كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

موسى بن ميمون.. التوراة والعقل والفلسفة

مروان حبش- فينكس:

يُقال أن حياة العقل مزيج من قوتين، أولاهما ضرورة الإيمان ليستطيع الإنسان الحياة، والأخرى ضرورة الاستدلال ليستطيع التقدم. وتكون إرادة الإيمان هي المسيطرة على العقل في عهود الفقر والفوضى، أما في عهود الثراء فإن القوى الذهنية تبرز إلى الأمام لتفرض على الناس الرقي والتقدم. وعلى هذا فإن الحضارة في انتقالها من الفقر إلى الثراء تنزع إلى خلق النزاع بين العقل والإيمان، والصراع بين العلم والدين. وفي هذا الصراع تعمل الفلسفة على التوفيق بين الأضداد وإيجاد سلام وسط لأن وظيفتها هي أن ترى الحياة في كلتيها، ونتيجة ذلك هي أن يحتقرها العلم ويرتاب فيها الدين. وفي عصر الإيمان حين تجعل الصعاب الحياة شاقة لا تحتمل بغير أمل، تميل الفلسفة إلى الدين، وتستخدم العقل في الدفاع عن الإيمان، وتصبح ديناً متنكراً. وأكثر ما ابتعدت الفلسفة اليهودية عن الدين عند اليهود في الأندلس الإسلامية.
كان بعض المفكرين اليهود يرى أن الدين والفلسفة متشابهان في محتوياتهما ونتيجتهما، وأن كل ما يختلفان عليه هو الوسيلة والصورة: فالذي يعلمه الدين بوصفه عقيدة موحى بها من عند الله تعلمه الفلسفة على أنه حقيقة يثبتها العقل. وقد قام ابن ميمون بهذه المحاولة في بيئة إسلامية، وأخذ معلوماته عن الفلسفة اليونانية من التراجم العربية، ومن شروح المسلمين.
بقي افتتان الناس بالعقل، وظلت آراء أرسطو تغزو الدين اليهودي، وبلغت ذروتها بالشك، وسيبدأ ابن ميمون فلسفته من هذا الموقف الأرسطاطيلي ويواجه في شجاعة ومهارة جميع مشاكل العقل في صراعه مع الدين.
ولد موسى بن ميمون عام 1135 بمدينة قرطبة، وكان من الأقوال المأثورة عند اليهود: (لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلى موسى)، وأصبح من أحبار اليهود الذائعي الصيت، فبرع في آداب الدين وآداب التوراة، والطب، والعلوم الرياضية، والهيئة، والفلسفة. وكان ثاني اثنين هما أعلم أهل زمانه، ولم يكن يضارعه في العلم إلا ابن قرطبة الثاني وهو ابن رشد.
لما استولى الموحدون عام 1148 على قرطبة، خيَّروا المسيحيين واليهود بين الإسلام والنفي، فغادر ابن ميمون اسبانيا في عام 1159، وأقام في مدينة فاس تسع سنين مدعياً أنه مسلم، وثم هاجر إلى فلسطين، ثم انتقل إلى الإسكندرية عام 1165، وبعدها إلى القاهرة، هرباً من المخاطر التي يلاقيها غير المسلمين في المغرب، وبصفته من أعظم أطباء عصره، اختاره نور الدين علي أكبر أبناء صلاح الدين طبيباً خاصاً له وللقاضي الفاضل االبيساني وزير صلاح الدين، وفي القاهرة ألف معظم كتبه باللغة العربية، ونصح بدرس الفلسفة لأنها تدرب على الاتزان العقلي والخلقي وعلى الهدوء وهما الصفتان اللتان تؤديان إلى صحة الجسم وطول العمر.
كان من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم، وقد أغفل في كتابه الأشهر "مشنا التوراة" بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بالفأل والطيرة، والتمائم، والتنجيم.
