كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

العرب والمستقبل- ح2

مروان حبش- فينكس:

  إن ظروف التراجع والانكسار، هي البيئة التي تنتج عادة السؤال التاريخي، ما العمل؟
وهذا السؤال هو أحد العوامل التي تؤسس لمشروع النهضة، ما العمل في ظرف الكبوة؟ وعلى الوعي أن يخوض معركة الإبداع بحثاً عن أجوبة كبرى، عن معضلات الهزيمة والتراجع، وعن صور أخرى مستقبلية يتحقق فيها هدف التقدم، هدف النهضة، وكانت بضرورة الأخذ من علوم الغرب وحضارته وتقنياته وأفكاره، أي طرح الانطلاق من اللحظة الراهنة في تطور الحضارة العالمية، وطرح في منطوقه وتياراته الدافعة: الحاضر والمستقبل، الحاضر العالمي طريقا لتغيير الراهن العربي، والراهن العالمي طريقاً لبناء المستقبل العربي.
إن السعي العربي القوي لالتماس أسباب النهضة، كانت لحظات تاريخية: لحظة محمد علي، لحظة الثورة العربية، لحظة عبد الناصر، لحظة البعث، لحظة أبو مدين.....الخ، عملت على "بناء قاعدة صناعية، بناء جيش، بناء وحدة عربية، نشر التعليم، تحقيق الاستقلال الوطني، تحقيق التنمية المستقلة، توفير العدالة الاجتماعية"، ولكن منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، بدا وكأن هناك عملية التفاف وتراجع عن كل ما تحقق، وما كان يفكر به في لحظات النهضة، بأشخاصها وأفكارها وقضاياها، وبرزت إلى الواجهة أنظمة أشبه بأنظمة المماليك وملوك الطوائف، كما أن بعض الحكام عاد إلى الأفكار والتنظيمات ما قبل الوطنية، واصطياد المثل الأعلى، والى حلول مشكلات الحاضر في الماضي, وليس في الزمن الحاضر والمستقبل، كل ذلك لتعويض بعض من شرعيتهم المفقودة، وحدث نسيان أو تناسي المنجزات النهضوية التي ذهبت إلى عالم النسيان، وتم القفز فوق العصر والتاريخ وإنجازات العقلانية التاريخية، وهذا أدى إلى تعميق الأزمة بكل مظاهرها وأبعادها، والى مفارقة أدت بالبعض إلى القول: أن الحل ليس هنا.
كان الفشل، بأسباب ذاتية، وبتآمر عليها، وبتدخل استعماري/صهيوني عنيف ألحق ضربات موجعة قاتلة للمشروع النهضوي في سائر محطاته التي قطعها منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن، حتى أن الصهيونية والولايات المتحدة لم تتركا شعوراً بشبهة نهضوية عربية إلا وتدخلتا بعنف وحشي لضربها قبل أن تينع، لتدمير القدرة العلمية والاقتصادية والاستراتيجية وإخراجها من دائرة تهديد الكيان الصهيوني ومصالح الغرب الإمبريالي، وكان عدوان 1967, وتدمير العراق ومن ثم احتلاله، أحدث أعمالهم الشريرة.
ومن البديهي أن إسقاط المشروع النهضوي من الخارج ما كان ليجري بهذه السهولة والسرعة التي جرى بها لو لم تكن قد تهيأت له شروط داخلية مؤاتية، أهمها تآكل الداخل السياسي واهتراؤه، وبالتالي ما عاد في وسعه أن يبدي كبير مقاومة أمام عدوان القوى الإمبريالية.
والسؤال يعاد طرحه الآن، وضمن ظروف أبرز سماتها: الاحتلال الاستيطاني في فلسطين، الاحتلال الأميركي في العراق، تحرك الأقليات الأثنية مطالبة بالانفصال ومستقوية بالأجنبي، استعانة بعض المواطنين بالأجنبي على أنظمتهم وأوطانهم، تعميق القطرية، الأنظمة الاستبدادية بكل تلاوينها في أقطار العرب، نهب وسرقة الثروات العربية من قبل الطبقة الطفيلية الناشئة في عهد الاستبداد، ازدياد اضطهاد الشعب العربي من أنظمته الحاكمة، التجزئة وميكانيزماتها المتجددة والانتقال من طور التجزئة القومية إلى طور التجزئة القطرية، الفساد المنتشر في كل المرافق, طغيان الأصوليات، اضطهاد القوميين التقدميين والتحديثيين والمتنورين العقلانيين والتنكيل بهم، العولمة بكل ما تحمله من نذر... وكل ذلك بعد أكثر من مائة وخمسين عاماً من اطلاعنا على الحضارة الحديثة واستهلاكنا منتجاتها.
إن رغبة العرب بالنهضة لا حدود لها، ولكن من يرى أحوالنا ويعيشها، ييأس من الشفاء وصلاح الحال، ويتساءل: هل أصبحت أمتنا جثة هامدة، ولا يطلب إحياء العظام الرميم؟
إن ظروف التراجع والانكسار تخيم علينا، وممكنات الأمة لا تفسح مجالاً كبيراً.
وإذا وجدنا من يرمي على الطاولة حلولاً واقعية لواقع مترهل (كالوحدة ـ الديمقراطية ـ التضامن) نجد آخراً يقول: إنها مصطلحات رنانة لا تؤخر ولا تقدم؟
