كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

محطّات في الذاكرة.. د. أحمد عمران الزاوي

تعتزم صحيفة فينكس, نشر محطّات في الذاكرة, تباعاً, مع قامات سوريّة وعربية..
هذه المحطّة, يكتبها المحامي البحاثة الموسوعي الدكتور أحمد عمران الزاوي..

***

 

منذ أيام, زارني في مكتبي الصحفي الأديب الأستاذ أُبيّ حسن, وطلب مني أن أضع تعريفاً شاملاً لسيرتي الذاتية منذ البدء –وإلى الآن- لأنّه صمم على إصدار كتاب يتضمن سير بعض الأدباء.

طبعاً, شكرته لأنّه, وضعني في قائمة اهتماماته. ولكنني, حينما خلوت إلى نفسي, أدركني الارتباك, وقلت:

إن كانت الغاية المرجوة من أية كتابة, هي أن تتحقق بها فائدة للناس, فأية فائدة لأي أحد من سرد الصفحات عن مسيرة العمر التي اجتازها سواه؟

خاصّة إن كان القدر قد وضعه على درب من الأشواك والحفر والنواتئ والكروب. ولكنني –تجاه ذلك الصدق من صديقي أُبيّ- تحررت من الارتباك والتردد, وقلتُ: إن لم يكن في سيرتي ما ينفع الناس, فليس فيها ما يضرّ. وفي كلّ حال, لن أنسى واجب الاعتذار من القارئ الذي لم ير فيما يقرأ أيّة فائدة أو أي نهج يصلح أن يكون قدوة.

بعد ذلك, حزمت أمري, وصممت على سرد مازلتُ أتذكره من عمري الاجتماعي.

 

أنا الآن بين فكي التسعين, فما يفصل بين رأسي وبينها غير خطوة من الزمن (تولدي الحقيقي 1929م, أمّا في السجلات الرسمية 1930م).

لقد وُلدت في أرض من الجليد.. صحيح أنني أحمل بين جوانحي وفي جوارحي انتماء دينياً. ولكن جلمود الجليد كان يغمرني من أعلى هامتي إلى أظافر قدمي.

ذلك الجلمود, هو الفقر الذي ورثه الأبناء عن الآباء, مضمخاً بالقناعة أن تعيش هذه الدنيا فالذي يقضي عمره بإيمان صادق سوف يكون الأسعد في الآخرة, وأنّ حرمانه من طيباتها سوف يجد العوض عنه عند الله في مغفرة منه وجنة عرضها السماوات والأرض(3/133), لأنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون, وعدا عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (9/111).

منذ أن بدأتُ أرى وأفكّر, تساءلت لماذا امتلأت حياتنا بالفقر والمعاناة, وامتلأت حياة الآخرين بالهناء والإكتفاء؟

كان التساؤل في البداية همساً بيني وبين نفسي, ثم ما لبث أن اجتاز جدار الهمس, ليصل إلى آذان الأهل الذين سارعوا على الفور وأكدوا جازمين إنّ الكفاية والامتلاء لن يكونا في هذه الدنيا, بل في الآخرة التي سوف يكون فقير هذه الدنيا, هو الغني, وتعيسها هو السعيد. وما على التعساء أمثالنا غير الصبر والتقوى, لأنّ الله يقول: "فاصبر إن العاقبة للمتقين" (هود- 49).

في هذا الجليد نبتنا, أخي جابر وأنا.

وحينما فتحت أول مدرسة في قريتنا, كان لأخي جابر وحده حظ التسجيل فيها, أما أنا, فقد أُبعدتُ واستبعدتُ.

أدركت فيما بعد أسباب ما جرى .فشقيقي جابر, الذي كان يكبرني بثلاث سنوات, كان ضعيف الجسد, ويعاني من مرض في المفاصل يحول بينه وبين مجابهته مصاعب الحياة, لذلك:

-بقي أخي في المدرسة -وألحقني الأهل بتاجر "الجبنة", إذ كان عليّ أن أرافقه في القرى عندما كان يشتريها من الآهالي. وأن أحملها على الدواب إلى صافيتا, فأسلمها إلى التاجر "زبون معلمي" الذي سوف يحاسب معلمي ويسدد ثمنها إليه-.

