كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الديانة الجاينية وعقيدة التقمص

مروان حبش- فينكس

يورد جواهر لال نهرو في كتابه اكتشاف الهند: (لقد كان الهنود قوماً من ذوي القلوب الخالية من الهموم، مناضلين دؤوبين في البحث عمَّا هو غريب ولغز، مثقلين بالأسئلة الموجهة إلى الطبيعة والحياة البشرية....، وفي دنيا الأفكار، كان هناك نمو مستمر وصراع معظم الأحيان......، تمردت عقول البشر على الكثير مما كان موجوداً، ومن رحم ذلك التمرد خرج التيار المادي القوي والديانتين اليانية والبوذية ....).
حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد وُلد صبي لوالدين ثريين بإقليم "بهار" في الهند، كانا ينتميان إلى عقيدة تنظر إلى العودة إلى الحياة (التقمص) على أنها لعنة نزلت بمن يعود، لذلك أزهقا روحيهما بجوع متعمد، فتأثر ابنهما الذي كان قد بلغ الحادي والثلاثين من عمره مما حدث، واطرح العالم كله وأساليب العيش فيه، وخلع عن جسده كل ثيابه وضرب في أرجاء إقليم البنغال زاهداً متقشفاً، ينشد تطهير نفسه من أدرانها وأن يزداد لسر الوجود فهماً وعلماً، وبعد أن مضى ثلاثة عشر عاماً، أعلنت جماعة من أتباعه أنه "جِنَا" أي القوة، وأنه معلم من عظماء المعلمين الذين يَكْتُب لهم القدر أن يظهروا على فترات دورية ليهدوا شعب الهند سواء السبيل. واختار هؤلاء الأتباع لمرشدهم اسم "ماهافيرا 549- 447 ق.م " أي البطل العظيم، واتخذوا لدينهم اسماً اشتقوه من اسم عقيدتهم، أي "الجاينيين" ونظم "ماهافيرا" طائفة من رجاله يكونون رهباناً عزابا وطائفة من النساء يكُنَّ راهبات عازبات.
أخرجت هذه الديانة عقيدة تنطلق من المنطق الواقعي، إذ وصفوا المعرفة بأنها لا تتجاوز حدود النسبي الذي يقع في الزمان، وليس ثمة حق إلا من وجهة نظر معينة، وهو باطل من وجهة النظر الأخرى. وأن الأحكام كلها محدودة بحدود ومشروطة بشروط، وأن الحقيقة المطلقة تتكشف للبشر المخلصين الذين يظهرون على فترات منتظمة، أو طائفة الـ "الجِنا". وقد قالوا : إنه ليس من الضروري أن نفرض وجود خالق أو سبب أول، والكون لم تسبقه أسباب ولم يخلقه خالق، وهو موجود منذ الأزل، وأن تغيراته وأطواره التي لا نهاية لها ترجع إلى قوى كامنة في الطبيعة، لا من صناعة إله.
لقد أفرغ الجاينييون السماء من إلهها، وعمروها بطائفة من القديسين المؤلهين وراحوا يعبدونهم ويقيمون لهم الشعائر، وأن هؤلاء المؤلهين خاضعون للتناسخ والتحلل، وليسوا خالقين للكون أو سادة عليه يحكمونه بأي معنى من المعاني. كما أن الجاينيين فرقوا بين العقل والمادة في كل الكائنات، ففي كل شيء أرواح كامنة، وكل روح تحيا حياتها بغير شائبة تلام عليها، تصبح روحاً سامية "باراماتمان" وبذلك تنجو من التقمص في جسد آخر، ومن هؤلاء تتكون فئة السادة المعظمين الذين كانوا يعيشون في مملكة بعيدة ظليلة وينعمون بذلك عن كل احتمال يؤدي إلى عودتهم إلى الحياة.
إن الطريق المؤدي إلى الخلاص في رأي الجاينيين، هي توبة تقشفية، والامتناع عن إيذاء أي كائن حي، وعلى الجايني المتقشف أن يأخذ على نفسه عهوداً خمسة: (ألا يقتل كائناً حياً- ألا يكذب- ألا يأخذ ما لم يُعْطَه- أن يصون عفته- أن ينبذ استمتاعه بالأشياء الخارجية كلها). وفي رأيهم أن اللذة الحسية خطيئة دائماً، والمثل الأعلى هو أن لا تأبه للذة أو ألم وأن تستغني استغناءً تاماً عن الأشياء الخارجية كلها، فالزراعة حرام على الجايني لأنها تمزق التربة وتسحق الحشرات والديدان، ويرفض أكل العسل لأنه حياة النحل، ويغطي فمه حتى لا يستنشق مع الهواء أحياءً عالقة فيقتلها، ولا يذبح حيواناً أو يضحي به. والحياة التي يجب أن يزهقها هي حياته دون غيرها. والجاينية تجيز الانتحار، خصوصاً إذا تم بوسيلة الجوع لأن ذلك أبلغ انتصار تظفر به الروح على إرادة الحياة العمياء.
إن قديسي هذه الديانة يجوبون الطرقات عراة الأجسام، ولقد كان غاندي شديد التأثر بالمذهب الجاينيي، ورضي من الثياب بقطعة صغيرة من القماش تستر ردفيه، ولعل الجاينيين يسلكونه في طائفة "الجنا" فيعدونه تجسداً جديداً للروح العظمى التي تتقمص جسداً من لحم على فترات منتظمة من الدهر لتخلص العالم.
والنتيجة، إن الجانيية، كما معاصرتها البوذية، خرجت على الديانة الهندوسية القديمة (الفيدية، البراهمية) وتفرعاتها، وترفض السبب الأول ووجوده، وتؤكد على اللاعنف، وتؤسس منظمات للرهبان المتبتلين. وفي نظرتها قدر من العقلانية والواقعية ترى أن الحقيقة منسوبة إلى مواقف الإنسان، وهي ديانة تؤسس منظومة لمنظومة أخلاقية غير متعالية صارمة تركز بشكل خاص على الجانب الزاهد للحياة والفكر.