كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

معابرُ شمشون

هادي دانيال- تونس
العروبةُ قاربٌ منخورٌ بلا شراعٍ ولا مجاذيفَ وبلا بوصلةٍ
في بحرٍ هائجٍ أمواجه أعلى من النخلة وسنام الناقة
و"أوغاريت" الجِذْر
كلّما اخضرّ ونما
داسَتْهُ حوافرُ بِغالِ "لُورَنْسُنا" التي عليها نُحَمّلُ خِيَمَنا صاعدين هابطين في تضاريس الهزائم الوعرة.
عندما على العروش سماسرةُ الدمِ
والعالَمينَ سُدى
عندئذ يبقى الشعرُ ماءُ الروح
الشاعرُ النهرُ ترفده الينابيعُ والمطرُ
الشاعرُ النبْعُ / كَشِهابٍ يلمع في الأرض وينطفئْ
الشاعرُ البئرُ التي تُحْفَرُ بفؤوس المعرفة الصَّبُورة
كي يُمتَحَ الماءُ الذي يرشح من جدران رعايا أفروديتَ
استجابةً لصرخةِ ذلك المشاغب المُقيم في عَتَبَةِ الجسد.
وعندما يبعقُ "يهوه":
كلّ أرض تَطئُها أقدامُ جنوديَ لي،
كلّ ما أسمّيه لي،
والصحن الرئيس بمأدبة غزّة سَلَطَةٌ من الأشجار والصخور والأطفال والنساء
قد يُلبِّكُ أمعائيَ
وقد يَرفس جدرانَ بلعوميَ حَمَلٌ
ويسيلُ عصير الأجساد على ذقْنِيَ مِن فَكَّيَّ،
لكنَّ موتكم الذي بلا ثَمَن وحياتكم التي بلا مَعنى
عكّازا عبوريَ هذه الصحراء إلى وجودٍ
أعجنُ الترابَ بالدِّماءِ كي لا يكون مؤقتاً
أنا أُعْبَدُ بالقتلِ
وَمِن أمواجِ النجيعِ والرمادِ تقتاتُ نوارسي
على شخيب الدماء أرقص عارياً
بمغادرتها أجسادَ الأغيار شلّالاتٍ أنتشي
ومن شقائق النعمان يمتص نحلي رحيقَ عَسَلي.
أيّ عقربٍ لسَعَ الوَقْتَ، أفرغَ السمَّ في الأثيرِ، دعا أقلامنا إلى الدمعِ والدم يملآنِ المحابرْ
فأفَقْنا مِن سُباتِ أطفالِ الحجارةِ في مغارات أشعارِنا على خراب مَهولٍ أبْدَعَتْه حداثةُ أمريكا الشبحيّة بخُرافاتِ إسرائيلَ المُعْلَنَة
مَشهَدٌ لجنودِهم يئدون عقابيلَ هنود السيلنام، جرّافة تطمر عربات الإسعافِ، والرُّعبُ يُلْقِمُ الكاميرات الشهيدةَ مَشهَداً بَعْدَ آخَرَ مِن غيوم الرصاصِ على الراكضين من الشَمالِ إلى الجنوبِ/من الجنوبِ إلى الشَّمال والأمهات الراكضات كإناث الكنغر يحملْنَ أطفالهنّ بين ثيابهنّ فلا خنادقَ كي يلوذ الهاربونَ ولا دساكرْ
والجوعُ في أنحاء هذا المَرسَمِ الساديّ أطفالُ الطناجرْ
وأنا الذي أزعم أنّ الشعرَ ماءُ الحياة ومائي
كيف أهربُ من عيون الطالعينَ مِنَ الرُّكامِ إلى السماءِ
كيفَ أقضمُ هكذا تفاحة و ألوكُ لُقمَةَ مَنْسَفٍ أو كُكسي
وأنا أرى الأطفال والصبيان آلافاً تجفّ عروقُهُم ظمأً وأيديهم تحاولُ أنْ تُلوّحَ بالصحونِ الفارِغَهْ
لكننا نتبادلُ الأخبارَ عن أولئكَ الشجعانِ ينتقلونَ مِن رَدْمٍ إلى رَدْمٍ ويبتهلون في صَمْتِ العيونِ الزائغَه:
تَقَبّلْ تَقَبَّلْ قرابينَ شهوتِكَ الآدميّة يا ربّ،
مائةَ ألف رضيعٍ وأكثرْ
جسوماً مُقَطّعّةٌ بعناقيدَ "يهوه"
الإله الذي شاءَ غزّةَ باراً على البحرِ/مقبرَةً
بالجماجمِ يغرفُ هذا الدمَ الأمميّ ويسكرْ
أيكفي لمرضاةِ ذاتِكَ أنّ فلسطينَ صارت صليباً مِن النارِ
أنّ المسيحَ الذبيحَ ذَبيحاً تكاثرْ؟
أيكفي لنشوةِ ظلّكَ أن تتفحّمَ أعضاءُ طفلٍ ويرفعَها صوبَ عينيكَ والدُهُ صارخاً:
هل ستقبله دون رأس؟
كان رأس الصغير جميلا بعينين ضاحكتين وأنف كَبُرْعُمِ بُرْجٍ
فكيفَ تَبَخّرْ؟
لكننا نتبادلُ الأخبارَ، ننظرُ ما عجزنا عن تخيُّلهِ مِنَ القَتْلِ المُمَنْهَجِ ، ثمّ ننعسُ في أسرّتنا ونلهجُ:
