هكذا صنع فيلم "تحيا المكسيك" وهكذا أجهض
2024.08.23
خلاف بين المبدع السوفياتي والكاتب الاشتراكي الأميركي انتهى بوأد طموح سينمائي كبير
إبراهيم العريس
هناك في تاريخ السينما عدد كبير جداً من مشاريع لأفلام أجهضت قبل أن تتحقق، وكان في مقدور معظمها أن يكون علامات كبرى في تاريخ أصحابها، لكن كان يمكن لبعضها الآخر أن يكون محطات أساسية في تاريخ السينما العالمية، ودائماً انطلاقاً من معطيات جمالية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية تجعلها على رغم "موتها" جزءاً أساسياً من تاريخ السينما.
ومن الطبيعي أن يضيق المكان هنا كثيراً جداً عن إمكانية وضع لائحة ولو مختصرة بعناوين تلك "الأفلام التي باتت أشباحاً" مع مرور الزمن، لكن في إمكاننا أن نفترض مع ذلك بأن الفيلم الذي كان السينمائي السوفياتي الكبير سيرغاي إيزنشتاين يزمع تحقيقه أواسط سنوات الـ30 من القرن الـ20 حول تاريخ المكسيك وثورته التي كانت في كل الأذهان والقلوب حينها، يعتبر في طليعة تلك اللائحة، وبخاصة أنه كان من شأنه أن يكون ثمرة تعاون سوفياتي – أميركي نادر من نوعه كان من شأنه أن يعني كثيراً في زمن المحاكمات الستالينية في هذا الجانب والمحاولات الروزفلتية لإنقاذ أميركا والعالم من الكساد الاقتصادي المريع الذي تلى انهيار بورصة نيويورك عام 1929 من الجانب الآخر.
كانت مبادرة مشروع الفيلم أتت من هوليوود ولو من طريق واحد من أكثر الكتاب والمناضلين الأميركيين اشتراكية: أبتون سنكلير الذي كان قد وصل إلى الذروة حينها بفضل رواياته الاجتماعية، ولا سيما منها روايته عن مسالخ شيكاغو التي حولتها هوليوود إلى فيلم بديع قبل ما يقرب من قرن من تحويل روايته الرائعة الأخرى "نفط" إلى ذلك الفيلم الأوسكاري الرائع "ستكون هناك دماء" عند بدايات القرن الجديد.
سمعتان متساويتان
والحقيقة أن سمعة سنكلير كانت في أميركا تضاهي سمعة إيزنشتاين في العالم، ومن هنا ما إن أعلن عن المشروع الذي كتب هذا المبدع الأميركي، العنيد في اختياراته الفنية الاشتركية، الحكاية التي سيدور حولها وعن أن صاحب "أكتوبر" و"الدارعة بوتمكين" هو الذي سيخرجه مصحوباً بمعاونيه الكبار من المصور إدوار تيسيه إلى مساعده أكسلرود، وأن الموسيقى ستكون من وضع آرام خاتشادوريان، على أن يأتي بقية التقنيين من بين خير من تضمه هوليوود، حتى تفاءل محبو السينما في العالم أجمع بروح وأنفاس جديدة ستحلق في أجواء هذا الفن.
ولم يكن اختيار المكسيك موضوعاً للفيلم وطوبوغرافيتها مكاناً لتصويره سوى تلك الإضافة الرائعة التي رأت أن ثمة جديداً يتحرك اليوم في سينما العالم، لكن ما إن مضت سنتان ونصف السنة على انطلاق المشروع عبر توقيع إيزنشتاين العقد مع صندوق السينما المكسيكية المشارك الأساس في المشروع، في الأسبوع الأخير من نوفمبر (تشرين ثاني) 1930، حتى انتهى كل شيء، لكن ليس بمعنى إنجاز المشروع، بل بمعنى توقفه تماماً، وربما لـ50 عاماً أخرى انتهت في عام 1980 بفيلم حمل العنوان نفسه عرض في مهرجان موسكو السينمائي بوصفه "فيلم إيزنشتاين الكبير" غير أن هذه حكاية أخرى تتعلق بـ"شيء آخر تماماً" غير فيلم سنكلير – إيزنشتاين وهو ما سنعود إليه آخر هذا الكلام.
من الآمال إلى الخيبة
المهم هنا أن المشروع العتيد الأول انطلق انطلاقة كبير محملة بالآمال العريضة. ووصل المخرج السوفياتي الكبير إلى هوليوود، حيث كان له استقبال كبير ومن هناك اصطحب سنكلير ومعاونيه الهوليووديين وتوجهوا جميعاً إلى حيث سيدور التصوير في المكسيك. غير أن الخلافات سرعان ما دبت بين الفريقين – اللذين كانا يعتبران أنفسهما فريقاً واحداً – لتنتهي إلى توقف الفيلم تماماً فلم يبق منه حينها سوى ذكريات ووثائق ومجموعة من اللقطات والأفكار والرسوم. غير أن هذا كله والذي حلت تفاصيله مكان الفيلم على أية حال، على الأقل حتى استعاد حياته في نهاية القرن الـ20 كما سنرى، تحول في نهاية الأمر إلى واحد من الكتب الأكثر تشويقاً في تاريخ السينما وبالتحديد إلى كتاب عنوانه "صنع وعدم صنع تحيا المكسيك"، والحقيقة أن أول ما يلفت النظر في هذا الكتاب الذي أصدرته دار النشر البريطانية – الأميركية تاميز وهدسون في عام 1970، لمناسبة الذكرى الـ40 لانطلاق ذلك المشروع الكبير المجهض هو أن ليس ثمة أي لعب على الكلام فيه بل إنه يعني تماماً ما يقوله، بل يعنيه بصورة متكافئة ومتوازنة إلى حد مدهش.