وبعد مدة لم أعد قادراً على تحديدها بالضبط (الأرجّح أنها عام 1937م), دفع بي والدي إلى أحد التجار الذي كان يمارس مهنته في أحد الأحياء المهملة في طرابلس (بعل السراقي). اقتصرت مهمتي هناك على حراسة الدكان بغياب التاجر دون الإذن لي بالبيع, لأنّ البيع كان فوق مستوى عمري وفكري آنذاك.

بقيت في بيت التاجر –أكلاً ونوماً وعملاً- مدة تقارب السنتين.. ذات يوم, حضر عمي, وأبلغني رغبة الأهل في عودتي.. لماذا؟.. لم يخبرني عمي عن سبب هذا الاهتمام المفاجئ, وعن هذه الذكرى التي ظلت غائبة عني مدة طويلة.

ولكن, حينما وصلت, وجدت بيتنا مكتظاً بالأقرباء والأصدقاء, وبينهم خالي الذي كان قاضياً شرعياً لصافيتا وطرطوس.

أمرني خالي –وكان يتصدر الحاضرين- أن أجلس إلى جانبه, ثم انحنى نحوي طالباً أن أتمالك نفسي عندما أسمع النبأ. قال لي: إنّ أختك الكبرى الشاعرة "مارية" وأخاك "جابر" وابن عمك "محمد" قد ماتوا جميعاً, وهذه إرادة الله التي لا ترد (ماتوا ثلاثتهم خلال ثلاثة أسابيع(.

تظاهرت بالصبر على النار التي اندلعت في أحشائي على الفور. وفي الليل ارتفعت درجة الحرارة عندي إلى ما فوق الأربعين, فأخذني والدي إلى عند أحد الأطباء في طرابلس, حيث قام بفحصي وتزويدي بالدواء اللازم.

منذ ذلك الوقت, بدأ التغيير الجوهري على حياتي, فوالدتي أصرّت على أن أتعلم مكان أخي, وبقية الأهل –بمن فيهم الوالد والخال والأعمام- كانوا على عكس رأيها, لأني بقيت الوحيد الذي يجب أن تلتف من حوله عواطف الأهل, ولا يتسنى ذلك إلّا ببقائه بينهم والمكوث معهم.

ولكنّها أصرّت, وقالت: خير لي لو مات من أن يبقى دون علم.

تجاه تشبثها بموقفها, قنعت وقنع الأهل.غير أن مانعاً, قام دون تحقيق هذا الأمل, إذ رفضت المدرسة الرسمية أن تسجلني إلّا في الصف الثالث الابتدائي.. كنتُ, إذ ذاك تجاوزت العشر سنوات, وكانت ذاكرتي تتأجج مثل النار, حيث حفظت عن ظهر قلب "عرائس المروج" وفصولاً من كتب "المنفلوطي", الأمر الذي حتم عليّ أن أرفض مشيئة المدرسة.

في هذه الأثناء, وردنا اقتراح من منير العباس الذي كان يرتبط مع عائلتنا بقرابة رحمية, هو أن أنضم إلى مجموعة من أبناء المشايخ الذين سعى لهم عند مدير الأوقاف "جميل الدهان", فأمّن قبولنا في "الكلية الشرعية" و"الجمعية الغراء" بدمشق. فقبل أهلي, وقبلتُ (كان ذلك نحو عام 1944م).

كنّا مجموعة من أبناء المشايخ, من أرياف اللاذقية وطرطوس وصافيتا, وكان لقاؤنا الأول في بيت الزعيم, حيث قال لنا المرحوم والده: "آباؤكم مشايخنا, وأنتم سوف تصبحون مشايخ أبنائنا".

