كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

العرب والمستقبل- ح1

مروان حبش- فينكس

مازال العرب يعانون من الدخول إلى الحداثة والمعاصرة، وهناك أسباب عديدة تمنع تحقيق ما يصبون إليه، منها أسباب ذاتية تتعلق بالتمسك بالموروث، ومنها أسباب خارجية أهمها أن الغرب يمنعهم من المشاركة أو الدخول في الحداثة، والأمثلة التي منع فيها الغرب العرب من ذلك كثيرة جداً. كما أن البنية الفكرية القديمة التي تعتمد على التأمل كانت قد انهارت بعد الثورة الصناعية، بينما مازال العرب لديهم الكثير من العوامل التي تعود بهم إلى تلك البنية الفكرية التأملية.
إن الذي يحث ويدفع المخلصين لأمتهم ووطنهم للبحث عن عوامل يمكن أن تسهم في تغيير الوضع العربي المأساوي المخيم، حالياً، على واقعنا وتغييره والنهوض بواقع الأمة، هو مجموعة التناقضات والتحديات الموضوعية التي بلغت من النضج مبلغاً يعجز الوضع العربي الراهن الوقوف أمامها، بينما يتطلب منطق التاريخ حلها ومواجهتها، وينادي هذا المنطق بضرورة توفير العوامل اللازمة لتحقيق ذلك الحل وهذه المواجهة.
هذه التحديات والتناقضات تنطلق من جميع مجالات الحياة وتشملها، سواء الروحية منها أو المادية أو الفكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، وتشترك جميعها في أنها تحديات وتناقضات دافعة للإرادة والحياة الإنسانية والاجتماعية.
حاول بعض المفكرين العرب في أوائل القرن العشرين ذلك، كما حاولت بعض الحركات السياسية/الاجتماعية العربية، وذلك تبعاً للزمان الذي كانت فيه، وللمكان الذي عملت فيه، وللمجتمع الذي نشأت فيه وما بلغه من مستوى متقدم أو متأخر، سواء في علاقاته الداخلية أم في العلاقات بينه وبين المجتمعات الإنسانية الأخرى، كل هؤلاء باستثناء السلفيين الظلاميين، حاولوا البحث عن مضامين جديدة للتقدم.
إن الحوارات الكثيرة التي تدور الآن عن النهضة، والحداثة، وعن المستقبل العربي البديل، وعن موقف المجتمع العربي المعاصر من نفسه ومن الغرب، قد بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر -وهي الفترة التي عرفت باسم عصر النهضة- بهدف الانتماء إلى حركة التاريخ الصاعدة، ولا تزال هذه الحوارات مستمرة اليوم، مع تغير الظروف والأزمنة، ولا تزال الـ(هل؟) تطرح نفسها، هل نغير حياتنا؟ هل نغير مجتمعنا؟ هل نصلح من أحوالنا وننهض من كبوتنا ؟. ولكن إلى متى سيبقى طرح الـ(هل؟)، والى متى سنظل حائرين أمام هذه الأسئلة المصيرية المتعلقة بوجودنا وحياتنا ومتى سنجد لها الحلول؟
طُرح السؤال بعد الحملة الفرنسية على مصر مباشرة، وكان ذلك بداية الاستيقاظ، وكان السؤال دليل وعي متقدم وقتها. وأُعيد طرح السؤال مرة أخرى في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي وبصيغة النهضة، وعبر هذا الطرح عن حركة اجتماعية وفكرية جديدة، وكان لحظة متقدمة في مسيرة الوعي الاجتماعي والفكر العربي، ولكنها لم تستطع الكشف عن كل الآفاق المسدودة.
من المعروف أن مفهوم الإصلاح في بداية ظهوره، كان يحمل ظلالاً عثمانية يقوم بها موظفو السلطنة لإصلاحها، ومن بعد أصبح هذا المفهوم عند المتنورين العرب يعني إصلاح حال الولايات العربية تحديداً في نطاق السلطنة العثمانية أولاً، ثم بالاستقلال عنها عندما وضع مصير السلطنة موضع الشك، أي عندما اتضح أن الإصلاح العثماني غير مؤكد وغير ممكن، مما فتح الباب لإعادة الاعتبار لمفهوم الأمة العربية، وظهور النظرية القومية، ومن خلال هذه المستجدات بدأ يتقدم مفهوم النهضة ومصطلحها مكان مفهوم الإصلاح ومصطلحه، ومفهوم النهضة العربية مكان مفهوم النهضة الشرقية، وكان استعمال هذا المصطلح متأثراً بالغرب وبعصر النهضة الأوروبية تحديداً، وغالباً بتأثير الإصلاح اللوثري، والثورة الفرنسية من حيث المضمون، لذا كانت المطالبة بالإصلاح، ومن بعد بالنهضة، تهدف إلى التخلص من حالة التخلف بالنسبة إلى أوروبا والغرب عموماً، ومن ثم الوصول إلى حالة تشبهها من حيث العلوم والفنون والاختراعات وبامتلاك ناصية الشؤون الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي وبناء الدولة, وكان المثال المنشود للنهضة هي أوروبا.
