كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

غوته ونابليون

مروان حبش- فينكس

لقد تناولت كتابات ومقالات عديدة في ألمانيا وفرنسا، اللقاء بين غوته أكبر شعراء عصره ونابليون أقوى رجالات أوربا العسكريين، واهتمت بتفاصيله وحيثياته، وتناول المؤلف غوستاف سابيت في كتابه "غوته ونابليون" الذي صدر عام 2008، هذا اللقاء من منظور نقدي معاصر لهذه اللحظة، إذْ استحضر السياق التاريخي العام والأبعاد الأدبية له، كما تناول مسألةً إشكاليةً، ألا وهي علاقة المثقف بالسلطة عموماً، وبالسلطة الغازية تحديداً. وكان موقف جوته داخل بلاط فايمار يناصر إقامة علاقة ودية مع المنتصر بدلاً من مواجهته.
في 14 تشرين الثاني من عام 1806هزم نابليون البروسيين في "يينا"، ودخل الجيش الفرنسي إلى مدينة "فايمار"، فنهبوا المحال واحتلوا بيوت السكان، ومارسوا العنف والاغتصاب، واستولى عدد على منزل "جوته"، فاستضافهم وأطعمهم، وحاول بعض السكارى منهم الإساءة إليه. وفي اليوم التالي وصل نابليون إلى المدينة وأعاد النظام إلى نصابه، وأصدر تعليماته بعدم ازعاج "الأديب الكبير جوته العظيم" وبضرورة اتخاذ جميع الإجراءات لحمايته وإخلاء منزله من محتليه، ومكث بعض الجنرالات معه لفترة قصيرة، ثم رحلوا معتذرين مجاملين.
وفي 1 تشرين الثاني من عام 1808 رأس نابليون في مدينة إرفورت عاصمة ولاية تورينجن الألمانية مؤتمراً حضره ملوك، وأمراء، ودوق فايمار الذي كان "غوته" من عداد مرافقيه، وأعاد رسم خريطة ألمانيا، وطلب نابليون إلى غوته أن يزوره في اليوم التالي، وذهب "الأديب الكبير" الذي كان في التاسعة والخمسين من عمره، وأنفق ساعة مع الغازي وكبار أركانه، وهنأه نابليون على عافيته واستفسر عن أسرته، ثم دخل في نقد جريء لرواية (آلام فرتر) التي كانت حدثاً في تاريخ الأدب لأنها عبرت عن العنصر الرومانسي في الحركة الزوبعية التي اتُهم غوته بأنه من أنصارها (الزوبعية، حركة ذات معتقدات وثنية وأحلام رومانسية)، كما عاب نابليون كل دراما شائعة تؤكد على القضاء والقدر، (فلِمَ الحديث عن القضاء والقدر؟ إن السياسة هي القضاء والقدر، ما قول المسيو غوته في هذا؟).
في 6 تشرين الثاني عاد نابليون إلى فايمار واصطحب معه فرقة ممثلين من باريس بهدف التأثير على الرأي العام البروسي، ومثلوا في مسرح غوته مسرحية "موت قيصر" لفولتير، وعقب الحفلة انتحى نابليون بـ"غوته" جانباً وناقش معه هذه المسرحية التراجيدية، فقال: (إن الدراما الجادة تصلح لأن تكون مدرسة الأمراء، كما هي مدرسة للشعب، إنها من بعض نواحيها فوق التاريخ، ويجدر بك أن تصور موت قيصر صورةً أبهى مما صوره فولتير، وبأن قيصر "نابليون" سيُسْعِد العالم لو أن الشعب أتاح له الوقت لإنفاذ خططه السامية، مسيو "غوته" لابد أن تأتي إلى باريس، إنني أوجه إليك هذا الرجاء المشدد، ستتاح لك هناك نظرة أوسع للعالم، وستجد ذخيرة من الموضوعات لأدبك).
وحين مرَّ نابليون بفايمار ثانية عقب تقهقره من روسيا طلب إلى السقير الفرنسي أن يبلغ "غوته" تحياته. وأحسَّ الأديب العظيم أنه في بونابورت قد التقى بـ (أعظم فكر شهده العالم) إلى الآن، وقد وافق تماماً على حكم نابليون لألمانيا، (فلم يكن هناك ألمانيا على أية حال التي هي خليط من الدويلات، أما الإمبراطورية الرومانية المقدسة فقد نفذ قضاء الله فيها في عام 1806)، كما كتب غوته، وبدا له أنَّ من الخير أنْ تتوحد أوربا تحت رئاسة رجل ألمعي كبونابرت، ولم يغتبط بهزيمته في "واترلو". لقد كانت ثقافة "غوته" واهتماماته أشمل وأعم من أن يُتيحا له الشعور بالكثير من الزهو الوطني، وقال وهو في الثمانين من عمره -وكان قد طُلب إليه كثيراً أن يؤلف أغان ذات حماسة قومية- أنَّى لي أنْ أؤلف أغاني الحقد، وأنا لم أشعر بشيء من الحقد، وأنَّى لي، أنا الذي أرى الحضارة والهمجية هما الأمرين الوحيدين اللذين لهما مغزى، أن أبغض أمة "فرنسا" هي من أكثر أمم الأرض ثقافة، أمة أدين لها بقسط عظيم من ثقافتي، إني أرى مسألة الكراهية بين الأمم شيء غريب، وبرأيي أن الكراهية تختفي كليةً في مستوى من الثقافة والمثقفين، ويقف هذا المثقف فوق الأمم، ويحس بأفراح شعب مجاور وبأتراحه كأنها أفراحه هو وأتراحه، وإن هذا المستوى يلائم طبيعتي، ولقد بلغته قبل أن أبلغ الستين من عمري بزمن طويل.
لم يلبي "غوته" دعوة نابليون للانتقال إلى باريس، أو الكتابة عن قيصر، طالما احتضن في ذهنه وفي مخطوطاته موضوعاً أثاره إثارة أعمق حتى من أعظم مستقبل سياسي، ألا وهو صراع النفس لبلوغ الفهم والجمال، وهزيمة النفس بسبب قصر عمر الجمال وروغان الحقيقة، والسلام المستطاع للنفس بتضييق الهدف، وتحقيق الذات، وكتابة كل ذلك في قصة رمزية عصرية وشكل درامي، لقد ظلَّ يعمل على تحقيق هذا الهدف ثمانية وأربعين عاماً في مسرحية (فاوست) التي فرغ من إنجازها عام 1831.
غوته، الذي بدأ في سنوات صباه بحثه الذي امتد طوال حياته في العلم، باهتمام يقظ ولذة تلتهم كل شيء، كما كان في الفلسفة معنياً أشد العناية بتفسير الطبيعة ومعنى الحياة. قال أحد الكتاب عنه: هذا الأولمبي إلى نهاية عمره، يبحث عن التجربة وتحقيق الذات، في شبابه كاتباً، وفي شيخوخته حكيماً، لم يكفْ عن التطور أبداً، وهو القائل: (إن الحكمة السرمدية تجذبنا إلى العلا).