لم أبق في "الجمعية الغراء" مدة طويلة, بل طردت منها طرداً بعد ثلاثة أشهر, إثر الحادثة التالية:

كنت أتمشى مع رفيق لي من الزبداني, ننتظر انتهاء التذكير الذي يمتد أكثر من ساعة قبل صلاة الجمعة, فقلت لرفيقي: هل كان مثل هذا الوقت يهدر عبثاً في أيام النبي؟*

فحمل هذا القول, فوراً إلى "الدقر" مدير "الجمعية" الذي استدعاني على الفور وطردني من المدرسة, متهماً إياي بأنني أنتمي إلى الفكر الوهابي.

في الحقيقة لم أكن آنذاك قد سمعت بالوهابية! ولكنّه أصرّ على موقفه, فعدتُ أدراجي إلى بيت أهلي أجرّ الخيبة ورائي. ذلك الحادث, الذي كان بالنسبة لي ولأهلي مبعثاً لليأس والألم, تبيّن فيما بعد أنّه كان أوّل لبنة في بناء حياتي الثقافية.

فقد علمنا أنّ القسيس حافظ عبود, قد افتتح الإنجيلية في حمص, وأنّه يقبل الطلاب حتى ولو لم يكونوا قد اجتازوا المرحلة الابتدائية. فذهبتُ مصطحباً مبلغ 500 ل. س, وهو الذي كانت فرضته المدرسة لقاء الإقامة الداخلية والتعليم لمدة سنة دراسية كاملة. وكان والدي قد أمّن هذا المبلغ من ثمن قطعة من الأرض باعها بسبعمائة ليرة سورية, خصص لي منها مئة ليرة للنفقة الشخصية و500 ل.س للمدرسة, وأبقى مئة لديه, من أجل الإنفاق المنزلي.

وعندما التقيتُ بالقسيس حافظ, أبلغني وجوب تسجيلي في الصف الأول الإعدادي, ولكنّه بعد أن اطلع على قراءتي وكتابتي ومحفوظاتي رضيّ أن يكون تسجيلي في الثاني الإعدادي.

فقبلتُ شرط أن أتقدم بالفحص بعد شهرين, فإن نجحت أنتقل إلى الثالث, وبعدها بشهر أتقدّم للفحص, فإن نجحت أنتقل إلى الرابع أي "الكفاءة", فقبل مني هذا القول, قبولاً استهزائياً, يقيناً منه أنّها أضغاث أحلام وغرور شبابي.

ولكنني صمّمت وقدمت ونجحت, وحصلت على الكفاءة في ذلك العام (1945م). وعندما جئت لتوديعه, أصرّ على بقائي في المدرسة, فاعتذرت بسبب الفقر الذي لم يترك لدى أهلي ما يمكن أن يسدد النفقات المدرسية. فقال لي: تبقى معلّماً, تُدرّس الأدب العربي لصفيّ "الكفاءة" و"العاشر" وتتابع دروسك لنفسك.

لم أستطع تحديد سبب هذا الموقف منه! أكان تشجيعاً لي؟ أم كان إعجاباً بتصميمي وإمكانياتي؟د. عبد اللطيف اليونس

فقبلتُ, وصرتُ أستاذاً أدرّس الأدب العربي في الصفين المذكورين, وكنتُ في التحضير أعتمد على ذاكرتي التي كانت قوية جداً, بحيث كنتُ أستطيع احتواء النصوص وشرحها في ذاكرتي قبل إلقائها إلى الطلاب في السنّة التالية.

قُبلتُ في وزارة المعارف أستاذاً, بعد نجاحي في الاختبار, وبسبب نقص الكفاءات العلمية في ذلك الوقت.كان تعييني في دير الزور(1946م), حيث كان رئيساً لمحكمة الاستئناف فيها القاضي محسن العباس.

