كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فيروز والرحابنة وفخري البارودي و"أنشودة الغابات"

سفيان أحمد العسة- فينكس:

"سمراء يا انشودة الغابات"
لهذه القصيدة الرائعة قصة طريفة مع الزعيم الوطني فخري البارودي و الأستاذ أحمد عسة الصحفي السوري الكبير مؤسس جريدة "الرأي العام" السورية أربعينات القرن الماضي.
منذ منتصف خمسينيات القرن الماض كانت أعمال الاخوين رحباني و فيروز تذاع من اذاعة دمشق الى كل العالم العربي، وتثير جدلاً كعادتها بأول المطالع. ولم تكن بعد قد هدأت تلك الضجة التي أقامها المجمع العلمي العربي في دمشق من أن الرحابنة يشوهون اللغة العربية، ولا تلك التي قامت في مجلس النواب السوري حول أغنية "سنرجع يوماً الى حيِّنا"، وما كان من موقف فخري البارودي إزاءها.
كان فخري البارودي نائباً وزعيماً سورياً، وذا اطلاع عميق على التراث الغنائي العربي عامة والموشحات بنوع خاص. وكان اعتراضه، في "سنرجع يوماً الى حيّنا"، على أن الرحابنة لم يطيلوا المد اللحني على حرف الألف في كلمة "هنالك" من بيت "هنالك عند التلال تلال/ تنام وتصحو على عهدنا". وادعى أنهم يشوهون اللفظ العربي وبالتالي اللغة العربية. وأثار الموضوع في مجلس النواب، لكن أكثرية النواب انتصرت للرحابنة، فقبلها فخري البارودي على مضض. لكنه لم يسكت، بل أخذ في مجالسه الخاصة والعامة يغمز من قناة أحمد عسة مدير الاذاعة بأن هذا يذيع أغاني "المدرسة الرحبانية الهجينة التي تفسد الطرب الأصيل وتعتدي على مدرسة اللون القديم، بصوت المطربة فيروز التي لا تصلح إلا لتلك الأغاني الهجينة".
وتصادف في إحدى المناسبات الرسمية أن التقى فخري البارودي بأحمد عسة وجهاً لوجه، فقال البارودي بلهجة متعالية: "لساك يا أحمد بدَّك تضل تذيعلنا هاللون الرحباني الدخيل؟ مش ناوي تتوب بقى وترجع لمدرستنا الأصيلة؟". وفتقت الفكرة لأحمد عسة أن يواجه الأمر بحنكة الديبلوماسي لا بعنترية الزعيم السياسي، فأجاب فوراً: "معك حق يا فخري بك. كانت تلك غلطة وأنا كنت أنتظر لحظة كهذه أراك فيها لأخبرك أنني عثرت على فتاة دمشقية رائعة الصوت، هي أفضل من يحيي الموشح والموال والدور القديم واللون التراثي الذي تحبه ونحبه كلنا. أحب أن تستمع إليها لتعطيني رأيك فيها".
في اليوم التالي كان فخري البارودي في أحد استديوهات الاذاعة. وكان عسة أعطى تعليماته أن يدير مهندس الصوت، خفية، آلة تسجيل خاصة، فيما يدير شريط "الى راعية":
"سوقي القطيع الى المراعي وامضي الى خضر البقاع
سمراء... يا أنشودة الـ غابات يا حلم المراعي"
وإذا بالبارودي يهز رأسه طرباً طوال دوران الشريط، حتى اذا انتهت الأغنية هتف عالياً: "إي هادا صوت وهيدا غنا وهادا طرب وهادي ريحة الشام عبر التاريخ. مش متل هاديك الفيروز اللي جنابك حامل صوتها وداير فيها وبتذيعها كل يوم من اذاعتنا بالشام".
وبكل هدوء، قال عسة: "يا فخري بك، شكراً لرأيك. ولكنني أود أن ألفتك أولاً الى أن حديثك كله هذا مسجل ورأيك في هذا الصوت بات عندنا بصوتك". فقال البارودي: "طبعاً. وأنا أعني ما أقول". فابتسم عسة وقال: "ولكن هذا الصوت يا فخري بك هو نفسه صوت فيروز الذي يزعجك وتثور ثائرتك عليه. وهذه الموسيقى التي أحببتها هي لعاصي ومنصور الرحباني اللذين تجد موسيقاهما دخيلة". فذهل البارودي وقال: "شو هالحكي"؟، فقال عسة: "نعم. هذه هي الحقيقة. وإذا استمررت في حملتك علينا وعلى الاذاعة وعلى فيروز والأخوين رحباني سأضطر الى اذاعة هذا الشريط على الناس".
ومنذ تلك الحادثة بات فخري البارودي من أشد المتحمسين لموسيقى وأغاني الرحابنة وصوت فيروز، وكانت صرخات آهاته تتردد نافرة من بين كل الجمهور خلال حفلاتهم الدمشقية اللاحقة.
و فيما يلي كلمات هذه الأغنية الرائعة
سوقي القطيع إلى المراعي وامضي إلى خضر البقاعِ
ملأ الضحى عينيك بالأطياف من رقص الشعاعِ
وتناثرت خصلات شعرِكِ للنسيماتِ السراعِ
سمراء يا أنشودة الغابات يا حلمَ المراعي
من فتنة الوديانِ لوّنتِ مراميكِ الخِصابا
وملأتِ هذا المرجَ ألحاناً وأنغاماً عذابا
بين المرابعِ تشردينّ كظبيةٍ وتهوينَ الرحابا
يحكي الغديرُ صدى هواه إذا مررتِ على الغديرِ
ويصفّقُ الشحرور حين ترفرفينَ على الصخورِ
تهوينَ قمّات الجبالِ النُسمِ أوكارَ النسورِ
وتسامرين معاطف الوديانِ في السفحِ النفيرِ
وعلى مصبّ النبعِ في الحنوات لاح خيالُ راعي
كوفيةٌ بيضاء تسبحُ في المرابعِ كالشراعِ
يشدو يقولُ وصوته الداوي يهيم بلا انقطاعِ
سمراء يا أنشودة الغابات يا حلم المراعي. 
ملاحظة من فينكس: الحادثة سبق أن رواها أيضاً الراحل الكبير منصور الرحباني