ويتضح من كتابه "دلالة الحائرين" أنه لم يكن من الذين يجهرون بالإلحاد، بل إنه قد حاول جهده لكي يرجع المعجزات الواردة في التوراة إلى علل طبيعية، ولعله كان يرى أن لا قيام للنظام الاجتماعي بغير الاعتقاد في قدسية أصل القانون الأخلاقي، وارتضى دون عناء عقوبة الإعدام التي يفرضها التوراة جزاء السحر، والقتل، ومضاجعة المحارم، وعبادة الأوثان، والسرقة بالإكراه، وعصيان الأبناء للآباء، وخرق حرمة السبت. ولعل حالة اليهود المضطربة والمزعزعة في أوروبا المسيحية أو في شمالي أفريقية المسلمة تبرر وضع هذه القواعد الصارمة لعلها تخلق فيهم النظام والوحدة.
غضب أحبار اليهود من كتاب "مشنا التوراة"، الذي جعل من ابن ميمون أعظم اليهود في عصره، فقلما كان في وسع أحد منهم أن يغفو عما يرمي إليه من إحلال كتابه محل التلمود. واتخذ أحد الأحبار من كتاب ديني اسمه "التقاليد السرية" وسيلة لإبعاد اليهود عن تزعة الن ميمون العقلية.
وأصدر عام 1190، باللغة العربية، وبعد عشر سنين من الكد، أشهر كتبه كلها وهو "دلالة الحائرين" الذي أثار عاصفة من أشد العواصف الذهنية في القرن الثالث عشر.
يقول في مقدمة هذا الكتاب إن غرضه الأول هو أن كثيراً من ألفاظ التوراة إذا أخذت بمعناها الحرفي تصبح عقبة كؤوداً في سبيل المخلصين لدينهم، ولكنهم إلى هذا يحترمون العقل أعظم مواهب الإنسان، وأولئك يجب أن يخيروا بين الدين بلا عقل أو العقل بلا دين، وإذا حدث تعارض بين العقل والوحي الإلهي، فسببه أخذ بعض العبارات الموائمة للعقلية الخيالية التصويرية، بمعناها الحرفي، وهي من خصائص السذج غير المتعلمين الذين وجهت إليهم التوراة، وكمثال، فإن قصة الخلق يفهمها المتعلمون فهماً مختلفاً عن فهم غير المتعلمين.
ويستنتج ابن ميمون، مما في الكون من شواهد التنظيم المحكم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون، وإذا كان لابد من وجود الله، فإن وجوده متلازم مع جوهره. و(الشيء الذي يحتوي في ذاته على ضرورة وجوده، لا يمكن أن يكون لوجوده علَّة أيّاً كانت)(1) . وإذا كان الله عقلاً، فلا بد أن يكون غير ذي جسم، وعلى هذا فإن كل ما ورد في التوراة من عبارات تشير إلى شيء من أعضاء الجسم أو أية صفة من صفاته يجب أن يفسر تفسيراً مجازياً. ويحذو حذو المعتزلة بقوله (إننا لا نستطيع معرفة شيء عن الله إلا أنه موجود). وإذا قيل في التوراة إن الله "كلم الأنبياء، فليس لنا أن نتخيل لفظاً أو صوتاً، والنبوة هي تنمية المخيلة إلى أقصى درجات النماء"، وهي فيض الذات الإلهية عن طريق الحلم أو النشوة الإبصارية، فالذي يقصه الأنبياء لم يحدث في الواقع وإنما حدث في هذه الرؤيا أو الحلم، وعلينا أن نفسره تفسيراً مجازياً. ولقد قال بعض حكمائنا في وضوح إن أيوب لم يكن له قط وجود، وإنما خلقه الشعراء خلقاً ليكشفوا بهذا عن أهم الحقائق. وهذا الإلهام التنبؤي في مقدور أي إنسان إذا نمَّى مواهبه إلى أقصى حدود النماء، ذلك بأن العقل البشري إلهام مستمر، لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن بصيرة الأنبياء الواضحة الساطعة.