هنا: حدثت معي حادثة ظلت تلسعُ ذاكرتي وماتزال حتى الآن. خلاصتها: إنني انطلقتُ من مشاعري الطفولية العشائرية, فوضعتُ بياناً منشوراً, هاجمتُ فيه المرحوم الدكتور عبد اللطيف اليونس, في الحقيقة لم أكن أعرفه ولا أعرف عنه إلّا ما التقطته مشاعري العشائرية  من أفواه الحاقدين.

كان يبني بيته الحالي, فقلتُ في البيان: "إن الأهرام كان للفراعنة قبوراً ولم تكن لهم قصوراً" وغير ذلك من العبارات الجارحة.

طبعتُ المنشور في إحدى مطابع دير الزور, وأرسلتُ مئات النسخ منه لكي تُوزّع في صافيتا وفي النواحي والقرى التابعة لها.

بعد مدة طويلة, تعرفتُ على هذا الشخص, فتبيّن لي أنّه غير ما سمعته عنه, بل هو أشرف وأكبر وأنبل من جميع ماوردني من أخباره.

بعدها قامت بيننا صداقة حقيقية ظللتُ بسبب ما ارتكبتُ الجانب الأضعف فيها, لم يعاتبني على ما بدر مني, ولم ينبث عنه بكلمة. لذلك كنتُ كلما ألتقيه, أُكبرُه وأزداد تأنيباً لنفسي.

وحينما أصدرت أول كتاب, انبرى في الطليعة من كتّاب المقدمة التي جاءت وشاحاً أرجوانياً اتّشح به كتابي.

تلك كانت نقطة نظام, لها الحق أن تقطع الحديث, وتدلي بدلوها متى تشاء.أعود بعدها, لإكمال السيرة..

درستُ البكالوريا على نفسي, ودرستُ الحقوق بصفوفه الأربعة على نفسي, ولم أكن أحضر إلى الجامعة إلّا لتقديم الامتحان, ثم مارستُ مهنة المحاماة مدة خمسين عاماً, وتقاعدتُ في السنة الخامسة بعد الألفين, ثم انصرفتُ بعدها إلى المطالعة والتأليف.

قبل الاسترسال هنا, أودّ سرد حادثتين لي مع المرحوم الدكتور محمد الفاضل:

منذ بدئه, بدا أنّ هذا الشخص يتمتع بمواهب استثنائية جداً, ذكاء وقّاد, وفهم سريع, وطموح جبّار. ظلّ محافظاً على موقع "الأوليّة" في جميع مراحل الدراسة "إعدادية و"ثانوية" و"جامعية".. يُذكر -كما يُروى- أنّ والده حضر إلى عند أحد الزعماء راجياً معونته على إرسال ابنه إلى باريس لنيل الدكتوراه, فأجابه هذا, بالحرف: "يا إبراهيم إذا كان ابنك أمير و ابني أمير, فمن يرعى الحمير؟"**

بعد ذهابه إلى باريس, وكانت شهرته قد ملأت الآفاق, أرسلتُ له إلى باريس كتاباً ملأته بالثناء على مواهبه. فأجابني بكتاب تحدث فيه عن مرارة الحياة التي كابدها وأهل بيته, وروى أنّه في إحدى المرات وفيما هو ذاهب إلى المدرسة في قرية "بيت شباط", أراد كالعادة اجتياز نهر الغمقة, الذي كاد تدفقه أن يُغرقهُ لولا استعانته بواحد من شرايين جذر إحدى الأشجار القائمة على الشاطئ والذي كان يمتدّ إلى النهر. وأردف :إنّه يتمنى هذه البداية لجميع التعساء لكي تكون حافزاً يُحفّزهم على التغيير.

كان أوّل لقاء بيننا, يوم قدمتُ للتسجيل في الصف الأوّل بكلية الحقوق, عرّفه عليّ شقيقه الذي كان يرافقني, وقد لمحتُ عليه مظاهر الدهشة إذ ذاك. وبعدها علمتُ إنّ سبب اندهاشه هو الفرق الكبير –الذي لم يكن يتوقعه- بين رسائلي ومظهري التعيس.

