800 مليون ليرة بالخمسينيات.. مما تشكو؟

علي سليمان يونس

كان الزعيم (العميد) حسني الزعيم بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية يتخذ من فندق بلودان أكثر الأحيان مكانا لاستراحته أو اجتماعاته مع المسؤولين والضيوف الأجانب. 

وكان رئيس الشعبة الثانية "شعبة المخابرات حالياً" العقيد (سعيد حبي) يعهد إلى الملازم (سامي جمعة) بتأمين الحراسة غير المرئية للمكان، وذلك قبل حضور الزعيم بساعات. وفي إحدى المرات وصل الزعيم وبرفقته: الأمير عادل أرسلان وصلاح الطرزي حيث جلسوا في إحدى الغرف الداخلية وبعد ذلك دخل الفندق المقدم (إبراهيم الحسيني) قائد الشرطة العسكرية وبرفقته شخص يرتدي بزة مقدم في الجيش السوري، وكان إبراهيم الحسيني المستهتر بكافة الرتب العسكرية بحكم مركزه الأثير لدى الزعيم، يحيط هذا المقدم بمزيد من الاحترام والتبجيل لدرجة انه كان يعمل كرئيس تشريفات يتولى فتح الطريق أمامه. أما بزة المقدم الغريب فقد كان قياسها اكبر من حجمه وكان يسير أمام الحسيني بخطوات مرتبكة وبشكل ملفت للنظر.. 

كان الملازم سامي جمعة يشاهد المنظر من البهو المقابل للمدخل، وعندما تفرس بوجه المقدم الغريب -الذي كان شاربه مقصوصاً على طريقة هتلر -.... قال في نفسه هذا الشخص ليس من الجيش السوري، ومع ذلك فإن هذا الوجه ليس غريبا عليّ. وبعد دخول الحسيني والمقدم المزعوم إلى غرفة الزعيم, دخل إلى غرفة صهره توفيق الحبوباتي مدير الفندق ليأخذ كاسا من الويسكي. فالتفت الملازم سامي إلى الملازمين الأولين: عبد الحميد السراج واحمد الحنيدي- اللذين كانا قد أُلحقا بحاشية الزعيم المرافقة له، وسألهما عن هذا المقدم فأنكرا معرفته. استمر الاجتماع حوالي اربع ساعات تخلله غداء عمل، بعده استُدعي الحسيني إلى غرفة الاجتماع ثم خرج برفقة الغريب وهو يحيطه بمظاهر الاحترام والتبجيل، ثم ركبا سيارة الحسيني التي كان يقودها بنفسه. 

وفي مساء ذلك اليوم، أخبر الملازم سامي رئيس الشعبة الثانية بكل ما جرى وعندما وصف له المقدم أحضر رئيس الشعبة مجلة أمريكية تحمل صورة (شاريت)، وكان في ذلك الحين يدعى شرتوك، فقال له سامي: انه الشخص نفسه الذي كان برفقة الحسيني. 

بعد أسبوع تقريبا من هذا الحدث تلقى العقيد سعيد حبي أمرا ثانيا لتحضير فندق بلودان لاستراحة الزعيم، لأن الزعيم سوف يتناول الغداء في بلودان، عند ذلك استدعى العقيد حبي الملازم سامي جمعة وكلفه بتأمين الحراسة وشدد عليه بضرورة الاتصال به هاتفيا إذا جاء المقدم المجهول. وفي حوالي الساعة الحادية عشرة وصل الزعيم وبرفقته الأمير عادل أرسلان وصلاح الطرزي ومعهما الجنرال التركي (فؤاد اورباي) ثم وصل (مايز كوبلاند) من عناصر محطة ( c I A) والملحق العسكري الأمريكي بدمشق، وبعد ذلك بنصف ساعة تقريبا وصل إبراهيم الحسيني ومعه المقدم إياه.. فأوصله إلى غرفة الاجتماع وانسحب إلى غرفة أخرى كان فيها العقيد جودت شقير والملازم أول عبد الحميد السراج.

ومن فندق مجاور هتف الملازم سامي إلى رئيس الشعبة الثانية واخبره بوصول الجميع ثم عاد مسرعا إلى الفندق. تنكر رئيس الشعبة بزي عامل تنظيفات وتوجه بسرعة البرق إلى فندق بلودان، واخذ المكنسة، وبدأ يتظاهر بتنظيف الممرات المحيطة بالفندق حتى انفضّ الاجتماع وخرجوا على التوالي حيث شاهدهم جميعا.

في المساء استدعى العقيد حبي الملازم سامي وأوصاه بالكتمان بعد ان أكد له ان المقدم المزيف هو (موشي شاريت -وزير خارجية الكيان في حينه). بعد عدة أيام شكل العقيد حبي وفدا من الضباط كان من بينهم: "عزيز عبد الكريم، أمين النفوري، توفيق نظام الدين، أديب الشيشكلي.." حيث ذهبوا إلى بيت الزعيم وتحدث العقيد سعيد حبي قائلا: {سيادة الزعيم لقد علمنا انك تتفاوض مع اليهود، برعاية أمريكية وتركية، وإننا نريد منك جوابا صريحا حول هذا الموضوع}.. تملص الزعيم في بادئ الأمر.. ثم ما لبث أن قال لهم: {{ إنني أضحك عليهم، ولقد طلبت منهم 800 مليون ليرة سورية مقابل الصلح.. وقد عرضوا مبلغ 400 مليون ليرة سورية سوف نأخذها ونشتري بها أسلحة ثم نعود لمحاربتهم وتحرير فلسطين!}}.

والجدير ذكره أن أخطاء الزعيم (ولستُ بصدد تعدادها الآن) تتالت وادت إلى الإطاحة بحكمه الذي استمر 137 يوما فقط....