دفع الاحتلال الغربي للوطن العربي إلى اتهام دعاة الإصلاح والنهضة بالإلحاد أو التغريب، ومن هنا كان الوعي في أوروبا وعياً شقياً ممزقاً بين الحاجة إليها والخوف منها، بين تقدمها وأطماعها، وهذا الأمر جعل الموازنة بين أوروبا والعرب /الإسلام، ميدانا لكثير من النقاشات والسجالات التي تحاول أن تفهم أسباب تخلفنا وتقدمهم، أو التي تقارن بين ماضينا الزاهي وحاضرنا التعيس، وهذه المسألة كانت وما زالت من المسائل الأساسية في المجتمع والفكر العربي/ الإسلامي، منذ التغلغل الأوربي وحتى الآن، وبقيت هذه المسألة تحتوي كل المسائل الأخرى.
كان السؤال: هل النهضة قد أصبحت لازمة لأن هناك خللاً ذاتياً أصاب المجتمع فأوجب إصلاحاً، أو صار ضرورياً لأن هذا الخلل نتج عن الهجوم الأجنبي؟
وما الذي ستعنيه النهضة أو الاصلاح؟ أي، هل الأمر ينطلق من وعي بخلل ذاتي حلَّ بالمجتمع؟ وهل هذا الخلل الداخلي ناتج عن السقوط في التقليد، وتعاظم الهوة بين المجتمع وبين الإسلام المعياري؟ كما يقول الإسلاميون، وبالتالي أوجب التصحيح بالإسلام وحده، دون اضطرار إلى اللجوء إلى الغير، أي لا يقتبس من الغير شيئاً يدمج في مشروع الإصلاح، واعتبار الجيل الإسلامي الأول هو القدوة، وهذا يبرهن أن اللاوعي بالتأخر تجاه الأجنبي هو الغالب، وأن التساؤل عما عسى أن يكون وراء تغلبه من أسباب يجب الأخذ بها، كان مسيطراً على عقول أولئك المفكرين، رغم أن البعض منهم سلّم بالتأخر, ولو اعتبره جزئيا، كما سلّم بأن التفوق ليس مادياً، و في هذا الجانب، فقط، يتمثل تأخرنا، أي في (العلوم البرانية)، فالتفوق يرجع أيضاً، إلى نظامه السياسي الضامن للحرية والمقيد للسلطة بالقانون، ويلتقي هؤلاء مع المفكرين الليبراليين من وعي بخلل يرجع إلى الفاصل بين مجتمعاتهم وبين الإسلام من ناحية، وفي انقلاب العلاقة بيننا وبين أوروبا من التفوق إلى الانحطاط، من الناحية الأخرى، وفي التسليم بالتأخر واعتباره أساساً مشكلاً سياسياً راجعاً إلى النظام الاستبدادي السائد.
أدى التركيز على السياسي إلى ضعف الفكر الاقتصادي والاجتماعي في الفكر العربي/الإسلامي الحديث، وكان سببه عدم الإلمام بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي للغرب الحديث، وأيضا، عدم الإلمام بتاريخ النظم السياسية الأوروبية نفسها، وهذا قاد إلى مداولة أفكار انتزعت من سياقها ومن نظامها لتستعمل في الدعوة وفي البحث عما عسى أن يكون قد سبق إليه في المأثور.
كما بذلت محاولات للفعل في التاريخ والدخول إلى الحداثة ولكن من دون القيام بأي مجهود نقدي إزاء بنيتنا الفكرية الموروثة، وغاية ما تم فعله مماثلة مفاهيمنا بالمفاهيم الغربية وكمثال على ذلك قيل: إن الشورى هي الديمقراطية.
إن التركيز على السياسي وإرجاع تخلفنا إلى طبيعة المؤسسة السياسية، وأن الحل يكون في تحويل السلطة المطلقة إلى سلطة مقيدة بأصول العدل الإسلامي، أو سلطة مقيدة بالقانون، قاد إلى اعتبار مسألة الدستور قضية محورية في الفكر السياسي العربي/الإسلامي، وارتبطت نشأة الأحزاب في أقطار العرب _ وذلك منذ قيام الجمعيات داخل الإمبراطورية العثمانية _ بالمطالبة بالدستور، سواء تلك التي طالبت بتحقيق إصلاحات دستورية كطريق لترشيد الأهالي، ليصيروا مواطنين أهلاً للاستقلال، أم تلك التي ربطت بين الدستور والاستقلال في مطلب واحد.
يتبع