وقبل مغادرة الحديث عن هذا العملاق, أذكر أنني التقيتُ به في خصومة مهنيّة (أوائل ستينات القرن الماضي) أمام المحكمة في طرطوس.

كانت القضية أمام محكمة الجنايات.. كنتُ أمثّل فيها ورثة القتيل, وكان يمثّل القاتل.تحدد موعد المرافعات, وفي المقدمة, كانت مرافعة الإدعاء.نديم محمد

حرتُ في أمري, كيف لي أن أرافع ضدّ هذا العملاق, فهو أستاذي في كليّة الحقوق, وهو أستاذ مبهر على مستوى الوطن. وهل أستطيع الوقوف تجاهه؟

عبقريته, وقصوري تجاهه, دفعا بيّ إلى كتبه –وخاصّة الحقوق الجزائية-, فاعتمدتُ عليها في مرافعتي, واستندتُ على مقاطع منها, مشيداً بها وبمؤلّفها. وجميع ما أخذته منها يدعم موقفي القضائي ويُندد بموقفه.

كان يتلون من الانزعاج والدهشة..

وحينما اجتمعنا على مائدة الغداء التي أعددتها له, أكدّ لي أنّه لم يكن يتوقع أن يُصاب من مأمنه وأن يُهاجم من مؤلفاته.

حادثة أخرى, لن أستطيع أن أنساها. مُلخصها كما يلي:

بما أنّ اسمي يبدأ بحرف الألف, فقد دُعيتُ (بداية) إلى الفحص الشفوي بمادة اللغة الانكليزية, قراءة وترجمة.

كنتُ ضعيفاً جداً في هذه المادة لعدم التأسيس في أية مدرسة. لذلك استحصلتُ على حوالي ثمانين صفحة مترجمة, وذلك من أحد الطلاب, وعكفتُ عليها في اليوم السابق. اعتقاداً مني أنّ لا بدّ من أن يأتي سؤال منها, ولكن الحال جاءت ضدّ هذا التوقع.

فقد فاجأني (دكتور مقرر الانكليزي) بالسؤال عما إذا كنتُ قد قرأتُ جميع المنهاج وأتقنته, فأجبته بأنني لم أقرأ ولم أتقن غير الثمانين صفحة الأولى.

فقال لي غاضباً: اخرج فوراً. فقلتُ له: إنني فقير, وإنّ صفره هذا سوف يفرض عليّ إعادة السنة بكامل منهاجها, وهذا فوق طاقتي المادية. فأصرّ على طردي.

وإذ ذاك خرجتُ دامع العين مكسوف الخاطر. ووجدتُ نفسي متجهاً إلى بيت الفاضل. أخبرته بما جرى, وقلتُ: أنت تعلم إنني فقير, ولا أستطيع تأمين نفقات عام جديد, وإنني واثق من نجاحي في جميع المواد, ولن يحول دون ترفيعي غير الصفر الإنكليزي.

أشفق عليّ مثلما يُشفق الذي عانى على من يُعاني, وأخذني بسيارته إلى الجامعة حيث دخل إلى عند الأستاذ (دكتور مقرر الانكليزي) وأبقاني في الردهة, ثم لم يلبث غير القليل حتى عاد وعلى ثغره ابتسامة, وقال لي: "لقد وضع لك (70) علامة". تساءلتُ: "كيف هذا وأنا لم أقدم على أي جواب؟!", فقال: "لقد وضع لك العلامة لأنّه لمس صدقك رغم فقرك".

رأيتُ آنذاك, في كلّ منهما عملاقاً أخلاقياً بعيد الآفاق.

أوّلهما الأستاذ الذي أحسّ بحرارة دموعي وأنا مطرود من مجلسه.

