كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

شيخ مشايخ الطرق الصوفية في خدمة السلطان

الدكتور عبد الله حنا:

الصوفية وطرقها مرت عبر تاريخياً بمراحل. وجاء وقت في مدن بلاد الشام كانت الطرق الصوفية شبيهة بالأحزاب السياسية بمختلف ولاءتها. و وقفت معظم التيارات النهضوية في وجه أمواج الطرق الصوفية المكتسحة لأفئدة العامة ولا يزال لها مواقعها. ولا أكتمكم سراً أن كاتب هذه الأسطر "عندما تضيق به الدنيا" يتمنى أن يقيم حفلة ذكر. و لنترك تاريخ الطرق الصوفية العريق ونسلط اليوم الأضواء على أحد مشايخ الصوفية، الذي كسبه الاستبداد السلطاني (عبد الحميد) وهو:
محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي بن الشيخ حسن أحد مشايخ الرفاعية، ولد عام 1849 في خان شيخون، ورث عن والده مراسم الطريقة الصوفية الرفاعية وصعد بسرعة نحو الأعالي وحطّ الرحال في قصر السلطان عبد الحميد. هذا الشاب الذكي اللامع إنتقل إلى جسر الشغور ليتولى نقابة الأشراف فيها وهو لا يزال ابن تسع عشرة ربيعاً. وبعد أن اكتسب مؤهلات الطريقة إنتقل إلى حلب ليتولى نقابة الأشراف فيها منافساً ومزيحاً لآل الكواكبي. وبعد أن إنتشر صيته يمم عاصمة الخلافة إستنبول، و تمكن بخبرته من الوصول إلى السلطان، الذي كان يبجث في الوقت ذاته عن شخصية صوفية مرموقة تقف إلى جانبه وتساعده في كسب قلوب العامة. 
المتداول بين الناس الواعين في حلب أن محمد أبو الهدى الصيادي كان يُطلَق عليه اسم محمد المعراتي، نسبة إلى معرة النعمان. امتهن ضرب الشيش وشارك في حلقات الذكر وسار مع والده، الذي كان يتقن قرع الطبل في التجمعات الصوفية. وقد استطاع أبو الهدى الصيادي، بما ملكه من إمكانات، أن يحتلّ منصباً دينياً رفيعاً (نقابة الأشراف) في حلب، ومنها إتجه إلى عاصمة الخلافة معلناً انتسابه إلى الشيخ الصيادي من مريدي الشيخ أحمد الرفاعي صاحب الطريقة الرفاعية المشهورة في عالم الصوفية. ومن إستنبول أخذ يتسقط أخبار بلاد الشام، وهو العليم بها، من القادمين إلى إستنبول. وبعد أن يرتب أفكاره وينسقها يذهب إلى السلطان عبد الحميد زاعماً أمامه أنه رأى مناماً يروي كذا وكذا.. وبعد مدة يكتشف عبد الحميد من خلال التقارير القادمة من الشام أن "منامات" أبي الهدى صحيحة. فازداد إعتقاداً "بكراماته"، فعينه شيخ مشايخ الطرق الصوفية. [98].
وهذا التحالف بين الشيخ أبو الهدى والسلطان عبد الحميد لم يكن بعيداً عن عملية تسييس الدين ووضعه في خدمة العرش العثماني. ننقل هنا ما كتبته مجلة لسان الحال البيروتية في آذار 1886 من أن شيخ مشايخ الطرق الصوفية أبو الهدى الصيادي الرفاعي كان ينادي بأن "من عصا الخليفة وخالف أمره فقد عصا الرسول وعصا الله".
ولقاء خدمات أبي الهدى للسلطان ردّ السلطان الجميل بمثله فأعفى العائلة الرفاعية من الخدمة العسكرية، وقدّم لها بذلك إمتيازاً هاماً في ذلك العصر. جاء في مجلة لسان الحال عدد آذار 1886 الخبر التالي: 
"إنه بناء على إسترحام سيادة السيد الشيخ حسن أفندي الصيادي الرفاعي المكرّم والد العالم الشهير صاحب السماحة السيد أبو الهدى أفندي صدرت إرادة سيدنا ومولانا السلطان الأعظم بإستثناء العائلة الرفاعية من خدمة العسكرية. و إنها لعائلة كريمة مبرورة ذات فضل وكرامة تلازم الدعوات أناء الليل وأطراف النهار لحضرة صاحب الخلافة الكبرى والملك الأسمى". [99].
وهكذا جرى تبادل للمنافع بين السلطان عبد الحميد وأبي الهدى الصيادي. فعبد الحميد أغدق على أبي الهدى المال ومنحه السلطة. وأبو الهدى وصف السلطان عبد الحميد بأنه "الخليفة المعظّم ظلّ الله في العالم، وارث سرير خلافة سيد المخلوقين نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ناصر الشريعة الغراء، وناشر ألوية الطريقة السمحاء خادم الحرمين الشريفين إمام المشرقين والمغربين..". [100]. 
ولا شك أن صعود أبي الهدى وصلاته القوية بالسلطان عبد الحميد هو حصيلة المناخ الفكري السياسي السائد في عصر عبد الحميد ودولته الاستبدادية. وقد نجح السلطان عبد الحميد وبمساعدة مشايخ الطرق، في كسب أكثرية العامة إلى جانب سياسته في جعل الدولة العثمانية دولة الخلافة والإستناد إلى المسلمين في العالم لمجابهة "الغرب" والحفاظ على الدولة العثمانية. ومع ذلك تحولت الدولة العثمانية (الإقطاعية في نظامها الإقتصادي) في عهد عبد الحميد إلى دولة نصف مستعمرة خاضعة لسيطرة الرأسمال الافرنسي والبريطاني والألماني.
وقد أجرى السلطان عبد الحميد الأرزاق على مشايخ الطرق وبذل المساعدات المالية للمدارس الدينية. ونجح في الظهور أمام ثلاثمائة مليون مسلم بأنه خليفة المسلمين مقيماً البرهان على قوة شعوره الديني ببناء سكة حديد الحجاز، [101] التي نفذتها الخبرة الألمانية المتطلعة بأبصارها لإستثمار الدولة العثمانية. و أصاب السلطان عبد الحميد ببناء الخط الحديدي الحجازي عصفورين بحجر واحد: إظهار نفسه كساع لخدمة حجاج بيت الله الحرام عن طريق نقلهم بالقطار المريح بدل قوافل الجمال، والأمر الثاني فرض هيبة الدولة ومدّ سلطانها إلى قلب الجزيرة العربية. 
ولم يقتصر السلطان عبد الحميد في ترسيخ دعائم حكمه على رجال الدين فقط، بل استند أيضاً على المؤهلين خارج دائرة أصحاب العمائم ومن هؤلاء أحمد عزة باشا العابد الدمشقي (1848 – 1924)، الذي أتقن اللغة الفرنسية في بيروت. ولهذا عًيّن "رئيساً لقلم المخابرات التركية والعربية في ولاية سورية".
وقد أُعجب السلطان عبد الحميد بمهارته في كتابة التقارير فاستدعاه عام 1895 إلى إستنبول وجعله كاتم أسراره و أمين سره الخاص، وحاز على لقب باشا. و عن هذا الطريق تمكن من جمع ثروة كبيرة بفضل معرفته للغة الفرنسية و إتصاله بالشركات الأجنبية الساعية إلى توظيف أموالها في الدولة العثمانية. [102].
وكان لعزة باشا دور أساسي في بناء الخط الحديدي الحجازي، الذي وصل دمشق بالمدينة المنورة [103].