلد و بإمكانياتها. و بأن هذه الإمكانيات إذا ما أتيح لها أن يحسن توظيفها يمكن أن تقدم ما هو جدير بها حقاً. من هنا كانت البداية الأولى:
لم نعد متشائمين ولكننا لم نتوصل بعد إلى أن يغمرنا الأمل الكبير. غير أن الثقة عادت إلينا وهي تكفي لمتابعة الطريق.
شعورنا بأن الكثيرين بدأوا يثقون بمحاولتنا يقدم لنا اليوم أفضل حافز على الاستمرار. عشرات المواهب الصحفية الناشئة التي تأتي إلينا تعطينا دماً جديداً. رؤية العديد من الذين يريدون لعملهم الصحفي أن يتنفس في مناخ صحي تدفعنا إلى الأمام. هذه هي بتواضع مبررات محاولتنا.)
صعوبات العمل:
وعن صعوبات العمل أُشير إلى أن عدم وجود مقر مناسب للجريدة أرهقنا جميعاً، وكان علينا أن نتوزّع العمل بين مقر المعهد الإعلامي في شارع بغداد تحت مقر نقابة الفنانين، وبين دوّار كفرسوسة حيث المطبخ الذي نجهّز فيه مراحل إصدار الجريدة، و استعنا فيما بعد بمكنات تنضيد رصاصي في إحدى مطابع الحلبوني، وكان العمل في غاية الصعوبة!
وكان العمل ممتعاً مع الكبير الأستاذ جلال فاروق الشريف (أبو الفضل)، وكان لدينا مشوار يومي بعد انتهاء العمل في الصفحة الأولى والصفحة 11 حيث نترافق معاً لأخذ الصفحتين إلى مطابع الإدارة السياسية، و انتظار أكثر من ساعة لإنجاز عمليات التصوير والمونتاج وللتحضير للطباعي، وشكلت ساعة الانتظار متعة حقيقية لي يالاستماع إلى أحاديث الأستاذ جلال عن تجربته الحزبية والأدبية والصحفية، تنتهي باستلامنا النسخ الأولى من الجريد ة من آلة الطبع، وخلال نصف ساعة نتصفح الجريدة ونتأكد من خلوها من أي أخطاء طباعية، يقوم بعدها أبو الفضل بإعطاء إذن السماح بالطباعة، ونخرج معاً بين الثانية و الثالثة صباحاً حيث يوصلني إلى بيتي المجاور لساحة العباسيين، ويذهب هو إلى بيته المجاور للسبع بحرات.
كانت ليلة إصدار أول عدد من الجريدة بحجمها الجديد وعدد صفحاتها حدثاً صحفياً متميزاً، إذ كان الأول في تاريخ الصحافة السورية، وكنا في غاية السعادة عندما استلمنا العدد الأول من الجريدة من آلة الطباعة، وبقينا أكثر من ساعة ونحن نتصفحه بمتعة، وكانت الساعة تقارب الرابعة صباحاً، حيث أوصلني الأستاذ جلال الى بيتي في ساحة العباسيين قبل أن يتوجه الى بيته المجاور للسبع بحرات.
في العاشرة صباحاً، ولم أنم حينها اكثر من ثلاثة ساعات، أسرعت في الذهاب إلى مكتب الأستاذ جلال الذي قام باتجاه الباب مسرعاً وعانقني بمودة وهو يقول: المعجزة حصلت ياصبري، خلال ساعتين لم يبق في السوق نسخة واحدة من أصل خمسين ألف نسخة طرحناها في السوق، و أنا أتلقى عشرات الهواتف مهنئة، و موزعين يطلبون المزيد من النسخ. فقلت له هل نزيد عدد النسخ غداً؟ قال لا، اترك الجميع يبحثون عنها، فهذه أفضل دعاية للجريدة!
إصرار الأستاذ جلال على مرافقة إصدار الجريدة بشكلها وحجمها الجديد وبعدد صفحاتها في ذكرى عيد الجلاء، كان يحمل رسالة أراد منها توجيه رسالة للجميع أن 17نيسان هو العيد الوطني الأول في سورية، وهذا يحمل أيضاً الإصرار في ان تكون جريدة تشرين منبراً حراً لكل السوريين، مع أنه كان أحد مؤسسي حزب البعث لم يختر 7 نيسان وهو عيد ميلاد الحزب موعداً لإصدار الجريدة.
