"الزند" متانة في النص وسفاهة في الحوار
أُبي حسن- فينكس
كان لمسلسل "الزند- ذئب العاصي" بطولة النجم تيم حسن وإخراج سامر برقاوي، فيما السيناريو للكاتب عمر أبو سعدة، حضوراً جماهيرياً كبيراً وطاغياً هذا العام.
تناول "الزند - ذئب العاصي" مفصلاً هاماً من مفاصل الحكم العثماني في سوريا آواخر القرن التاسع عشر، والحق أن نصّ العمل محكم بشكل جيد جدا درامياً، وهذا ليس غريباً عن كاتبه عمر أبو سعدى المعروف برصانته ودقة أعماله، كما أن إخراجه اعتمد على الابهار الذي يذكرنا بإبهار الصورة لدى المخرج نجدت أنزور في بداية أعماله الأولى من قبيل سلسلة "الجوارح" و"الكواسر" و"الفوارس".. الخ قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن، مع فارق أن الصورة في "الزند" لم تكن على حساب النص كما كانت لدى أنزور في أعماله الأولى المذكورة فيما سبق. فـ"الزند" نجح أيما نجاح في المواءمة بين النص والصورة إبّان عرضه لبعض المظالم التي تعرض لها السوريون خلال الحقبة التي يرصدها ألا وهي كيفية تشكّل الاقطاع وتملكه لبقية أراضي الفلاحين، ومع الأسف أن جميع المظالم التي ذكرها ما تزال حاضرة بقوة في الذاكرة الجمعية للسوريين، وهي مظالم قد لايكون للعثماني دخل مباشر بها، بل كانت تتم، عن طريق أزلام أزلامه، ونعني الإقطاع والبكوات والملّاك وأصحاب السطوة، تماماً كما صورها لنا وبحرفية مدهشة مسلسل "الزند"، وهذه نقطة تسجّل لصنّاع العمل من مؤلّف ومخرج وممثلين، علماً أن رصد هذه الظاهرة ليس جديداً على الدراما السورية، إذ سبق أن عالجها مسرحياً الشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان في مسرحيته الشهيرة "سفر برلك" التي سبق أن قُدمت على مسارح دمشق في تسعينات القرن الماضي؟
ضمن ذاك الصراع "الطبقي" والسياسي، استحضر العمل الشخصية السورية التنويرية الكبيرة ونعني الشيخ عبد الحميد الزهراوي وهو من شهداء أيار 1916، وكذلك كانت جريدة "المنير" الأسبوعية التي أصدرها الزهراوي حاضرة في العمل هي وطاقم تحريرها التنويري الذي وقف إلى جانب المُضطهدين والمعذبين من أبناء وطنهم.
كما كان "الزند" أميناً في نقل لهجات المناطق والبيئات والشخصيات التي تناولها والأمانة هنا كانت مذهلة إذا لم تتقصّد ولا مثقال ذرة السخرية أو الإساءة لأي لهجة من لهجات مكونات الشعب السوري كما فعل بعض سينمائيي سوريا عام 1989 في بعض أفلامهم السينمائية، كلهجة أهل حمص ولهجة قرى العاصي المختلفة عن لهجة أهل المدينة، ناهيك عن لهجات عدة أخرى لشخصيات فاعلة في العمل.. كما احتفى العمل بالمكان، إذ كان حريصاً على تصوير البيئة (ريفاً ومدناً وأسواقاً ومرفأ) كما كانت في السياق الزمني الذي يتحدث عنه الى درجة رأينا المكاري (سائق عربة الخيل التي كانت تنقل الركاب بين المدن السورية وحتى الأرياف) منذ الحلقة الأولى..
الآن، وبمعزل عن الحالة الجماهيرية التي حظي بها العمل، كان يشكو من سلبيات بعضها غير مبرر، لاسيّما في بعض محطات الحوار..
فمثلاً، نجد أن أبرز سلبيات العمل التي كانت في النص هي استخدام طاقم العمل لألفاظ موغلة في الانحطاط والبذاءة أو كما نقول في لغتنا العامية "شوارعجية" نسبة إلى لغة أهل السوء في الشارع.
انحطاط اللغة في بعض محطات الحوار بذريعة نقل الدراما للواقع كما هو، يجعلنا نستحضر سؤالاً مفاده: هل حقاً يتوجّب على الدراما (خاصة التلفزيونية) نقل الواقع كما هو؟ نعرف جميعاً أن في الواقع بذاءات كثيرة، فهل من اللائق نقلها إلى الشاشة التي ليست ملكنا وحدنا، لاسيما أن الملايين يتابعونها، بمن فيهم أطفال ومراهقين ورجال دين تتأذى مشاعرهم من سماع هاتي الألفاظ.. ناهيك عن إعطائنا لتلك البذاءات مشروعية وشرعية من خلال نقلها إلى الشاشة؟ فعلاً: هل من حق الكاتب والمخرج وحتى الممثل تبني البذاءات اللفظية الخادشة للحياء العام، ونقلها إلى الشاشة وهو يدرك أن أطفالاً سيرونها وسرعان ما سيتأثرون بما يرون ويسمعون، انطلاقاً من "الشرعية" -إن جاز التعبير- التي تمنحها الدراما لتلك البذاءات من خلال تبنيها، خاصة أن الناطق بها "نجم" تلفزيوني!؟
أذكر في هذا السياق أن الناشر العربي الكبير الراحل رياض نجيب الريّس عزم ذات مرة على إعادة نشر بعض كتب التراث، في دار النشر التي تحمل اسمه، وبعض تلك الكتب موغل في السفاهة والانحطاط (بما في ذلك الانحطاط الجنسي)، وكان دافعه لذلك أنه تراث! يومذاك اجتمع به مرجع ديني لبناني له وزنه (رحل عن دنيانا هو الآخر)، وقال له: "لنفترض يا رياض أننا أنت وأنا تلاسنا وقلنا في ملاسناتنا كلاماً بذيئاً وسفيها، فهل يجوز أن يأتي شخص بعد نحو المائة عام، ويوثّق بذاءتنا باعتبارها تراثاً؟"، وحقيقة اقتنع الناشر الكبير رياض بحجة رجل الدين وتوقّف على أثرها فعلاً عن مشروعه الذي ربما كان هدفه تجارياً بالدرجة الأولى، بدليل أن الكتب السفيهة لا تنجب ثقافة ولاتبني حضارة.
أمر آخر، يلفت الانتباه في "الزند" ألا وهو غياب التعابير عن وجوه أهم "نجوم" العمل، فلا تدري متى تكون أساريره منفرجة ومتى تكون منقبضة من خلال تعابير الوجه، ولعل السبب في ذلك هو البوتوكس، وحقيقة الأمر هذا شيء أثر سلباً على مسلسل كاد يلامس الملحمة.