كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الشعوذة واجتهادات العقل في أوروبا في القرنين الـ 16 و17م

مروان حبش- فينكس:

لقد وجدت الأساطير وستبقى أبد الدهر، وسعداء الحظ الذين يحتملون العيش من غيرها، وكثيرون يعانون في أعماق نفسهم، ويقال: إن أفضل عقار مسكن في الطبيعة، هو جرعة مما هو فوق الطبيعة (1). وإن الشعوذة لدى ضعاف العقول عنصر ثمين في قصيدة الحياة، تضيء أيامهم الكئيبة بالأعاجيب المثيرة، وتخفف عن بؤسهم بالقوى السحرية والأماني الخفية
انتشرت الشعوذات الشعبية في أوروبا في القرنين الـ 16م والـ 17م، لقد كانت بأكثر مما يحصيه العد، وأغلبها يدور حول أن الجنيات المؤذية والغيلان والأرواح الشريرة والشياطين تحوم في كل مكان، وثمة طلاسم معينة (مثل التي وجدت عند الملكة كاترين دي مديتشي) تضمن الحظ السعيد، وأنه بالإمكان الحصول على معونة القوى الخارقة للطبيعة بالتعاويذ والرقى، أو بوسائل مشابهة، وأيضاً، يكون التماس معونة الشيطان بملاطفته والتودد إليه، وأن كل حادث هو علامة على رضا الله أو غضبه، أو هو من عمل الشيطان. وكان التنجيم مازال سائداً، على الرغم من تزايد استنكاره ونبذه لدى من يعرفون القراءة والكتابة، وكانت الغالبية العظمى من الناس، وكثير من أفراد الطبقات العليا بستنيؤون البروج عن المستقبل من مواقع الكواكب.
وثمة كتاب صدر في هيدبرج عام 1585، بعنوان "بعض الأفكار المسيحية حول السحر" جاء فيه كحقيقة ثابتة مقررة (إن كل مكان في العالم بأسره في الداخل والخارج، في البر والبحر يعج بالعفاريت والأرواح الشريرة غير المرئية).
وفي عام 1604، أصدر البابا بول الخامس منشوراً أقرَّ عمل القساوسة بالتعاويذ المختلفة، واعتبره خدمات كهنوتية. وكانت كنيسة انكلترة متزمتة بقيمة التعاويذ على أنها طقوس شافية. بينما استنكر البروتستانت مثل هذه الرقى والتعاويذ على أنها ضروب من السحر.
إن أكثر هذا الإيمان بالقوى الخفية نما وازدهر في إنكلترة في عهد الملكة اليزابيت وأول عهد أل ستيوارت في عام 1577. وكاد الاعتقاد بالسحر في انكلترة أن يكون شاملاً، مما دفع الملكة اليزابيث، في القوانين التي سنتها عام 1562، على أن الاشتغال في السحر جريمة عقوبتها الإعدام.. ونشر الملك الإنكليزي جيمس السادس كتاباً بعنوان "الإيمان بالشيطان"، وفيه ينسب إلى السحرة القدرة على ارتياد البيوت، وغرس الحب والبغض، في قلوب الرجال والنساء بعضٌ لبعض، وإثارة العواطف المدمرة. وبرر عقوبة الإعدام لهم، حتى أنه أحرق فيما بين عامي 1560-1600 في اسكتلندة، نحو ثمانية آلاف من النسوة باعتبارهن ساحرات.
وساد الاعتقاد بأن كل الكائنات البشرية يمكن أن "تلبسها الشياطين وتحلُّ فيها"، وفي 1593، ساد الذعر الرهيب مدينة "فريدبورج" الصغيرة بألمانيا حيث قيل إن الشيطان قد حلَّ بأجسام أكثر من ستين شخصاً، وعذبهم عذاباً أليماً، حتى أن قسيس المدينة استحوذ عليه الشيطان وهو يلقي عظته. وكان الناس يلجؤون إلى القساوسة لعمل تعاويذ مختلفة.
