وردة بلون الأمل إلى أنور البني

أُبي حسن- السفير- التاريخ: 2005-10-27 | رقم العدد:10234

هما أمران أحلاهما مرّ، فلا إن كان النظام السوري قوياً ستكون علاقته مع مثقفيه صحية وجيدة، وهذا ما أثبتته التجربة السابقة في مراحل <<عزّه>> و<<تجبره>>، ولا إن كان ضعيفاً ستكون العلاقة أفضل حالا. لكن تبقى علاقة السلطة في طور ضعفها مع مثقفي بلادها <<المشاكسين>> تدعو للريبة والحذر والتوجس. فعوامل ضعف أي سلطة أو نظام من شأنها أن تخرجه عن طوره وتفقده أسباب الحكمة والتعقل أو ما تبقى منها أثناء تعاطيه مع المثقفين الناشطين في الشأن العام الذي اعتادت السلطة احتكاره، فما بالنا إذا كان الضعف هنا يترافق مع ضغوط خارجية قد يكون من أهدافها على المدى المنظور ليس تغيير النظام السوري برمته فحسب وإنما تهديد سوريا ككيان ووجود؟
إذا لم يكن من المستغرب أن تفتعل السلطات ذلك المقلب للمحامي الناشط أنور البني، وما يجعلنا نجزم أن الحادثة مفتعلة هو إصرار السلطات وجديتها في القبض على <<المجرم>> على غير عادتها في ملاحقة المجرمين الذين نهبوا الوطن والذين يقامرون الآن بما تبقى له من وجود.
كان اللافت في قضية أنور البني المختلقة سلطوياً هو موضوع التهمة الجديدة في حلتها وطريقة إخراجها، فلم تتهمه السلطات بالتهم التي اعتادت أن تلصقها بأي ناشط، مثل التهمة التي ألصقتها منذ أيام بالدكتور محمود حسين صارم ومن قبله النائب السابق رياض سيف ومن بعده الكاتب حبيب صالح... والتي تنطوي على <<وهن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي والقيام بأفعال بقصد العصيان المسلح ضد السلطات القائمة>> وما شابه، وبمعزل عن أن السلطات القائمة من خلال سلوكها وممارساتها هي من تعمل على وهن نفسية الأمة... إلى آخر المعزوفة السمجة.
تهمة أنور جنائية بحتة، فقد أتته امرأة تطلب توكيله في قضية عقارية، فاعتذر بلطفه المعهود، ثاني أو ثالث يوم تعترضه الموكلة في القصر العدلي، قاذفة بنفسها أمامه على الأرض، لتبدأ بعدها بالصراخ (المشهد الأخير المطلوب تمثيله بغية إنجاز العرض المسرحي /المخابراتي على أكمل وجه). ألم يقل الشاعر نزيه أبو عفش: <<وعندما لن يجدوا لنا تهمة سيتهموننا بقاصر>>، لا غرابة في الموضوع، فقد ذكر موقع الكتروني مقرب من الأجهزة أن المخابرات السورية قد تعمد إلى نشر فضائح أخلاقية لمسؤولين لبنانيين معارضين (يا لأخلاقية التصرف في حال نفذ فعلاً!).
كلنا يدرك نشاط أنور على مستوى الداخل السوري، وهو نشاط قطعاً لا يريح الطغمة الحاكمة، وتورط أنور، فكثّف نشاطه في الفترة الأخيرة، فكان له مشاركته المميزة في انتخابات نقابة المحامين وطرحه مطالب ديموقراطية، وكان له اجتهاده الملحوظ أثناء إعداده لدستور جديد لسوريا سبق أن أعده منذ فترة وعرضه على الرأي العام للمناقشة، وهذا ما لم يرق للسلطات (إذ كيف سيبدي الرأي العام، الموجود للهتاف فقط، رأيه في دستور بلاده؟)، وكان له موقفه الأخير من التسريح التعسفي للقضاة السوريين. هذا النشاط في مجمله أصبح يسبب إزعاجاً لمن اعتادوا تلقين الشعب السوري ترديد معزوفات من قبيل <<بالروح بالدم نفديك يا...>>؛ إذ كيف سيتقبّل من يثقفوننا بثقافة القطيع أن يسمعوا رأياً لا يروق لهم ويناقض ثقافتهم؟ ثقافة <<أمشي الحيط الحيط ويا ربي السترة>>...
<<مع الأسف>> لم يكن أنور من أولئك اللصوص الذين أودعوا ثروات سوريا الوطنية أموالا في بنوك الخارج، ولم يكن من الذين يمتهنون عقد صفقات تقايض الوطن ببقاء سلطة، كما لم تدعُ له والدته المسكينة وهو جنين في أحشائها، فيُعرف برجل أعمال ناجح، فإما أن ينهب ويحتكر وإما أن يطعم أطفال وطنه لحوماً فاسدة ولا بأس من يتفضّل أحياناً على أبناء وطنه بالنفايات النووية الزائدة عن <<حاجة>> الغرب، ولم يقم بتمديد قساطل المياه المسرطنة كي يشرب منها المواطنون...
<<مأساة>> أنور البني أنه لا يتقن لعبة<<الشبح>> ولا <<نملة>> لديه، إذ يمكنك، ببساطة، أن تراه راكباً الميكرو السرفيس (هل سبق أن ركبه أحد أبناء المسؤولين السوريين أو حوارييهم؟)، وغالباً ما يكون جالساً القرفصاء طاوياً ظهره على حقيبته الملأى بهموم الوطن وموكليه، حيث لا يجد مقعداً وقت الظهيرة إذ الزحام على أشده.
حقيقة أصبحت حال المثقف السوري مع نظامه علّة، فلا إن كان النظام قوياً سلم شرّ قوته، ولا إن كان ضعيفاً كان بمنأى عما يترافق مع مرحلة ضعفه ووهنه من هذيانات لن يسلم شرّها ناشط في سوريا. ولمَ العجب؟ ألم يرفعوا بالأمس دعوى بحق المحامي هيثم المالح؟ ومن قبلها ألم يقدهم هذيانهم إلى إغلاق الحدود مع لبنان تحت ذرائع لا تقنع عاقلاً؟ وألم يثكلوا أمهات من وراء تلفيقهم قصة <<جند الشام>> التي لا يعرف مدى صحتها بعد؟
إذاً كان من الطبيعي أن يسارعوا للانتقام من أنور (وسيزداد انتقامهم من الناشطين السوريين طرداً مع ازدياد ضعفهم)، من يدري ربما غداً يحاسبوننا لأننا نكتب في صحف لبنانية، مثلاً؟ والعلم عند الله.
وردة إليك يا أنور تؤنسك في وحشتك، وردة إليك عسى عبيرها يذكّرك وأنت تنتقل من مخبأ إلى آخر أننا نحن أصدقاؤك نحبك بقدر ما قدمت لمجتمعنا ولسوريا من نشاط ساهم في دفع الحراك الذي يريدونه راكداً أبد الدهر كعقولهم الآسنة، وردة إليك نتضامن من خلالها معك نكاية بجلاديك أعداء الحياة والمستقبل، ووردة بنفسج إليك لما بذلته لأجل مستقبل سوريا، وان كنت أعتقد أن لا أمل ولا مستقبل لنا على خارطة لم يتركوا فيها متسعاً سوى للكواسر.