الترامبية كجنون مؤسَّس.. من نقد فوكو للعقل إلى انهيار السياسة

نبيل صالح

منذ أن صاغ ميشيل فوكو أطروحته الشهيرة عن تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، غدا السؤالُ عن العلاقة بين العقل والجنون أكثرَ من مجرّد إشكاليةٍ طبيةٍ أو فلسفية، إذ تحوّل إلى نافذةٍ لفهم السياسة نفسها. فالعقل، بوصفه أداةَ سيطرةٍ وتنظيم، لم يكن يومًا بريئًا أو محايدًا؛ بل مارس وظيفته في رسم الحدود بين ما هو معقولٌ وما هو غير معقول، وبين ما يُدرج في النظام وما يُقصى إلى الهوامش (1). غير أنّ انهيار السرديات الكبرى في زمن ما بعد الحداثة جعل هذه الحدودَ نفسها عرضةً للتفكك، فلم يعد الجنون مجرّد “الآخر” الذي ينبغي عزله، بل أصبح جزءًا من نسيج السياسة نفسها.

في تعريف جان فرانسوا ليوتار، تُختزَل ما بعد الحداثة في “الريبة تجاه السرديات الكبرى”(2). وهذه الريبة لم تقتصر على أنظمة المعنى التقليدية – كالدين والقومية والتنوير – بل امتدّت إلى العقل نفسه. فالعقل الذي وعد بالتحرّر واليقين بات يُنظر إليه بوصفه أداةً للهيمنة والإقصاء. ومن هنا فإن محاولة فهم الجنون بأدوات العقل في سياق ما بعد الحداثة تضعنا أمام المفارقة المركزية: كيف يمكن لأداةٍ مشكوكٍ في صلاحيتها أن تدّعي القدرة على استيعاب ما يتجاوزها؟

لقد حاولت الفلسفة المعاصرة الالتفاف على هذه المفارقة بطرائق شتّى. فـجيل دولوز وفيليكس غتاري، في كتابهما “ضد أوديب”، قدّما صورةً للجنون لا كخللٍ أو عجز، بل كطاقةٍ تفجيرية للرغبة قادرةٍ على زعزعة البنى السلطوية (3). أمّا جاك دريدا، فقد ذهب إلى تفكيك الخطاب الذي يفصل بين العقل والجنون، مبيّنًا أنّ هذا الفصل ذاته بناءٌ لغويّ – سلطويّ أكثرُ منه حقيقةً أنطولوجية (4). وهكذا، لم يعد الجنون موضوعًا للدراسة أو الإصلاح، بل غدا مرآةً تكشف حدودَ العقل وسلطته.

لكن الأهم أنّ هذا الجدل الفلسفي لم يبقَ في حدود النظرية، بل خرج إلى صميم السياسة المعاصرة. فما نشهده اليوم من صعود الشعبوية – في أشكالها الأميركية والأوروبية واللاتينية – يُمثّل انتقالَ الجنون من الهامش إلى قلب السلطة. وفي مقدّمة هذه الظواهر تبرز الترامبية، لا بوصفها مرحلةً رئاسية مرتبطةً بشخص دونالد ترامب فحسب، بل كحالةٍ سياسية – ثقافية تجسّد سمات ما بعد الحداثة بوضوح: انهيار المعايير، وسيادة “الحقائق البديلة”، وتحويل السياسة إلى عرضٍ تلفزيوني ضخم، واستبدال العقلانية البراغماتية بخطابٍ غرائزيّ مثير.

قدّم ترامب أنموذجًا لما يمكن تسميته “الجنون السياسي المؤسَّس”. فبينما سعى السياسيون التقليديون إلى تقييد أنفسهم بخطابٍ عقلانيٍّ منضبط، مضى هو في الاتجاه المعاكس؛ جعل من المبالغة، والعدوانية، والتناقض العلني أدواتِ تعبئةٍ جماهيرية. بهذا المعنى، لم يكن ترامب يخالف العقل فحسب، بل وضعَ العقلَ نفسه في خدمة الجنون، محوّلًا اللامعقول إلى استراتيجيةٍ سياسيةٍ ناجحة. إنها النقطة التي وصفها فوكو يومًا بأنها أخطر من الجنون الفردي: حين يصبح الجنون جزءًا من النظام ذاته (5).

