ماركيز في حوار مع كوروساوا.. في حزيران من عام 1991
2024.05.28
تمّام علي بركات
هذا ما ينتج مثلا، عندما يلتقي كاتب عظيم، بمخرج عظيم.
ماركيز في حوار مع كوروساوا، نشرته صحيفة لوس انجلوس تايمز في حزيران من عام 1991.
ماركيز: لا أريد من هذه المقابلة بين صديقين ان تبدو وكأنها مقابلة صحفية، فكل ما عندي هو شوق وفضول كبيران لمعرفة أشياء جديدة أكثر عنك وعن اعمالك. بادئ ذي بدء، أنا مهتم بمعرفة طريقة كتابتك للسيناريو. أولا، لأنني انا نفسي كاتب سيناريو. وثانيا، لأنك اخرجت الكثير من الاعمال المأخوذة عن اعمال ادبية عظيمة، وتنتابني الكثير من الشكوك حول التعديلات التي تم إجراؤها أو يمكن أن تجرى في المستقبل على اعمالي الادبية التي ستتحول الى افلام سينمائية.
أكيرا كوروساوا: عندما اتخيل فكرة او يوجد عندي عمل ادبي اريده أن يتحول إلى سيناريو، فأنا اقفل على نفسي باب غرفتي في الفندق وبجانبي ورقة وقلم رصاص. في هذه المرحلة تكون عندي فكرة عامة عن حبكة السيناريو ، و عندي تصور ما للنهاية. اما إذا كنت لا اعرف مشهد البداية، فأنا اسير وراء تيار من الأفكار التي تنبثق فجأة.
ماركيز: ما الذي يتبادر إلى ذهنك اولا الفكرة أم الصورة؟
كوروساوا: لا أستطيع أن أشرح ذلك بشكل واف، ولكني أعتقد أن كل شيء يبدأ مع عدة صور متناثرة ، وأنا أعلم أن كتّاب السيناريو هنا في اليابان على النقيض من ذلك يبدأون أولا بخلق نظرة شاملة عن السيناريو، ويقومون بترتيب المشاهد ، وبعد ان يضعوا حبكة الفيلم يبدأون في الكتابة. لكنني لا أعتقد أن هذا هو الاسلوب الصحيح ، لأننا لسنا من خلق الكون .
ماركيز: وهل طريقتك هذه المبنية على الحدس استعملتها ايضا في اقتباسك لاعمال شكسبير أو غوركي أو دوستويفسكي؟
كوروساوا: المخرجون الذين يصنعون الأفلام التقليدية قد لا يدركون أنه من الصعب جدا نقل الصور الأدبية للجمهور من خلال الصور السينمائية. على سبيل المثال، عند تحويل رواية بوليسية كانت احد احداثها تتضمن العثور على جثة بجوار السكة الحديدية، أصر المخرج الشاب على أن هناك موقعا معينا يشبه تماما ذلك المذكور في الكتاب . فقلت له "أنت مخطئ". "المشكلة هي أنك قد قرأت الرواية من قبل وأنت تعرف أن الجثة قد عثر عليها بجوار القضبان. ولكن بالنسبة للأشخاص الذين لم يقرأونها لا يوجد شيء مميز في ذلك المكان." كان المخرج الشاب مأسورا بفعل القوة السحرية للأدب دون أن يدرك أن الصور السينمائية يجب أن يعبر عنها بطريقة مختلفة.
ماركيز: هل لك أن تتذكر أي صورة من واقع الحياة اعتبرت انه من المستحيل التعبير عنها في فيلم؟
كوروساوا: نعم ، كان ذلك في بلدة للمناجم تدعى ايليداشي، حيث عملت كمخرج مساعد عندما كنت شابا. وكان المخرج قد قرر منذ اللحظة الاولى أن الجو في الخارج رائع وغريب ومناسب للتصوير، ولهذا السبب قمنا بالتصوير. ولكن الصور اظهرت البلدة فيما بعد كمدينة عادية جدا ، ولم تعكس لنا شيئا كنا نعرفه جيدا ، وهو أن ظروف العمل في تلك (البلدة) كانت في غاية الخطورة ، وأن نساء واطفال عمال المناجم كانوا يعيشون في خوف دائم على سلامتهم. عندما ينظر المرء الى القرية فان منظرها يعطيه مثل ذلك الانطباع ، ويدركه بشكل اكثر غرابة مما هو عليه في الواقع. لكن الكاميرا لا ترى ذلك بنفس المنظار ولا تستطيع التعبير عنه.