والثاني الذي لم يزعم بأنّ العلامة وُضعت بتأثير من وساطته.اهداء بخط نديم محمد

حادثة, مرّ عليها أكثر من ستين عاماً, رسخت في ذاكرتي, وسوف تبقى ما بقيت لديّ ذاكرة.

هنا أتذكّر ما كان يجب أن لا أنساه, وهو الشاعر نديم محمد...

لن أقول وما أنسانيه إلّا الشيطان أن أذكره- (الكهف 18/63), بل أقول بما أنا واثق منه وهو إن سوء الحظ الذي ظل مرافقاً له طوال حياته والذي استمر مع ذكراه بعد موته.

قلتُ في الكتاب الذي ألفته عنه:

كان ما يعانيه من تراكم الشقاء بأنواعه أشدّ وأدهى وأدوم مما مرّ على أيوب التوراة, فأيوب الذي انصبت عليه المصائب في المال والعيال تحدثت التوراة عنه, فقالت: "لقد كشف الله الضرّ عن أيوب وبارك آخرته أكثر من أولاه. صار عنده 14 ألفاً من الغنم و6 آلاف من الإبل وألف فدان من البقر وألف أتان وصار له سبع بنين وثلاث بنات وعاش بعد أن تعافى أربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال ومات بعد ذلك معافى وشبعان الأيام" (أيوب- 42/12-17).

أما نديم, فقد كانت آخرته أمرّ من أولاه, وعاش الفقر من الولادة حتى القبر, وإن كان أبو العلاء عانى من محبسين –محبس العمى ومحبس الروح في الجسد- فقد عانى نديم من محابس عديدة لم يغادره أي منها حتى موته:

-محبس المرض الذي ظلّ يرعاه مثلما يرعى الثور عشب الحقل.

-محبس الفشل العاطفي الذي ظلت لوافحه تتقد في كل جارحة من جوارحه.

-محبس الفقر الذي أحوجه على جميع الحاجات.

-محبس انفضاض الناس عنه خوفاً من عدوى مرضه.

-محبس فقدان محبة الأهل حتى الوالدين والأخوة.

-المحبس الذي عانى منه أبو العلاء وهو محبس الروح في جسده, تلك الروح التي ظلت متوهجة في ذلك الجسد الذي كان يتداعى شرفة شرفة.أ الدكتور محمد الفاضل

كنتُ أسمع عنه ولا أعرفه..

لكن في صيف عام 1953 بينما كنت في مقهى الهافانا في دمشق منصرفاً إلى القراءة في أحد الكتب التي سوف أقدم فحصاً فيها في كلية الحقوق, لفت نظري عنوان بارز في مجلة النقاد كانت في يد شخص مجاور لي... كان العنوان بارزاً ومثيراً إذ يقول: "حنا مينة يهاجم نديم محمد في ديوانه آلام".

ذهبت على الفور إلى مكتبة اليقظة المجاورة, واستحصلت منها على "آلام", وعلى عدد مجلة النقّاد الذي تضمن مقالة حنا مينة, وعدت إلى مكاني في المقهى وغبتُ عن نفسي وأنا أقرأ الأناشيد الأثنين والعشرين التي تضمنها كتاب "آلام", حيث لا أزال أتذكر ذلك الإعجاب الذي غمرني من قراءتها, وإذ نقلت بصري واهتمامي إلى ما كتبه حنا مينة عن نديم, وجدت نفسي مستغرقاً بكليتي في نقد النقد, فلم أشعر بمرور الوقت الذي أوشكت شمسه أن تغيب.

وضعت مقالتي تحت عنوان عاطفي مثير "حنا مينة سوف تسقط بالإصبع الصغير".

في صبيحة اليوم التالي قابلت الأستاذ سعيد جزائري بصفته المدير المسؤول عن "النقاد", ووضعت الردّ بين يديه, وطلبت منه أن ينشره بأقصى سرعة, لكنه ما أن قرأ المقالة وتفرّس في هيأتي وثيابي حتى قال ساخراً: "أأنت بمستوى من ينقد نقد حنا مينة؟! لن أنشر لك هذا المقال عطفاً عليك من غضب مينة".