ولكن كل تلك الإخفاقات لا تلغي حقائق ما زالت قائمة:
رغم الإخفاق في تحقيق الوحدة، فأنها كرست الفكرة الوحدوية في الوجدان الجمعي وفي الوعي السياسي العربي.
رغم الإخفاق في كسب معركة الديمقراطية وعدم إبلائها الموقع المركزي الذي تستحق في المشروع النهضوي، فإن حركة نضال شعبي ديمقراطي لا سابق لها تعلن أن الديمقراطية مفتاح نهضوي لا غنى عنه لكسب سائر مطالب وأهداف الأمة.
رغم الإخفاق في التنمية المستقلة وتأمين العدالة الاجتماعية، ازداد الوعي بأن غياب التنمية وفقدان القرار الاقتصادي هو أقرب الطرق إلى فقدان السيادة والأمن الوطني، وهذا أسس وعياً حاداً بالحاجة إلى مشروع تنموي وطني وقومي لسد الحاجات وكفالة الحقوق والحد من الفوارق الطبقية الفاحشة.
رغم إخفاق إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني وكيانه الغاصب، وبالمشاريع الاستعمارية الأخرى، تكرست ثقافة المقاومة لتلك المشاريع.
يعود سؤال جديد ليطرح نفسه، لماذا كلما أمدّنا الواقع الموضوعي بتفاؤل بتغيير الأوضاع والأحوال، وبدافع للإرادة، نجد أنفسنا وقد عدنا إلى لحظة البدء, وعلى نحو غريب لامعقول يكاد يشل قدرة العقل على النفاذ إلى حقيقة ما يجري، ولكن لا يمكن للعقل أن يقنع بأن دورات الفشل قدرٌ لا سبيل إلى الإفلات منه، أو بأنه لا يستطيع معرفة الإمكانيات التي تمنع تحقيق النهضة، أو النظر إلى الواقع في جميع أبعاده وتشكيلاته، بما في ذلك الواقع الاستشرافي الخاص بالتطور الذي وصل إليه، وأساليب البحث الجديدة التي تم اكتشافها وتوجب إعادة النظر فيما كان مطروحاً، إذ لا يجوز البقاء في حلم بنشوة ما حققه فكرنا من مكاسب معرفية كما أسداها أسلافنا، فلن يجدي أن نظل مرددين لهذه المكاسب، أو نتخذ منها أنموذجا للعصمة والتقديس يمنع من تجشم عناء البحث في الكشف عما تنطوي عليه من أخطاء وثغرات، عبر عملية منطقية مؤداها أن ما هو صحيح، تكون الممارسة المعرفية لأجهزته التوليدية متفقة مع الواقع ومشتقة منه، وغير ذلك، إذا لم تكن على اتفاق واتساق مع الواقع، يقع فيها خطأ جذري يترتب عليه نتائج ومضامين خاطئة.
كما أن الضرورة التاريخية، هي المعيار لتمييز الواقع العقلي عن الواقع اللا عقلي، لذا فان الاحتفاظ بما لم يعد عقلانياً، أو الدعوة إلى بعثه هو موقف لا عقلي، وغدا مع الزمن فكراً محافظاً لأنه محدد بواقع تاريخي معيّن.
إن قضية النهضة هي قضية الضرورة للتغيير والتحديث، أي هي كيفية دخول مجتمعنا العربي مدار العصر، ورحاب الحضارة الحديثة، وتحوّله من مستهلك وتابع، إلى منتج ومشارك في صوغ وصناعة الحضارة والثقافة الحديثتين, أي، تحوّله من مجتمع متخلف إلى مجتمع متقدم.
على المشروع النهضوي العربي أن يتفاعل مع بيئته، بأهدافه وعناوينه وقواه التي تحمله، أي أنه رؤية متسقة، ويكون ثمرة تفاعل أبناء الأمة مع واقعهم وتطلعهم إلى تغييره وتحقيق أهداف رسموها لنضالهم، كما لا يمكن فهم السيرورة نحو النهضة إلا بدءاً من «اللحظة» حيث يبتعد «ما سوف نعمل» بشكل دائم عن كل التجارب التي حدثت حتى الآن، والتوجه النوعي نحو المستقبل لا يكون إلا بمقدار ما تسبغ تجربة النهضة على أفق التجربة الراسخة في الماضي بشكل متين وعلى الواقع المعاش، صفة جديدة تاريخياً.
والحداثة ليس بإمكانها ولا برغبتها استعارة المعايير التي تسترشد بها من عصر آخر، لذا فان وشائج القربى التي تربط النظرة إلى عصر النهضة وأحلام معظم مفكرينا المعاصرين دليل على أن الكثير لا ينظر إلى الراهن العربي إلا من خلال تلك العدسات النهضوية، بدل إعادة النظر بإمعان في المشروع النهضوي العربي في كليته وفي سائر لحظاته لا في بعضه أو في لحظة منه فقط هي لحظة المآل.
إن أهم ما يجب علينا عمله هو أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، لأن ما يفصل بيننا وبين القدماء من السنين يجعل شعار العودة إليهم شعار إفلاس، وأن ظروفاً جديدة نشأت في العالم المحيط بنا، وتحتاج إلى استنباط جديد، وإلى بحث الحقائق، وإلى الإجتراء والتفكير، ويقول بارا كيلسوس 1493 (إن القدماء ليسوا أفضل منا، وهم لا يعرفون مقدار ما نعرف، وإن دراسة القدماء نافعة، لكن دراسة الطبيعة أفضل منها).
يتبع