حول »كل هذا الجمال« لإسكندر حبش.. ترى الجمال خير من أن تسمعه

أبي حسن

صحيفة السفير، 16 حزيران عام 2004، والمقال، كما هو واضح، من وحي مقال كتبه الشاعر والمترجم الصدبق اسكندر حبش (الصورة) الذي غادرنا 30 تشرين الأول 2025.

لفت انتباهي سؤالان أثارهما الزميل اسكندر حبش في سياق مقالته <<كل هذا الجمال>> في <<السفير>> (12/6/2004)، الاول منهما: <<من قال لنا ان افكارنا نحن عن الحياة وما الى هنالك من امور، هي الافكار الصائبة، بينما افكارهن لا تستحق منا سوى التأفف والسخرية والتذمر؟>>. لا شك في ان السؤال عميق بقدر ما هو مشروع، اضافة الى كونه ينطوي على صفة التعميم، اذ ينسحب على مختلف جوانب حياتنا العامة من ثقافية وفكرية وسياسية واجتماعية... الخ، وان كان كاتبه قد طرحه في اطار مناقشته موضوعا معينا.
ثمة ما يقف عنده المتمعن في طيات السؤال سابق الذكر، ولئن كان الكاتب قد استخدم ضمير الرفع المنفصل <<نحن>> ما يجعلنا نحار من المقصود بهذه الـ<<نحن>>، لكن لنفترض انه يعني بها طائفة المثقفين (مع يقيني بأن لا أحد منهم يدعي العصمة مهما كابر)، ومن هذا الافتراض سأتساءل: تُرى ألم يكن الاحرى بالزميل حبش لو أكمل سؤاله بطرحه عما هو المعيار الذي يتخذه المثقف اثناء تقييمه لأفكاره ولأفكار الآخرين عن الحياة وما الى هنالك من امور؟ المعيار الذي بوساطته ندرك ان كانت هذه الفكرة (او تلك) منطقية متماسكة او سطحية ساذجة؛ المعيار الذي به نستشف ان كان ما نراه فنا أم ابتذالا؟ ولعلي أضيف (باعتبار ان سؤال حبش يحتمل صيغة التعميم كما أسلفت) اننا من خلال المعيار المستند الى الواقع نستطيع ان نعرف الفرق بين بلد كبنغلاديش (أو اي بلد عربي) ما يزال عبدا لأفكار قرون بادت وبين بلد اوروبي قطع شوطا لا بأس به في مرحلة ما بعد الحداثة. هذا كله ومثله الكثير، يجعلنا نرى ان سؤال حبش، رغم أهميته، جاء عاطفيا لجهة فحوى موضوعه. ومن رحم هذه <<العاطفية>> ولد سؤاله الثاني، المشروع كذلك: <<ومن قال إننا لسنا نحن الحمقى، لأننا ما زلنا نفكر بطرق بائدة لم يعد لها اي مكان في هذا القرن؟>>.
لا أعتقد أننا نستطيع الفصل بين الموضوع والسياق التاريخي الذي جاء فيه، وبهذا المعنى يكون فن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم والسنباطي وسيد درويش... نتاجا طبيعيا لمرحلة عصر النهضة العربية <<الموؤودة>>، تماما كما جاء فن فيروز والرحابنة ووديع الصافي وفريد الاطرش وعبد الحليم حافظ... موازيا لواقع عربي كان فيه اتساع في هامش (الممكن)، بكلمة اخرى كان بالامكان ان يصبح (الواقع الذي كان) أفضل حالا أو أقل سوءا.
من جهة أخرى، هل ثمة حاجة لاجراء مقارنة تعتمد المعايير <<الفنية>> بين من سبق ذكرهم من كواكب لامعة في سماء الفن وبين من تطوع للدفاع عنهم كاتب <<كل هذا الجمال>>؟ وبمعزل عن أن إجراء المقارنة فيه اجحاف بحق سيدة كفيروز أو ام كلثوم، سنجد ان عامل الزمن، في حال اتخذناه قيمة معيارية، يصب في صالح الاولين لا في خانة اللاحقين الذين اتى <<فنهم>> خير ممثل لبؤس الواقع العربي الراهن، مع وجود استثناءات بالتأكيد.
لقد كان من الممكن إبان مرحلة زكريا احمد وأم كلثوم (وما قبلهما بقليل وما بعدهما بقليل) ان يدخل العرب مرحلة الحداثة التي أقصتهم عنها عوامل عدة ليس اولها الانظمة الشمولية وليس آخرها ما منيوا به من هزائم متتالية (لا يعلم عددها الا الله والراسخون في العلم) ما جعلهم ينكفئون الى كهوف عصر الانحطاط العربي، ومن رحم هذا الانكفاء رأى مغنو (كي لا اقول مطربو) الثمانينيات والتسعينيات ومن تلاهم، النور، وقبالة تلك الرؤية ولد ايضا نصفهم الآخر وأعني المستمع السعيد بـ<<نكبته>> بهم، ولأنهم افضل من يمثل مرحلة الانحطاط التي ننعم فيها، ساروا على خطى التقليد الأعمى لكل ما يصدر عن الغرب من فن، ومن غير ان يأخذوا بالحسبان ان للغرب سيرورة تاريخية اين هم (وشركات انتاجهم) منها؟!
ليس جمال من قصد حبش يصرعه وحده، بل يصرعني كذلك، لكن هل يحق لي القول ان ذلك <<الجمال>> ما منعني يوما من خفض صوت التلفاز مكتفيا برؤية جمال الجسد من دون سماع تلك الاصوات التي ما تفتأ تذكرني بأن الامة التي اليها أنتمي تعيش واقعا موغلا في تخلفه أكثر ما يكرسه من يعمل على تزييف الوعي به، وبالتأكيد فإن من يأتي بفن مشوه يحاكي به واقعا كواقعنا لن ينتظر منا سوى التأفف والسخرية والتذمر، هذا اللهم في حال توخينا الإنصاف.
(دمشق)