يَقتِلونَ لكي نُبادَ ويبدؤوا عهداً جديدا
فَعَلامَ يَفخَرُ مَن يُبادُ بأنّه باتّ الشهيدا
والأرضُ والإنسانْ؟
كانت وكانْ؟!
إنّهم حكّامنا،
لا أبَ للظبيِ الفلسطينيِّ
لا دوحةَ،
لا رياضَ
حيثما نظرْت رأيت
مَسْقَطاً للثعالبِ
ولا مُعِزَّ هُناكَ...
والشام أصبحت أنقاضا
قبلتي دمي
وقرآنيَ الآخُ مِن فمي
وغزّة طفْلٌ مُحاصَرٌ بأسماكِ قرْشٍ
وحَولَه الحياة بَحْرٌ كلّما عَلتْها موجةُ الصخب العظيمِ ارتَطَمَتْ بصخرةِ الاعتيادِ
غزّة المقبرة البحريّة
الضحيّةُ التي طلبها "أدوناي" في منامِ "إسرائيلَ" كي تقومَ مِن مَوتِها الوشيكِ
فَمَن أوقعَ البلادَ والناسَ في فَخّ "يَهْوَه"
ورسولِهِ الأمريكي؟
تسأل الطفلةُ الحكيمةُ بنتُ دليلةَ
وهي ترقب شمشونَ في تجلّياته: دبابةً، بندقيّة عوزي، مُسَيّرَةً تركيّةً، صقْرَ قُرَيشٍ، عمامةً سوداءَ تارةً بيضاءَ أخرى، عَرباً بدواً رُحّلاً "وَلَو وَلَّيْتَ واحِدَهُم على حَجَرٍ تَوَلّى" ومُستَعرِبين عابرين، كُرْداً على أعناقهم قبضاتُهم ووراءهم ثأر القبائلِ مِن رهانٍ خاسرٍ حين استجاروا بِمرْدخاي، وتركماناً كلّما اتكأوا إلى الخازوق كانَ المسجدُ الأقصى ضحيّتهم، كرادلةً يبيعونَ الصكوكَ لمجرميّ الحربِ باسمِ الربّ...
تراهم سُدى
يعبرون المرايا التي صقلتها الدماءُ الغزيرةُ
(كانت مُقَعّرَةً في شوارعِ أهل الشَّمال البعيدِينَ عن نُور آلامنا)
فهل سيُكفِّرُ أحفادُ "بلفورَ" عن لعنة لحقت بسلالاتهم
هل سيٌكَفًّرُ أحفادُهُ عن "هولكسْتٍ" تناسَلَ مِن وَعْدِهِ
بجائزةٍ للضحايا الجددْ
(فطوبى لمخترع الديناميت!)
أتُشْرِقُ شمسُ فلسطينَ من جهة الغرْبِ
أم أنّنا تحت وطأةِ ضَرْبَةِ شَمْسْ
تارةً نتوهّمُ أنّا حَصَلْنا على دولةٍ وَعَلَمْ
وتلاشى الألمْ
وأخرى بلا أمَلٍ نرتعدْ
والسلام سُدى
والربيع رمادٌ
وهذا المدى
يتمخّضَ عن نَفَقٍ قاتمْ
عن هذا الوحشُ اللاحم
يتوقع في العهد الكوني القادمْ
أن يُمسَخَ كبْشاً
ونكون شقائقَ نعمانٍ في مرعاه؟
ما إلى هذه الحياة الأشدّ رُعْباً مِنَ الموتِ تُقْنا
ولا بها وَعَدْنا أشباحَ أطفالنا في العناقِ الحميمِ
والصغير الذي أرادَ الشهادةَ أفزعَهُ أنْ لا خُبْزَ في الجنةِ
لم يعُدْ طامعاً بموتٍ كريمِ
منذ ستٍّة وسبعين عاما
والفلسطيني تسكنهُ فلسطينُ بينما يسكنُ الأحلامَ
هل كثير أن يكونَ حرّا على أرضه
آمناً في بيته طفلاً يلاعبُ الفراشات، فتىً عاشقاً
فزَوْجاً، فَشَيخاً بأحفادهِ يشغل النهارَ، مؤمناً يقوم الليلَ
أو سميرَ الندامى
يرفد الحياةَ بإبداعه، مفكّراً حراً، وشاعراً بلا سَقْفٍ، مؤلّف السرديّة الكبرى بدمه، محامياً وقاضياً عدْلاً، وعالم جيولوجيا، جغرافيّاً، مؤرّخاً محايداً، عالمَ ذرّة، مهندساً، نجّارَ أبوابٍ ومغاليق، بَنّاءً وحدّادَ محاريثَ، مزارعاً في حقله، وعاملاً في مصنعٍ، مُخترِعا، عالِمَ ذرّةٍ مُقاتلاً مدافعاً عن حقّهِ بأرْضٍ على هذه الأرْض.
ستٌّ وسبعون سنَهْ
مرّتْ
وهذا الحالمُ الحليمُ يبني وطنَهْ
بحجر من إرثه
أسَّسَهُ
وحجر من فِكَرٍ مُسْتَلهَمَه
أثَّثَهُ
بدمهِ المَلاطِ اختَصَرَ المعرفةَ الكونيّةَ
وَحَرّرَ الإله مِن قَفَصِهِ العالي
وأنسَنَهْ
وعندما يكادُ أن ينجزَ بيتَه ويسكنَه
ما بينَ شاطئ ٍ وضفّةٍ
يخذله الأعرابُ والمتأسلمون الخوَنهْ
مَعابِرُ الصهاينهْ!.

*تونس/المنار2. الأحد17/17/2024