خطفتُ المقال من يده, وقلت له: "أنا ذاهب إلى مجلة الدنيا وسوف أُحدّث عبد النبي العطري عن انحيازك ضد نديم دون حق, فقال: انشره لك على مسؤوليتك..".

في اليوم التالي نُشرت المقالة في مجلة "النقاد".

بعد مضي ثلاث سنوات –وكنتُ قد تركزت في مدينة طرطوس في مرحلة التمرين على المحاماة- قال لي أحد الأصدقاء, وهو العقيد المتقاعد المرحوم "سليمان زريق": "هل ترافقني في زيارة نديم محمد؟", وحين فهمت منه أن "نديم" هو ذاته الشاعر صاحب "آلام" قبلت بكل رضا.

كان يسكن في غرفة واحدة على السطح, فيها ينام وفيها يستقبل الزوار وفيها يتناول الطعام, وكان كل ما تقع العين عليه يعبّر عن الفقر المدقع. وحين تجاذبنا الحديث وتكلمت عن "آلام" كلام القارئ المستوعب, قال مستغرباً: "وهل قرأت الأناشيد؟!".

قلت: "كيف وأنا الذي نقد ما كتبه حنا مينة عنها...".

قال: إذاً, فأنت صاحب العنوان "حنا مينة سوف تسقط بالأصبع الصغير"؟.. قلت: نعم.

قال: لكن ذلك الذي كنت أظنه الكاتب وكنت أتقرب إليه بشتى عواطف التقدير على تلك المقالة دون أن يخبرني أنه ليس الكاتب.. هذا الشخص يستحق أعنف التأنيب وأمرّ الهجاء.

قامت بيننا منذ ذلك الوقت صداقة متينة رسّخها على الزمن إعجابي الشديد بمواهبه وكبريائه على الحاجة والفقر.

لقد كان مصاباً بالسل, وعاش القسم الأخير من حياته بنصف رئة؛ وفي إحدى الأيام, وكان ينزف الدم, اصطحبت ولديّ الطفلين إلى زيارته, وكلفتهما أن يسلما عليه بتقبيل فمه...اهداء بخط نديم محمد1

كان ذلك جهلاً وتسرعاً مني, لكن عواطفي تجاهه أملت عليّ هذا التصرف..

حملته بسيارتي إلى المشفى في دمشق, وهناك أشرف على معالجته الدكتور "محمود سعدة".

لم يُعثر عليه في سوريا إلّا بعد وفاته, حيث منح وسام الاستحقاق السوري بالمرسوم 75- تاريخ 25- 09- 1994, أي بعد وفاته التي حصلت في 17- 01- 1994, كما أنّ وزارة الإعلام أصدرت له في عام 1996 خمسة مجلدات باسم "الأعمال الكاملة للشاعر نديم محمد", وقد كانت الوزارة أصدرت عام 1979 ديوان الجواهري الذي حلّ ضيفاً دائماً على الوزارة.

حتى الأعمال الكاملة لم تكن كاملة:

-فهي احتوت على عشرة آلاف بيت من الشعر, ولم يكن هذا الرقم سوى أقل من عشر أعماله الكاملة.

-وهي لم تراع أزمان الأقوال, فوضعت أشعاره في الشيخوخة مع أشعاره في الصبا والشباب دون بيان أو توضيح.