الترامبية والصراع السوري

لم يكن أثر الترامبية محصورًا في حدود الولايات المتحدة، بل امتدّ خطابها الشعبوي المتهوّر إلى ميدان السياسة الدولية، ليعيد رسمَ خرائط النفوذ والعلاقات في الشرق الأوسط، ولا سيّما في سورية. فمع تراجع التوازنات التقليدية بين واشنطن وموسكو، وغياب الرؤية المؤسّسية داخل البيت الأبيض آنذاك، تحوّل الصراع السوري إلى ساحة اختبارٍ لسياسةٍ لا تخضع لمنطق العقل الواقعي، بل لمنطق التهوّر والمفاجأة.

لقد ساهمت الترامبية في مفاقمة الصراع السوري عبر ثلاثة مساراتٍ متداخلة:

  1. تسييس الفوضى من خلال دعمٍ غير منضبطٍ لفصائل متناقضة المصالح والأيديولوجيات.
  2. تحويل الملف السوري إلى أداةٍ داخليةٍ في صراع واشنطن مع موسكو وطهران، أكثر من كونه قضيةً إنسانية أو استراتيجية وطنية.

٣- إضعافُ المؤسّسات الدولية التي كانت تسعى إلى ضبط الصراع، وذلك عبر الخطاب العدواني الذي وجّهته الإدارة الترامبية ضدّ الأمم المتحدة وحلفائها في حلف الناتو.

أدّت هذه التناقضات إلى إطالة أمد الحرب، وتوسيع خطوط الانقسام داخل المجتمع السوري، إذ تحوّلت البلاد إلى مختبرٍ مفتوح لتجريب سياسات الجنون العالمي. لم تعد سورية تُدار بمنطق الدولة أو الثورة، بل بمنطق الاستعراض والرمزية والابتزاز السياسي، تمامًا كما تُدار الحملات الانتخابية في فضاء الترامبيّة.

العقل في مواجهة اللا عقل

ربّما لم يعد السؤال اليوم هو: كيف نفهم الجنون؟ بل كيف نحمي العقل من التورّط في جنون السلطة؟

إنّ الترامبيّة، بما خلّفته من فوضى دوليّة وما انعكس منها على الصراعات الإقليميّة، تكشف أنّ العالم يعيش عصرًا بلا مركزٍ ولا معيار. فالجنون لم يعد الهامش، بل أصبح القاعدة الجديدة للّعبة السياسيّة، وأي محاولة لتفسيره بأدوات العقل التقليدي تبدو كأنّها استدعاء لآلياتٍ فقدت فاعليّتها.

غير أنّ الأمل الوحيد قد يكمن في إعادة صياغة العلاقة بين العقل والخيال، بحيث لا يكون الأوّل سجنًا للثاني، ولا يتحوّل الثاني إلى ذريعة للفوضى. ففي زمن الجنون السياسي، يصبح الدفاع عن العقل – لا بوصفه يقينًا بل مسؤوليّةً أخلاقيّة – آخر أشكال المقاومة الممكنة (6).

العقل في زمن البجعة السوداء

في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إنّ العالم المعاصر – من فوكو إلى الترامبيّة وما بعدها – لم يعد يتحرّك وفق منطق السببيّة الخطيّة التي افترضها العقل التنويري، بل بات يخضع لما وصفه نسيم نيقولا طالب بـ “العشوائيّة الجذريّة” و”اللايقين الأسود”. (7)

فالأحداث الكبرى لم تعد نتاج خططٍ مدروسة أو رؤى متماسكة، بل مفاجآتٌ نادرة وغير متوقّعة – “بجعات سوداء”– تعصف بالمنظومات السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة على حين غرّة، فتقلب معادلات السلطة والعقل رأسًا على عقب.

