خالد العظم.. من يعيد له الاعتبار؟
علاء الدين تلجبيني
(يقول السفير الاردني السابق في سوريا اكرم زعيتر أن السفير التركي ذكّر السلطات السورية بأن زوجة خالد العظم أعدّت عريضة مشفوعة بتقارير طبية توضح طبيعة مرضه، وطالبت فيها السلطات بالسماح لزوجها ولها بالخروج من البلاد للمعالجة. فكلف السفير التركي شخصاً له علاقة باللواء زياد الحريري بمراجعته والتوسط للسماح لخالد العظم بترك البلاد لأن حالته الصحية خطرة جداً، فكان جواب زياد الحريري: «وماذا يكون لو نقص آل العظم واحداً؟»)
مثل اليوم في 7 ديسمبر/كانون الأول 1963 تم رفع العزل السياسي عن خالد العظم، آخر رئيس حكومة قبل انقلاب آذار، ومنعت محاكمته أمام محكمة الأمن القومي بعد وساطة من الحكومة التركية، وسمح له بمغادرة السفارة التركية في دمشق نحو بيروت، وكان قد غلبه المرض.
جاء في مجلة روز اليوسف الصادرة في اليوم التالي للانقلاب:
(عندما توجهت القوة المكلّفة باعتقال خالد العظم فجر الثامن من آذار فوجئت باختفائه هو وعائلته).
فقد كان خالد العظم قد لجأ عند صدور البلاغ رقم (1) إلى مقر السفارة التركية، الذي كان في الطابق الأسفل من داره الكائنة في ساحة الروضة بدمشق.
حصل خالد العظم على لجوء سياسي في السفارة التركية، مما منع الجنود من الاقتراب منه. يقول سفير الأردن في سوريا وقتها أكرم زعيتر:
(سألت يومها السفير التركي عن أحوال خالد العظم فقال إنّه وزوجته وابنته والفتاة التي تبناها نزلوا من الطابق الأعلى من مسكن السفارة طالبين اعتبارهم لاجئين سياسيين، فرحّب بهم السفير مبدئياً واتصل بحكومته التي أجابت بقرارها اعتبار هؤلاء لاجئين سياسيين. واتصل السفير التركي بقيادة ثورة آذار، ولكن لؤي الأتاسي أجابه بأنه مشغول جداً ولا يستطيع محادثته، وأحاله إلى مساعده الذي لبّى طلب السفير بإرسال مرافق عسكري لحماية حرمة السفارة. ورغم ذلك لم تسلم السفارة في العاشر من آذار ولا منزل خالد العظم من الرشق بالحجارة وتحطيم النوافذ من قبل متظاهرين توافدوا إلى المنطقة، ولم يتم إبعادهم إلا بإسناد من المصفحات وبعد جهد).
في ذلك اليوم وقفت النائبة عن دمشق في عهد الوحدة ثريا الحافظ، إحدى أعتى السيدات السوريات المؤيدات للناصرية، أمام منزل العظم مطالِبة بتسليمه، وفي يدها حبل أرادت أن تسحله به، كما فعل العراقيون برئيس وزرائهم نوري السعيد يوم الانقلاب على الحكم الملكي سنة 1958.
خلال وجوده في السفارة كان العظم يعاني من عدة أمراض، ويذكر السفير التركي أن زوجته السيدة ليلى أعدّت عريضة مشفوعة بتقارير طبية توضح طبيعة مرضه، وطالبت فيها السلطات بالسماح لزوجها ولها بالخروج من البلاد للمعالجة. كما يذكر السفير التركي أنّه كلّف شخصاً له علاقة باللواء زياد الحريري بمراجعته والتوسط للسماح لخالد العظم بترك البلاد لأن حالته الصحية خطرة جداً، فكان جواب زياد الحريري: «وماذا يكون لو نقص آل العظم واحداً؟»
من داخل السفارة بدأت شبكة اتصالات في مسعى لإخراج العظم نحو دولة أخرى، وقد اختار لبنان. تواصل العظم مع البطريركية المارونية لمساعدته في تأمين ملجأ آمن في بيروت، فكلف البطريرك المعوشي المطران بطرس صفير بمهمة تأمين لجوء خالد العظم في لبنان. ويتحدث صفير في كتابه حارس الذاكرة عن لقائه بالسفير الأمريكي في بيروت، موفداً من البطريرك الماروني، ناقلاً طلب الرئيس خالد العظم باللجوء السياسي، فيما تكفّل الأتراك بمهمة تأمين خروج العظم مع زوجته وابنته من دمشق حتى الحدود اللبنانية.