لقد عاش بنصف رئة حتى مات, وكانت آخر حشرجة له هذين البيتين:

سيذكرني غداً أهلي كثيراً ... ويسأل بعضهم عني طويلاً

فلن يجدوا وإن راحوا وجاؤوا ... ولن يُهدوا إلى عندي سبيلا

وقبل الانتقال من سيرته ومسيرته, لا بدّ من إيراد برقية التهنئة الشعرية التي وجهها إلى شكري القوتلي بمناسبة حيازته منصب الرئاسة:

هنيئاً لشكري قصره وفناؤه ... وموقعه العالي وصاحبه عمرو(***)

لئن سلخ الأتراك جلد لوائنا ... وغيلت فلسطين فباق لنا العمر

نشاط المحاماة الذي مارسته أكثر من ثمانية عشر ألف يوم, أقنعني تماماً بأنّه نشاط مهما تنوّع وتغير لا يعدو أن يكون غير نشاط معاشي, أي هو –مهما امتدّ- يخلو من النشاط الفكري.

فطوال تلك المدة, ظل نشاطي محصوراً بين الشرائح الاجتماعية الدنيا من المجتمع, إما:

-مجرم قتل

أو -مجرم زنى

أو -مجرم سرقة

أو –خصومات أخرى.

وليس في أيّ منها, ما ينسجم مع الفكر والثقافة.

لا أستطيع أن أنفي العلاقة الجوهرية بين حالة الاكتفاء المادي وبين الاستقرار النفسي الذي يفسح المجال للفكر.فالحاجة الماديّة, بأنواعها, هي سجن وقيد لكلّ فكر. وفي التاريخ بيان أكيد على أنّ العباقرة الجياع كانوا عدداً محدوداً في صناعة المعجزات الفكرية والتاريخية.

تقاعدتُ, بعد خمسين عاماً من ممارسة المهنة.

تلك المدة المديدة, وإن كان مردودها الثقافي ضعيفاً, فقد كان مردودها الماديّ كافياً لكي أقضي بقية عمري في غنى عن الأغنياء, كما هيّأ لي الانتقام من تعاستي السابقة بما وفرته لأبنائي من دراسة كاملة وعيش سعيد.

فبعد التقاعد, انصرفت إلى القراءة والكتابة, فاكتشفت إذ ذاك ما كان تحت جلدي من الرغبات.

بعد أن اجتزتُ عتبة السبعين, أحسستُ أنّ القدر ألقى بي في ميدان السباق مع "الأجل" الذي ظهرت ملامحه بكل جلاء, وإنّ عليّ أن أملأ الساعات والدقائق بما يفيد النّاس ويبقيني في قائمة من اهتموا بهم.

فكنتُ –ومازلتُ- في هذا السباق كالهارب ممن يلاحقه ملاحقة الظل.

وضعتُ حتى الآن ستاً وثلاثين كتاباً في شتى المواضيع. وآخرها السابع والثلاثون هو الآن قيد الطباعة. كما ألقيتُ الكثير من المحاضرات في عدد من المراكز الثقافية, وشاركتُ ارتجالاً في الكثير من الاحتفالات.

أنجبتُ ثلاثة أبناء وابنة ,الأوّل: اسمه منذر, أُستاذ في جامعة تشرين, نال شهادة الدكتوراه في الهندسة من ألمانيا. الثاني: وائل, طبيب اختصاصي في الداخلية والغدد الصم, يتابع الآن نشاطه الطبي في مشفاه الخاص بألمانيا. الثالث: عمران, محام, رئيس فرع النقابة مرتين, وعضو مجلس الشعب, والأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب. الرابع: غادة, اختصاص في اللغة الانكليزية, تمارس الآن رئاسة الثقافة الشعبية في محافظة طرطوس.

هذه, خلاصة خاطفة عن مسيرة حياتي. أختمها بالتأكيد أنني اليوم, ومنذ أن تقاعدتُ في عام 2005, مقتنع وملتزم بقول ابن حنبل: "من المحبرة إلى المقبرة", فرأسي قد أوشك أن يصطدم بالتسعين, والأجل في يد الله دون سواه.

 

الهوامش

* لم يكن يُسمح لنا بالخروج إلّا يوم الجمعة فقط, وبعد أداء الصلاة.

** حافظتُ على حرفيتها رغم الخطأ اللغوي في "أمير" الأولى.

*** يقصد سعد الله الجابري