يفسر ابن ميمون قصة الخلق الواردة في سفر التكوين تفسيراً مجازياً رمزياً: فآدم هو الصورة الفعالة أو الروح، وحواء هي المادة المنفعلة وهي مصدر كل شر، والأفعى هي الخيال. ولكن الشر ليس له وجود ذاتي موجب، إنما هو انتفاء الخير، وترجع معظم مصائبنا إلى ما نرتكبه من أخطاء. وبالنسبة لخلود الإنسان يقول: (إن النفس التي تبقى بعد الموت ليست هي النفس التي تعيش في الإنسان حين يولد). والذي يبقى بعد الموت هو "العقل الفعال" الذي وُجد قبل الجسم، وليس وظيفة من وظائفه على الإطلاق. ولقد أنكر ابن ميمون في كتابه "مشنا التوراة" فكرة بعث الجسم وسخر من الذين يصورون الجنة تصويراً جسمانياً أبيقورياً، وقال إن تصويرها على هذا النحو في الإسلام واليهودية ليس إلا تمثيلاً لها بما يناسب خيال جمهرة الناس وحاجاتهم. وأضاف في كتابه "دلالة الحائرين" إن الروح غير المادية التي تبقى بعد فناء الجسم ليست بذات إدراك فردي بعكس العقائد الأساسية في الإسلام واليهودية القائلة ببعث الأجسام. وسفَّه رجال الدين من يهود ومسلمين هذا الكتاب لأنه "يهدم أركان جميع الأديان بنفس الوسائل التي يخيل إلى الناس أنه يدعمها به.
لقد كان لكتاب "دلالة الحائرين" تأثيره في العالم اليهودي تأثيرأً انقلابياً، كما كان له تأثيرٌ في العالمين الإسلامي والمسيحي، وكانت تراجم لاتينية له تُدرس في جامعتي منبليية وبدوا، ويقتبس منه أساتذة جامعة باريس، ومع أن الفيلسوف اسبينوزا كان ينتقد التفسير المجازي للتوراة الذي يقول به ابن ميمون ويصفه بأنه محاولة غير شريفة للمحافظة على منزلة التوراة، ولكنه كان يصفه بأنه "أول من جهر بأن الكتاب المقدس يجب أن يواءم بينه وبين العقل". وأتى على الناس حينٌ من الدهر أصبح فيه تطبيق آراء أرسطو على التوراة واستخدام المجاز والاستعارة في تفسيره استخداماً كببراً، ورفض ما ورد في كتب اليهود التي شملت عجائب التنجيم وأن النجوم حروفاً هجائية وكتالات في السماء خفية لا يستطيع قراءتها إلا المطلعون على أسرارها في السماء، وأن الحروف الهجائية العبرية الثلاثة والعشرون حددت الصور والأشكال التي يستطيع بها العقل البشري فهم عملية الخلق، كما رفض ما جاء في التوراة من القصص والقول بأنها غير صحيحة من الناحية التاريخية، وكمثال فإن قصة إبراهيم وسارة ليست إلا خرافة تمثل المادة والصورة. وبدا أن صرح الدين اليهودي كله يوشك أن ينهار على رأس أحبار اليهود الذين قالوا: (بأن التوراة بيع للإغريق). وشنوا حملة على المحاولة التي تهدف إلى إحلال الفلسفة محل التلمود، ونددوا بأفكار ابن ميمون، ورفضوا أفكاره، وقام الكاهن سليمان بن أبراهام من يهود منبلييه بصب لعنته على كتب ابن ميمون الفلسفية، حتى أنه وشى إلى محكمة التفتيش في منبلييه بكتب ابن ميمون وقال إن فيها آراء خارجة على الدين وشديدة الخطورة على المسيحية وعلى اليهودية معاً، وأحرقت جميع الكتب الفلسفية التي أمكن الحصول عليها في احتفال عام منبلييه عام 1234، وفي باريس عام 1242. وامتدت هذه الحملة إلى المسيحية التي أخذت تدافع عن نفسها ضد العقلية، بتحريم كتب أرسطو وابن رشد في الجامعات.
توفي ابن ميمون عام 1204، وهو في التاسعة والستين من عمره، ونقلت رفاته إلى فلسطين، ودفن في مدينة طبرية
مروان حبش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)لقد صاغ ابن سينا هذه القضايا المنطقية، وأخذها عنه القديس توما الأكويني، ثم، كيفها الفيلسوف سبينوزا، حتى توائم فكرة الهيولى الذاتي الوجود.