محطات:
مساء أحد الأيام و أثناء الإعداد لإنجاز الصفحة الأولى بإشراف الصديق المرحوم الأستاذ جبران كورية، جاء الأستاذ جلال وهو منشرح الصدر والفرح على وجهه، وقال للجميع أنا سأخذ صبري منكم نصف ساعة ونعود، وركبت بجانبه في سيارته و أنا ُمندهش، قال لي اليوم وقّعت عقد شراء مقر للجريدة بمليونين ونصف سآخذك لرؤيته، وبالفعل وصلنا المبنى الذي تشغله الجريدة الآن على كورنيش الميدان، وقمنا بجولة على امتداد المساحة الطابقية الكبيرة على ضوء قداحة كانت بيده وعلى أنوار الشارع التي تنير نوافذ البناء المفتوحة من كل الجهات، و كنت أنا أول من دخل المبني برفقة "أبو الفضل". المفارقة أن المرحوم الأستاذ جلال لم يدخل المبنى مرة أخرى، وكان يملك طموحاً عريضاً يريد تحقيقه في إصدار جريدة منفتحة مهنية تلبي رغبات كل الناس، لكن الجهات الرسمية لاتريد اعلاماً يتصالح مع الناس ويعبر عن همومهم وتطلعاتهم، و أقيل المرحوم جلال فاروق الشريف بعد أشهر، و للتذكير أقول إن هذا الرجل أسس جريدة البعث وبعدها جريدة الثورة، وكان من مؤسسي حزب البعث عندما كان يعبرعن طموح الناس ويدافع عن مصالحم ضد (السلطات الرجعية).
كان أبو الفضل يداوم في معهد الاعداد الإعلامي ويقوم بالإشراف على الصفحات غير الإخبارية هناك، وكنت أتواجد إلى جانبه مع الأساتذة عادل أبو شنب ومحي الدين صبحي ود. غسان الرفاعي مع مجموعة من الزملاء. وفي نهاية كل شهر، يقوم بتقديم بون الراتب الذي أتقاضاه لي بعد أن يوقع عليه أولا ثم يقول لي ضع الرقم أنت، ويتصل بالمدير المالي ويقول له هات راتب صبري هو عندي يشرب القهوة، طبعاً كنت أتقاضى الراتب نفسه الذي أتقاضاه من جريدة الثورة حيث كنت مُندباً منها.
كثيراً ما يرسل لي طلبات توظيف للتدريب والتعيين في القسم الذي أشرف عليه، وكان يتصل بي قائلاً: أرسلت لك فلاناً، افحصه فإذا وجدت لديه مواهب نستفيد منها اقبله وسيكون محسوباً عليك إذا وافقت على تعيينه، وتستطيع ان ترفضه وتتجاهل توقيعي!
العمل ليلاً ونهاراً أشعرني بالتعب، و عندما شعرت أن هناك غيوماً سوداء بدأت تحلق فوق أجواء العمل في الجريدة مما يؤكد قناعتي أن شياطين الظلام لايريدون لتجربة تشرين النجاح و إنهم قرروا إنهاء تجربة الأستاذ جلال، قررت إنهاء ندبي إلى الجريدة والعودة إلى عملي الأساسي في جريدة الثورة، وعارضني الأستاذ جلال بحماس، وفي مكتبه في المعهد قال لي: خليك معنا وسأوقّع معك عقداً كخبير إعلامي في الجريدة، واترك جريدة الثورة. و أمام اصراري، قال لي مودعاً:
سأقول شهادة حق عنك أمام الجميع، إنه مافي مرة اختلفت فيها معك إلّا و اكتشف بعد ساعات إنّك كنت على حق، و إنني بعد سنوات طويلة من العمل الصحفي تعلمت منك ماكنت أعرفه سابقاً، أشكرك على جهودك وتعاونك معي، أنا سأرسل كتاب شكر وتقدير لك إلى جريدة الثورة.
لكن الحقيقة أنا كنت أشعر إن الغيوم السوداء التي كانت تحوم في سماء العمل لن تترك الأستاذ جلال ينجح في مشروعه في وجود جريدة تحقق المصالحة بين السوريين وصحافتهم التي فقدوها بعد تأميم الصحف ومصادرة مطابعها بعد 8آذار 1963، وتمت إقالة الأستاذ جلال بعد فترة قصيرة من تركي لها..!
حاشية:
لحسن الحظ لم تقم الإدرات المتعاقبة على إدارة ورئاسة تحرير جريدة تشرين بتغيير اللوغو الخاص بها كعنوان وشعار، فبقي حتى الآن يتصدر واجهة طبعتها الالكترونية، بينما وللأسف قام بعض عديمي الخبرة من الذين يسبقون اسمهم بحرف (د) بتغيير لوغو وشعار جريدة الثورة، خاصة أن عنوان جريدة الثورة كان متميزاً في الشكل الذي أبدعه أيضاً الفنان الخطاط المرحوم توفيق حبيب حيث حقق معجزة التوازن البصري بين الألف واللام أول الكلمة والتاء المربوطة في آخرها، واستبدله هذا (الجهبذ) بعنوان رديء مكتوب بالخط الفارسي، كما قام بإلغاء شعار الجريدة الذي صممه المبدع الفنان الكبير المرحوم عبد القادر ارناؤوط، مع أن كل صحف العالم تحافظ بحرص على ثوابتها، ومثال عنوان جريدة الأهرام أقرب إلى المقارنة، حيث تجاوز عمره متصدراً ترويسة الجريدة أكثر من قرن ونصف!
--- الصورة (أعلاه) التقطت في 16 نيسان عام 1976ليلة صدور الجريدة بـ 12 صفحة، وعلى يمين الصورة يجلس الأستاذ جلال، و إلى جانبه واقفاً الأستاذ عادل أبو شنب، وعلى المكتب الآخر يجلس الأستاذ جبران كورية وهو غير ظاهر بالصورة، و أنا أقف بجانبه.