إنّ الترامبيّة ذاتها كانت بجعةً سوداء سياسيّة بامتياز: حدثًا غير متوقَّع من خارج المنظومة، جاء ليكشف هشاشة النماذج العقلانيّة التي ادّعت القدرة على التنبّؤ وضبط المجتمعات. لقد أظهرت كيف يمكن للّا عقل، حين يتغذّى من الإعلام والتكنولوجيا والرغبة الجماهيريّة، أن يتحوّل إلى قوّةٍ نظاميّة تصنع التاريخ أكثر ممّا يصنعه “الخبراء” وصنّاع القرار.

وكما يقول طالب، فإنّ المأساة لا تكمن في المفاجأة ذاتها، بل في عجزنا البنيوي عن إدراك أنّ العالم محكوم بالاحتمال لا باليقين، وبالفوضى الخلّاقة لا بالاستقرار المدروس.

من هذه الزاوية، لا يمكن فهم تحوّلات السياسة المعاصرة – من الحرب السوريّة إلى الانقسامات الغربيّة – إلا بوصفها سلسلةً من “البجعات السوداء” التي تتكاثر في بيئةٍ من الغرور المعرفي، حيث يصرّ العقل الحديث على وهم السيطرة، فيما تتّسع فجوات المجهول.
إنّ العشوائيّة التي يتحدّث عنها طالب ليست خللًا في النظام، بل هي النظام ذاته وقد كشف عن وجهه الحقيقي بعد أن سقطت أقنعة العقلانيّة.

وهكذا، ربّما يكون الدرس الأعمق في زمن ما بعد الترامبيّة هو التحرّر من وهم التنبّؤ، وإعادة تعريف العقل لا كأداةٍ للسيطرة، بل كقدرةٍ على التكيّف مع المجهول، على قبول الفوضى من دون الارتماء في أحضانها. فالعقل في زمن “البجعة السوداء” ليس منارةً لليقين، بل وسيلةً للنجاة وسط العاصفة.

إنّ الاعتراف بالعشوائيّة لا يعني الاستسلام لها، بل بناء وعيٍ مرنٍ يدرك أنّ أخطر ما يهدّدنا ليس الجنون في ذاته، بل ثقتنا المفرطة بأنّنا نعقل العالم حقًّا.

هامش:
استعار نسيم نيقولا طالب في كتابه “البجعة السوداء: أثر اللا متوقَّع على الحياة (2007)” صورة “البجعة السوداء” ليعبّر عن الأحداث النادرة التي تفاجئ العالم وتقلب مسار التاريخ أو الاقتصاد أو السياسة رأسًا على عقب.

فقد كان الاعتقاد السائد في أوروبا لقرونٍ أنّ جميع البجع أبيض، إلى أن اكتُشفت البجعة السوداء في أستراليا في القرن السابع عشر، وهو ما شكّل صدمةً معرفيّة هدمت يقينًا ظلّ قائمًا طويلًا. ومن هنا أصبحت “البجعة السوداء” استعارةً للأحداث التي لا يتوقّعها أحد، لكنّها تُحدث أثرًا ضخمًا ولا يمكن تفسيرها إلا بعد وقوعها، إذ يرى طالب أنّ العالم تحكمه العشوائيّة واللايقين أكثر ممّا تفسّره النماذج العقلانيّة أو التوقّعات العلميّة.

المراجع

  1. فوكو، ميشيل. تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي. ترجمة سعيد بنكراد. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998.
  2. ليوتار، جان فرانسوا. حالة ما بعد الحداثة: تقرير عن المعرفة. ترجمة أحمد حسان. القاهرة: دار شرقيات، 1994.
  3. دولوز، جيل، وفيليكس غتاري. ضد أوديب: الرغبة والرأسمالية. ترجمة منذر عياشي. اللاذقية: دار الحوار، 2008.
  4. دريدا، جاك. الكتابة والاختلاف. ترجمة كاظم جهاد. الدار البيضاء: دار توبقال، 1988.
  5. فوكو، ميشيل. المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن. ترجمة جورج أبي صالح. دمشق: دار المدى، 1994.
  6. باومان، زيغمونت. الحداثة السائلة. ترجمة حاتم صالح الضامن. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2002.
  7. طالب، نسيم نيقولا. البجعة السوداء: أثر اللا متوقّع على الحياة. ترجمة حازم عوض الله. بيروت: دار العلوم للنشر، 2010.
 بوليتيكا