بالعدل والقسطاس
فالكتاب الذي وضعه المؤلفان هاري جيدالد ورونالد غوتسمان ينقسم قسمين بالتساوي يحمل أولهما عنوان "كيف صنع تحيا المكسيك"، والثاني عنوان "كيف لم يصنع تحيا المكسيك"، حيث يتألف كل من القسمين من 200 صفحة من القطع الكبير مع مقدمات وملاحق مقسمة كذلك بالتساوي بين القسمين. أما ما يضمه الكتاب فهو حكاية الفيلم من ألفه إلى يائه ومحاججات كل الأطراف التي أسهمت في صنعه كما في "عدم صنعه"، وذلك منذ اللحظة التي كان فيها الفيلم نصاً مكتوباً يحمل عنوان "عاصفة على المكسيك" حتى العدد الشهير من مجلة "سايت أند صاوند" السينمائية الإنجليزية التي كان – ولا يزال – يصدرها معهد الفيلم البريطاني فكانت بقلم الناقد والمؤرخ السينمائي الشهير حينها بول روتا الذي كان أول من نشر في عام 1934 مقالاً مطولاً لا ينعي فيه الفيلم، بل يتحدث عن الكيفية التي توقف فيها التعامل في الفيلم مع سيرغاي إيزنشتاين ليصبح بدفع من "المنتج" نفسه، أي الكاتب أبتون سنكلير، من إخراج هوليوودي يدعى صول ليستر الذي كانت مهمته أن يعيد الاشتغال توليفياً على ما كان السوفياتي الكبير قد صوره ولم ينهه تحت عنوان "تحيا المكسيك"، ولا سيما استعادة ليستر العنوان القديم للمشروع ليقدم الفيلم بعنوان "عاصفة على المكسيك" ويقدم بوصفه فيلم مغامرات. والحقيقة أن تلكم هي الحكاية الحقيقية والمؤسية التي يرويها الكتاب: حكاية الكيفية التي توأد بها المشاريع الكبيرة الطموحة بفعل أنانيات حامليها الذين ينطلقون وهم عابقون بالنوايا الطيبة إلى أن تقع الواقعة.
نموذج محزن
وفيلم سنكلير – إيزنشتاين هو واحد من النماذج الأكثر إثارة للحزن للكيفية التي تقع تلك الواقعة بها. فعلى رغم كل ما قيل وترسخ من حول قضية هذا الفيلم، جاء هذا الكتاب ليقول لنا بالوقائع والرسائل والوثائق إن ما ظلم هذا الفيلم الكبير سوى أصحابه، بل بالأحرى صاحباه الكبيران وتحديداً الأنانية التي تحكم خطواتهما وتصرفاتهما، بعد آمال المراحل الأولى. والمراحل الأولى هنا كانت مزهرة حين انطلق المبدع السوفياتي في أنحاء المكسيك يصور معالم تاريخها وارتباطها بالأحداث الكبرى في ذلك التاريخ من منطلق كان يريده "ثورياً على طريقته"، "اشتراكياً حسب فهمه التبسيطي للاشتراكية" هو الآتي من مجتمع كان قد "أنجز ثورته وكون حزبه ودولته"، فيما كان شريكه في الفيلم وفي أحلامهما كاتباً أميركياً آتياً من مجتمع تتكون الأفكار فيه بصورة مغايرة تماماً وعليه أن يكيف استنتاجاته النضالية مع فهم مختلف تماماً للعلاقة بين أميركا اليانكي وأميركا اللاتينو. ومن هنا ما إن بدأت المراحل التالية في الفيلم بعد أن جمع إيزنشتاين ورفاقه كمية هائلة من اللقطات المصورة بالفعل، والتي حان أوان تحويلها إلى مشاهد، ومن ثم تحويل المشاهد إلى فيلم حتى كانت الواقعة. ولعل أسوأ ما في الأمر أن سنكلير راح يتعامل مع المبدع السوفياتي وكأنه مفوض شعب ستالينيا، فيما تعامل هذا الأخير مع سنكلير كمنتج يمثل الرأسمالية العالمية.
بعد نصف قرن كما أشرنا حقق السوفيات فيلماً جديداً انطلاقاً من لقطات وملاحظات إيزنشتاين الذي كان قد رحل منذ زمن بعيد، لكن النتيجة والحق يقال، النتيجة التي عايناها بأنفسنا في دورة عام 1980 لمهرجان موسكو السينمائي أتت مطابقة تقريباً لما صنعه صول ليسير تحت إشراف أبتون سنكلر أول الثلاثينيات منهياً لما كان إيزنشتاين يريد تحقيقه حتى وإن كانت الدعاية التي صخبت في المهرجان حينها تشير إلى أن الفيلم "الجديد" من تنفيذ ابن أكسلرود، والموسيقى من تأليف ابن خاتشادوريان، بل حتى التصوير الإضافي لابن تيسيه... إلى آخر ما هنالك. وهكذا دفن حلم إيزنشتاين المكسيكي مرة جديدة في ذلك السياق الذي يمكن على أية حال الاتكال على كتاب "صنع وعدم صنع تحيا المكسيك" للوصول إلى أكبر قدر من الحقيقة حول فيلم تحول إلى أسطورة مع مرور الزمن.