كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

جولة في فضاء الصوفية

مروان حبش- فينكس:

لا تلبث الأديان جميعها مهما يكن نبل أصولها، من أن تُحشر فيها طائفة من الخرافات لا صلة بينها وبين مبادئها الأولى، وإنما تنشأ بطبيعتها من العقول التي خيم عليها وأنهكها تعب الجسم ورهبة الروح في كفاحها للخلود.
لقد بُسِط، في العصور الوسطى، على الحقيقة، من قبل بعض رجال الأديان التوحيدية كلها، ستارٌ من آلاف الخرافات، وصوروا التاريخ تصويراً مسرحياً بما أدخلوه من المعجزات ومن البشائر والتدبر، وملأوا الهواء بالملائكة والشياطين ومارسوا فنون السحر وتلاوة الرقى والتمائم، وأخافوا أنفسهم وأولادهم بالحديث عن الساحرات والأغوال، وأضافوا ظلمة النوم وغموضه لما وصفوه من تفسير الأحلام، وتبينوا في الكتابات القديمة خفايا باطنية.
وتكتنف بحار الصوفية جزائر العلم والفلسفة أينما كانت، ذلك أن العلم يطلق الآمال، ولا يستطيع أن يتحمل عبأه راضين إلا مَنْ أسعدهم الحظ.
قَبِل المسلمون من أهل السنة الصوفية في حظيرة الدين الإسلامي، وأفسحوا لها مجالاً كبيراً في عقائدهم وأقوالهم.
يرجع التصوف الإسلامي إلى أصول كثيرة، منها نزعة الزهد عند فقراء الهندوس، وغنوسطية (2) مصر والشام، والأفلاطونية الجديدة عند اليونان المتأخرين، وتأثير الرهبان المسيحيين المنتشرين في جميع بلاد المسلمين.
يرفض الصوفيون فكرة وجود وسيط أيَّاً كان بينهم وبين الله، وحتى فروض الصلاة الصارمة نفسها كانت تبدو لهم عقبة تحول بينهم وبين تلك المرتبة التي تسمو فيها الروح بعد أن تتطهر من جميع مشاكلها الدنيوية حتى تشاهد ذات الله العليَّة، فإذا سمت فوق هذه المرتبة استطاعت أن تتحد مع ذات الله نفسها. وهذا ما كان عليه حال الصوفي ابن منصور الحلاج، الذي قُبض عليه لمغالاته في عقيدته الصوفية، وضُرب مائة سوط وألقي في النار حتى مات سنة 922 م، يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا جسدا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
ويقول: (إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود ..... أنا الحق).
ويعتقد الصوفي أن نظاماً صارماً من التطهير لا بد منه لكي يتكشف عنه الغطاء ويرقى إلى عالم الفيض والإلهام. والتطهير يكون بضروب من التفاني في الطاعات، والتأمل والنظر والتدبر، والصلاة، وإطاعة المريد لأستاذه الصوفي أو معلمه، والتجرد الكامل من جميع الشهوات البدنية، بما فيها التجرد من شهوة النجاة، والاتحاد الكامل مع الله. والصوفي الكامل يحب الله لذاته لا رغبة في ثواب ولا خوفاً من عقاب. ومما يروى عن رابعة العدوية (717- 801) م، هذه المناجاة الصوفية الذائعة الصيت: (إلهي إن كنت عبدتك خوف النار فأحرقني بالنار، أو طمعاً في الجنة فحرمها عليَّ، وإن كنت لا أعبدك إلا من أجلك فلا تحرمني من مشاهدة وجهك. إلهي{كل ما قدرته لي من خير في هذه الدنيا أعطه لأعدائك، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لأصدقائك، لأني لا أسعى إلا إليك وحدك).
ويعتقد الصوفي أن من وصل إلى هذه المرتبة أصبح فوق كل القوانين، وغير ملزم حتى بأداء فربضة الحج، وفي ذلك يقول أحد المتصوفة: (إن كل العيون تتجه نحو الكعبة، أما عيوننا فتتجه نحو وجه الحبيب).
كما يعتقد الصوفي، أن الله يفتح للإنسان باباً بعد باب وأولها باب التوبة ثم يأتي بعدها باب اليقين فإذا بلغه وعلم علم اليقين مصدره، يفتح له الله بعدئذ باب الحب، ويقول دوماً في نفسه: "أحب"، ثم يفتح له باب التوحيد، وعندئذ يدرك أن الله كل شيء وأن كل شيء منه وإليه، ويعرف أنه غير محق في قوله "أنا" أو "لي"، لأن الرغبات تتساقط عنه فيتخلى عنها ويهدأ باله. إن الإنسان لا يفر من نفسه إلا إذا قتلها، "إن نفسك تبعدك عن الله، وليس شيء يعتمد على المخلوقات، بل يعتمد كل شيء على الخالق". إنَّ عليك أن تعرف هذا، فإذا قلته فاثبت عليه، والثبات معناه أنك إذا قلت واحداً، فلا تقل اثنين أبداً قل الله واثبت على هذا القول. وإن سألته: (لمن يكون جمالك؟) فيقول: (لي، لأنه لا موجود سواي، أنا الحب، والمحبوب، والحب كله في واحد، أنا الجمال، والمرآة، والعينان اللتان تريان).
والصوفي عادة يتخذ هذا النظام وسيلة يصل بها إلى معرفة الأشياء معرفة حقيقية، ومنهم من يتخذه نهجاً يرتفع به إلى درجة من الكرامة تجعل له سلطاناً على الطبيعة، ولكنه يكون على الدوام سبيلاً إلى الاتحاد مع ذات الله، ومن نُفيت نفسه نفياً تاماً مع هذا الاتحاد يسمى عندهم الإنسان الكامل.
لقد خلع بعض الناس على هؤلاء الصوفيين نوعاً من القداسة، ويعزو خيال بعض العامة إلى هؤلاء الصوفيين الأولياء قوى خارقة، فيقولون إنهم قد كُشف عن أعينهم الغطاء فأصبحوا يرون ما لا يراه عامة الناس، ويقرأون الأفكار، ويتبادلون الخواطر والمشاعر مع الناس، ويبتلعون النار والزجاج دون أن يصيبهم من ذلك أذى، وأن يخترقوا النيران من غير أن يحترقوا بها، وأن يمشوا على الماء، ويطيروا في الهواء، ويجتازوا المسافات الشاسعة في غمضة عين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وكان صلاح الدين الأيوبي عام 1191 قد أمر بإعدام الصوفي السهروردي بتهمة الزندقة وتهديد الروح المعنوية الإسلامية.
(2) الغنوسطية: مذهب الاتصال بالله، أو الفناء بالذات