ماركيز: الحقيقة أنني أعرف عددا قليلا جدا من الروائيين الذين كانوا راضين عن تحويل كتبهم لكي تعرض على شاشات السينما ما هي تجربتك في هذا المجال ؟
كوروساوا: اسمح لي في البداية، ان اسألك سؤالا: هل شاهدت فلمي "اللحية الحمراء"؟
ماركيز: لقد شاهدته ست مرات خلال عشرين سنة ، وتحدثت عن ذلك لأولادي كل يوم تقريبا حتى اصبحوا قادرين على مشاهدته بانفسهم. لذلك هو ليس فقط واحد من بين افضل الأفلام التي احبها انا وعائلتي، ولكنه أيضا واحدا من الافلام المفضلة عندي على مدى تاريخ السينما كله.
كوروساوا: "اللحية الحمراء" يشكل نقطة تحول في تطوراعمالي السينمائية . كل أفلامي التي تسبقه تختلف عن تلك التي تلته. كان يشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى.
ماركيز: هذا واضح. وعلاوة على ذلك، ففي نفس الفيلم هناك مشهدان يرتبطان للغاية بمجمل اعمالك، وكلاهما لا ينسى. الاول هو مشهد حشرة فرس النبي ، والآخر مشهد قتال الكاراتيه في فناء المستشفى.
كوروساوا: نعم، ولكن ما أردت أن أقوله لك هو أن مؤلف الكتاب، شوغورو ياماموتو، قد عارض دائما تحويل رواياته إلى أفلام باستثناء "اللحية الحمراء" لأنني بقيت اصر واعاند بالحاح الى ان نجحت في اقناعه . ومع ذلك، وعندما انتهى عرض الفيلم التفت اليّ وقال : "حسنا انه ممتع أكثر من روايتي."
ماركيز: ، وأنا أتساءل، لماذا احبه كثيرا بذلك الشكل ؟
كوروساوا: لأن لديه وعيا واضحا بالخصائص الكامنة في السينما. وكان الشيء الوحيد الذي طلبه مني هو أن أكون حذرا جدا مع بطلة الرواية، وكان يراها امرأة فشلت فشلا ذريعا. ولكن الشيء الغريب هو أن فكرة وجود امرأة فاشلة لم تكن واضحة في روايته.
ماركيز: ربما كان يعتقد أن الفكرة كانت واضحة . وهو أمر كثيرا ما يحدث لنا نحن الروائيين.
كوروساوا: نعم . في الواقع، فان بعض الكتاب حين يشاهدون الأفلام المقتبسة عن رواياتهم، يقولون: "هذا الجزء من روايتي تم اخراجه بشكل جيد." لكن الامر في الواقع هو ان المخرج هو من قام بإضافته. وأنا أفهم ما يقولونه، لأنهم احيانا يعتقدون ان التعبير عنه من خلال شاشة السينما جعله اكثر وضوحا، عن طريق تصور وحدس المخرج، شيئا ما كان من المفترض أن يقوموا بكتابته ولكنهم لم يستطيعوا.
ماركيز: ، بالعودة إلى فيلمك الحالي(رابسوديا في اغسطس)، هل ان مشاهد الاعصار كانت الأكثر صعوبة في الفيلم؟
كوروساوا: كلا ، الشيء الأكثر صعوبة كان العمل مع الحيوانات. مثل ثعابين المياه، والنمل الذي يتغذى على الورود. كان الناس قد اعتادوا كثيرا على الثعابين المنزلية ، ولم تكن تهرب منهم ، وتتصرف مثل الثعابين. كان الحل هو مسك ثعبان بري ضخم ، وكان يحاول بكل قوته الهروب، وكان مخيفا حقا. لذلك فقد لعب دوره بشكل جيد للغاية. أما بالنسبة للنمل، كانت المشكلة هي الحصول عليه وجعله يتسلق غصن الورد في خط مسار واحد حتى يصل إلى الورد. كان النمل مترددا لفترة طويلة، حتى صنعنا له دربا من العسل على الجذع، فقفز النمل فوقه. في الواقع، كان لدينا العديد من الصعوبات، ولكن الامر كان يستحق ذلك، لأنني تعلمت منه الكثير .
ماركيز: نعم، حتى اني لاحظت ذلك . ولكن أي نوع من الفيلم هذا الذي تكون فيه المشاكل مع النمل مثلها مثل المشاكل مع الأعاصير؟ ما هي قصة الفيلم؟
كوروساوا: من الصعب جدا أن تلخص في كلمات قليلة.
من صفحته