في شقة سكنية في عين الرمانة وسط بيروت أمضى خالد العظم ما تبقى من حياته، وتوفي في آذار 1965 ودُفن في مقبرة الإمام الأوزاعي. يقول تميم مأمون مردم بيك في كتابه صفحات من حياة عميد الكتلة الوطنية دولة جميل مردم بك:
(زرت قبر خالد العظم منذ سنوات، قبر مهمل مجهول تتراكم حوله الأعشاب الجافة ولا عناية به من أحد).
كان مرسوم العزل السياسي قد صدر عن مجلس قيادة ثورة آذار في 23 آذار/مارس 1963، وجاء في مرسومين: يفرض أولهما جزاء العزل السياسي على رجال الحكم السابق في سورية باعتبارهم «ركائز العهد الانفصالي». أما الثاني فيتضمن أسماء أربعة وسبعين شخصاً وصفهم المرسوم بأنهم استعملوا نفوذهم أو ثروتهم أو سخروا وظائفهم لخدمة الانفصال. وقد صرّح وزير الإعلام جمال الأتاسي بأن هناك قوائم أخرى تتضمن عدداً آخر من الأشخاص سيفرض عليهم العزل، وأن هذه القوائم ستُعلن قريباً.
جاء في المادة الأولى للقرار أن العزل فُرض على الأشخاص الذين جعلوا من أنفسهم ركائز للعهد الانفصالي أو سخّروا وظائفهم في الدولة لخدمته، وكذلك الأشخاص الذين انحرفوا عن مبادئ القومية العربية، ورؤساء الجمهوريات ورؤساء الوزارات ووزرائهم والنواب الذين عملوا على تكريس الانفصال، إضافة إلى الإقطاعيين والرأسماليين والمستغلين الذين تسلطوا على الحكم فزيفوا إرادة الشعب وناصروا الانتهازية والشعبوية والسلطات الانفصالية.
أما المادة الثالثة فجرّدت المعاقب بالعزل المدني من حقه أن يكون ناخباً أو منتخباً في المجالس النيابية والإدارية والبلدية والطائفية والجمعيات والأندية والنقابات. كذلك جردته من حقه في تولي إدارة أي جريدة أو مجلة أو مطبوعة دورية أو وكالة، ومن حقه في أن يكون عاملاً في مؤسسات الدولة أو متعهدًا أو صاحب امتياز في الدولة ومؤسساتها.
شمل العزل جميع رجال الأحزاب والسياسيين والصحفيين، كما شمل عدداً من العسكريين وحتى رجال الاقتصاد والموظفين. لم توفّرهم قوائم العزل، مما جعل عدد المعزولين مدنياً يتجاوز المئتين، واضطر معظمهم لمغادرة البلاد.
صدر القرار في جريدة بردى الدمشقية قبل إغلاقها من المجلس نفسه بأيام، وشمل العزل رئيس الجمهورية الدكتور ناظم القدسي، وكلّاً من رؤساء الحكومات السابقين: خالد العظم، ومأمون الكزبري، وصبري العسلي، ومعروف الدواليبي، ورئيس مجلس النواب السابق أكرم الحوراني، وغيرهم الكثير من رجال السياسة، ومنهم خالد بكداش رئيس الحزب الشيوعي، فيما استثنت قرارات العزل الناصريين والإخوان المسلمين ومنهم عصام العطار أحد قادة الإخوان المسلمين.
صودرت ما تبقى من أملاك خالد العظم وتحولت إلى مؤسسات حكومية عامة، مثل قصر عائلته الشهير في سوق ساروجا الذي أصبح متحفاً للتراث والوثائق التاريخية، ومكتبه الخاص مقابل حديقة المدفع الذي شغله لسنوات طويلة نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام، ومزرعته الصيفية التي تحولت إلى مقر معمل «تاميكو» للأدوية.
أما عن ناظم القدسي فهناك روايتان: إحداهما أنه تم إطلاق سراحه في اليوم الثاني من الانقلاب بشرط أن يغادر سوريا نحو لبنان حالاً، أما الرواية الثانية فهي أن القدسي رُفع عنه العزل السياسي مثل هذا اليوم.
خالد العظم لم يكن وحده؛ كان واحداً من جيلٍ آمن بأن الدولة تُبنى بالمؤسسات لا بالحراب، وبالقانون لا بسطوة البندقية نستذكر اليوم خالد العظم ورفاقه — أولئك الذين دفعتهم البلاد إلى الظلّ طويلاً — راجين أن تنصفهم سوريا القادمة… سوريا التي تستعيد ذاكرتها بعد أن شوهتها العسكرة، وتعيد الاعتبار لمن حاولوا أن يكتبوا فصلاً مدنياً مشرقاً كان يمكن أن يغيّر مسار التاريخ.