واجتاحت جنوب شرقي فرنسا عام 1609، موجة عاتية من الذعر من السحرة، واعتقد عديد من الناس أن الشياطين حلَّت بهم، وأقسم جمهور النظارة أنهم شاهدوا العفاريت على شكل ضفادع تخرج من رؤوس الضحايا. وكذلك كانت الإعدامات في اللورين، وفي ستراسبورج،
وفي لوسرن الكاثوليكية، وفي برن البروتستانتية.
وأيضاً، في النمسا، وفي ألمانيا تسابق الكاثوليك والبروتستانت في إعدام السحرة حرقاً. ويقدر الباحثون الألمان جملة من أعدموا بتهمة السحر بمائة ألف في القرن السابع عشر.
كان الفكر يعيش في متاهة من الشعوذات: (علم التنجيم، دراسة السحرية أو التنجيمية للأعداد، الشعوذة والدجل، السحر...). التي خلقت جواً خانقاً سمم جذور العلم بثماره، حتى أن العالم الفلكي الألماني "كبلر" آمن بالسحر، وكان يقول: (إن الطبيعة هيأت التنجيم للمنجم لتمكينه من العيش). والعالم الفيزيائي الإنجليزي "نيوتن" كتب في العلم أقل مما كتب عن سفر الرؤيا.
في هذا الجو حاول العلم أن يشب على قدميه، واشتدت الحاجة إلى نهج عقلي يمكن أن يعالج النظريات والأفكار، وتوافرت الحياة على مواجهة تلك الحاجات. وارتفعت أصوات قليلة تدعو الناس إلى العقل، وأن من يؤمنون بالسحر والشعوذة أحوج ما يكونون إلى الدواء والعلاج، لا الموت. وفي وسط هذه الموجة العاتية من العنف والضراوة ارتفع في إنكلترة صوت واحد يناشد العقل ويتحكم إليه، هو صوت "ريجنالد سكوت"، وقد نشر عام 1584، في لندن كتابه "الكشف عن السحر"، ووصف "سكوت" الساحرات بأنهن نسوة عجائز بائسات لا يستطعن الإضرار بأحد، وأنهن أولى بالرثاء والإشفاق، وقال إن في نسبة المعجزات إلى هاتيك العجائز الشمطاوات، امتهاناً لمعجزات السيد المسيح. وكان "جوهان فير" قد نشر في مدينة بازل عام 1564، كتابه" خدعة الشيطان" في محاولة التخفيف من الشعوذة بالغة القسوة.
لقد خفت حدة هذه الحمى، وخاصة، عندما تبين للناس أن حرب الثلاثين عاماً هي حرب سياسية أكثر منها دينية، ولم يعد الدين يحتل مكاناً هاماً في كراهية الناس وحزازاتهم.
وفي هذا الجو، أيضاً، ظهر تقدم العلوم أكثر إثارة في جهود النفوس المغامرة أو المولعة بالتحصيل والكسب. وانتشرت الطباعة وكثرت الكتب، ونهضت المدارس، وفتحت الجامعات، وأسهم المكافحون الصابرون بوضع لبنة في بناء العلم والمعرفة، وعلى اختبار الفرضيات بالتجارب. وقلَّ كثيراً نطاق ما هو خارق للطبيعة ببطء، ونما نطاق ما هو طبيعي ودنيوي، كما ساهم الناشرون بنقل المعرفة من عقل إلى عقل، ومن جيل إلى جيل. وبذلت جهود كبيرة في سبيل النهوض بخطط التعليم. وأصبح ينظر إلى العالِم بعين الإجلال والإكبار لأن دراساته الدؤوبة حافظت على مواطن الحكمة والجمال الكامنة في الآداب والفلسفة القديمة وعملت على تنقيتها وتوضيحها. وسعى العلم لتحسين حياة الإنسان على الأرض. وقوض مبدأُ المحاكمةِ العقليةِ أو تكوينِ الرأي الخاص أركانَ العقيدة، وأصبحت القضية في نظر بعض العلماء والفلاسفة، وهم طلائع العقل الأوروبي، هي قضية المسيحية نفسها، وقضية وجود الله.
(1)لقد تنامت الخرافات في جميع المذاهب الإسلامية على السواء، ولقى دجالو الدين، كما لقيت المعجزات الكاذبة، التصديق السريع،
وكان بعض من المسلمين يعتبرون مملكة السحر عالماً حقيقياً.